حين أصدر خلدون النقيب استاذ علم الاجتماع كتابه «فى البدء كان الصراع» عام 1997 لم يَكُن الانفجار الاثنى قد بلغ هذا المدى، ولم يكن العالم العربى قد استنقع الى الحد الذى تندلع فيه المكبوتات كلها على اختلاف أنماطها من الطبقى الى الاثنى والمذهبى وليس انتهاء بالجسدى . كما ان احداث الحادى عشر من سبتمبر عام 2001 لم تكن بأرجاعها واصدائها الزلزالية قد شطرت التاريخ الحديث الى ما قبلها وما بعدها.لكن نذر كل ما جرى خلال الخمسة عشر عاما الماضية كانت قد بدأت فى الأفق. والطرشان وحدهم من لم يسمعوا نعيب البومة الهيجلية، فى الغسق، ينطلق النقيب من رؤية تتلخص فى أن جدل الدين و الأثنية والأمة والطبقة عند العرب ليس طارئا فهو من صميم التاريخ الانسانى ومن صلب مفاعيل الصراع فيه، لهذا فإن عبارة فى البدء كان الصراع، تشمل اجناسا وشعوبا غير العرب، وهذا ما انتهى اليه واحد من ابرز مؤرخى عصرنا هو ويل ديورانت صاحب قصتى الفلسفة والحضارة، يقول ان التاريخ حرب مستمرة، وما يمكن أن يسمى مجازا فترات السلم فيه هو مجرد استراحات محاربين، لاعادة شحذ الاسلحة واحصاء الغنائم أو الهزائم. وما افرزه الواقع العربى خلال العقد الماضى من نزاعات اهلية و صراعات بين الهويّات الفرعية لم يكن نبتا شيطانيا، بل هو حمولة تاريخية وتراكم كان لابد من انفجاره فى لحظة ما. وبمعنى اخر فإن الأفاعى باضت فى التاريخ منذ زمن طويل لكنها فقست عندما وجدت الحاضنة المناسبة . لكن الاجراس التى قرعها مفكرون وتنويريون من مختلف اقطار العرب بدءا من مصر التاسع عشر لم يصل رنينها الى المرسل إليه، ربما لأنه اصيب بالصمّم عن كل صوت لا يردد صدى صوته أو لأن تحالف العوامل الخارجية من استعمار وانتداب ووصاية مع الكومبرادور المحلى أدى الى ان تذهب تلك الصيحات سدى على طريقة لقد اسمعت لو ناديت حيا لكن لا حياة لمن تنادي. ان مجمل ما يجرى الان فى العالم العربى الذى حمل ذات يوم اسما اخر هو الوطن العربى يوظف بمهارة استراتيجية لاعادة هذا الوطن الى ما قبل الدّولة، ومصطلح ما قبل الدولة كما يحدده علماء الإنثربولوجيا ومنهم بيير كلاستر يعنى النسيج القبائلي، والأعراف المهيمنة البديلة لأى قانون. ولو أخذنا العراق مثالاً بعد احتلاله عام 2003 لوجدنا أن المثال تحول الى أمثولة، وما انجزه بريمر بدءاً من تفكيك الدولة والجيش بشكل أخص كان حلما استشراقيا سبقه إليه بول فويتس فى تقاريره الشهيرة عام 1979 وبرنارد لويس وأخرون . وكان الهدف ميتا استراتيجى اكثر مما هو استراتيجى بالمفهوم الكلاسيكي. بحيث تصبح التجربة العراقية قابلة للعوربة وقد يكون هذا المصطلح هو الأدق فى التعبير عن الحالة الموازية و احيانا المرادفة للعولمة فى اشد ابعادها سلبية. فالعولمة عندما استخدمها ماك لوهان فى مطلع السّتينات من القرن الماضى كانت تعنى عولمة الاعلام وما افتضحته الصورة المتلفزة خلال الحرب الفيتنامية، لكن الحرب الباردة التى وضعت اوزارها لصالح الرأسمالية فى ذروة توحشها أدت الى أن يكون مصطلح العولمة مرادفا للأمركة بالمعنى الذى حدده روزفلت فى خطاب شهير قال فيه ان قدر بلاده هو أن تؤمرك العالم . ان اطروحات من طراز اطروحة د. النقيب المبكرة نسبيا كانت بمثابة اطروحة مضادة لما قاله فرانسيس فوكوياما فى نعيه للتاريخ بأنه بلغ نهايته وما حاول تكريسه على نحو آخر هانتجتون فى كتابه صراع الحضارات وقد ملأ الاثنان الدنيا وشغلا العالم لعقد من الزمن، قبل أن يعيدا النظر فى آرائهما، وبالتحديد صاموئيل هانتجتون الذى نشر مقالة يمكن وصفها بالاستدراكية فى مجلة الفورين افيرز الامريكية قال فيها ان امريكا تحترف اختراع الأعداء. وهى حين لا تجدهم بحجم مارد كالاتحاد السوفيتى السابق تحاول أن تحشد عدداً من الاعداء الصغار، ويذكرنا ما قاله هانتجتون فى هذا السياق بعبارة شهيرة للفرنسى بول فاليرى هى ان الأسد أو النمر فى نهاية المطاف هو قطيع خراف تم افتراسها وهضمت وتمثلت. لكن امريكا لم تستطع الحصول على الأسد الناتج عن حاصل جمع قطيع الخراف أو الماعز، وتلك بالطبع حكاية أخرى . واذا صح أن الصراع كان فى البدء فى التاريخ وما قبله من خلال تجليات عديدة ومختلفة تحددها أنماط الأنتاج والثقافات والايدولوجيات فالصراع مستمر ايضا حتى الخاتِمة، لأن المصالحة بين الأضداد فى التاريخ أو حتى فى الطبيعة ليست حلما قابلا للتحقيق، ما دام هناك فائض ثروات و فائض مديونيات و توظيف سياسى للاديان و العقائد بحيث تصبح مبررا لحروب بلا نهايات . ان ما نشهده فى عالمنا العربى على مدار اللحظة و ليس السّاعة فقط كما يقال هو افراز غدد تقيحت منذ زمن بعيد، و حصاد ثقافة