كم من الجهد والمال كانت تكلفة المهمة الكيميائية السياسية لتحويل الاطياف في العالم العربي بالتحديد الى طوائف ؟ قد يعيدنا هذا السؤال الى تقارير استشراقية واستخبارية مبكرة نسبيا منها ما نشره برنارد لويس وما اوصى به بول فولفويتس نائب وزير الدفاع الامريكي، اضافة الى ما قامت به سفارات مثقلة بالارث الكولونيالي بحيث يتصور السفير احيانا انه المندوب السامي في هذه العاصمة العربية او تلك! ان ما يضيف بعدا دراماتيكيا للتزامن بين مئوية سايكس بيكو وما يجري الآن هو ان الاسماء قد تتبدل لكن حروفها تبقى لاتينية، وكذلك الذرائع، فما كان ذات يوم فواتير ومديونيات كما فعلت بريطانيا مع مصر اصبح الان باسم حقوق الانسان والديمقراطية، حتى لو كانت الادوات التي يستعان بها لتحقيق هذا الشعار ريعية وتعيش في حقبة ما قبل الدولة . لقد تعايشت الاطياف في قوس قزح قومي على نحو مثير لقلق من كان رهانهم الدائم هو التفرقة والتشطير من اجل تسهيل السيادة، فالاوطان التي حققت درجة لا بأس بها من التعايش بين مختلف الاطياف تتحول الآن الى كسور عشرية وما كان تقسيما اصبح الآن شيئا آخر هو لو شئنا الدقة التذرر، وهذا يعيدنا على الاقل الى كتاب اشبه بالموسوعة صدر قبل عقود بعنوان اقليات في خطر لمؤلفه تيد روبرت جار، حيث بدت تلك الموسوعة التي تضم مائتين وثلاثين اقلية كما لو انها دفاع استباقي عن اقليات تتعرض لافتراس الاكثريات، وحظي العالم العربي بنصيب وافر من تلك الموسوعة، بحيث بدت تضاريس الوطن العربي طائفية بامتياز، وخطوط الطول والعرض فيها اثنية ومذهبية، وثمة اطروحات ذات ظاهر انسانوي تذكرنا بمقولة الحق الذي يراد به جملة من الاباطيل وليس باطلا واحدا، لكن ما هي الوصفة النموذجية لتغذية الهواجس ذات الجذر الطائفي، انها باختصار العزف على اشد الاوتار حساسية لدى البشر وهو الوتر القومي وبالتالي الهويّات التي تم تصويرها كما لو انها مردة في قماقم . واذا كان العراق هو المثال بل الامثولة في هذا السياق فإن ما انتهت اليه الدراما العراقية يفضح المقدمات والنيات كلها، حيث لم يتم غزوه وتدميره واعادته الى القرن التاسع عشر بمائة الف غارة كما قال الجنرال شوارتسكوف من اجل الديمقراطية، ويعترف من سمي الحاكم المدني للعراق بريمر بأنه عزف بمهارة على هذا الوتر، وكأنه يذكرنا بهنري كيسنجر عازف الاكورديون البارع الذي اعتصر خاصرتي العراق قبل اربعة عقود حين ابتز النظام كي يقبل بفك الاشتباك بعد حرب اكتوبر 1973 وفي الوقت نفسه ابتز الاكراد واعتصرهم . وقد لا نحتاج الى خيال سياسي جامح كي نتصور ما الذي كانت ستنتهي اليه تضاريس الوطن العربي السياسية لو ان المخططات واستراتيجيات التفكيك قد اكتملت، وعلى سبيل المثال ما الذي كان سيؤول اليه المشهد لو ان الدولة المصرية ذات العمر المديد الذي يتجاوز السبعة آلاف عام قد اصبحت ميليشيات، فاستراتيجية التفكيك والاسقاط هي ايضا الوصفة الكولونيالية الجديدة لما يمكن تسميته ملشنة الدولة، وبالرغم من افشال هذه الاستراتيجية تحديدا في مصر الا ان المحاولات لا تزال مستمرة، لكن باستراتيجية يسميها فقهاؤها من الجنرالات الانجلوساكسونيين قضم الاحشاء، او التجريف بحيث تنتهي كتلك السمكة العملاقة في رواية العجوز والبحر لهمنجوي، والتي بالرغم من تحولها الى هيكل عظمي قال المؤلف ان الانسان قد يسحق ويجرّد من لحمه وعظمه ونخاعه ايضا لكنه لا يهزم، ولحسن الحظ نجت مصر من هذا المصير .فكانت بمثابة الرافعة لنجاة دول اخرى، وهذه حكاية تطول لها مقام آخر! ولا ادري لماذا تجاهل الاعلام العربي والميديا الكونية ما انفرد به الشعار اللبناني في حراكه وهو الهتاف المتواصل ضد الطائفية وضد تحويل الوطن الى دكاكين والدولة الى كسور عشرية ذلك لأن ما يمكن تسميته الاقطاع السياسي يؤدي بالضرورة الى المحاصصة وبالتالي يتفوق الانتساب الى قبيلة او طائفة على الانتماء الى الوطن، اما ثنائية الكفاءة والولاء فانها تنتهي حتما لصالح الولاء . واذا كان لكل تضاريس مقياس رسم فإن التضاريس الطائفية تحتكم الى عدة مقاييس بسبب تعدد المرجعيات، والحاسوب الذي تم ترشيحه لرسم هذه التضاريس واستبدال الاطياف بالطوائف لا يعرف من الرياضيات غير فعاليتين فقط هما الطرح والقسمة، اما الجمع فهو خارج المعادلات كلها . ان كثيرا من المطارحات والسجالات السياسية والاعلامية التي تتناول هذه الظاهرة يغلب عليها التكرار اضافة الى خطاب خافت الضوء والصوت معا ويرشح منه الاحباط، وكأن ما حدث قد حدث، وما من سبيل لتدارك ما تبقى. وهنا لا بد من التفريق الحاسم بين ما يقوله المثقف المنوط به الكشف والتغيير وبين الندّابة المحترفة التي تنتقل من مأتم الى آخر وتبكي بدموع لا تنبع من الرأس او القلب، ولدينا من القرائن والحيثيات ما يكفي لأن نقول بصوت جهوري إن الاحتفال المئوي بسايكس بيكو على الطريقة الكولونيالية لم يكتمل، وان عبارة شكسبير الشهيرة وهي ما زال هناك بقية من الرحيق تليق بالمشهد العربي رغم ما يعج به من اطلال وخرائب وما يغطي آفاقه من رماد ودخان، لكن اين هو النحل الدؤوب الذي يصل الى بقية الرحيق، هل هو المثقف الرهينة الذي يقول ان الارض تدور ولا تدور في اللحظة ذاتها، ام المواطن الذي يحاول استعادة البوصلة التي اختطفت منه . . فما اشبه الليلة بالبارحة، وكل ما تغيّر هو اساليب المراوغة التي تمارسها الثعالب، فهي لن تعدم الذرائع لافتراس ما يمكن لها ان تنقض عليه، ولدى العرب من التجارب المريرة ما يكفي لتلقيحهم ضد كل المراوغات، فالافعى الصماء كما يقال لا ترقص على ايقاع المزمار كما يتصور انصاف العميان، بل هي تحاول لدغ اصابع العازف ، ويليق هذا المثال بما تبثه الميديا المؤدلجة والمدججة بالشعارات حيث تسعى الى تخدير الضحية وتدويخها بثقافة تم تصنيعها للتصدير في مختبرات الدوائر الاستخبارية ومعاهد الاستراتيجية التي رأت في العربي مجرد فأر ابيض لاجراء التجارب ذات المرجعيات الاستشراقية . وما يجري الآن بكل فظاعته وفظاظته ليس وليد السنوات الخمس الاخيرة، انه يمتد الى ما قبل ستة عقود على الاقل، ورغم رنين الاجراس التي قرعها مثقفون اعلنوا العصيان على السبات القومي الا ان الصمم حال دون سماعه . ومن ليس لديه خيل يهديها ولا مال في هذه الحرب التي قد تكون الاخيرة والفاصلة عليه ان يلوذ بالصمت . لمزيد من مقالات خيرى منصور;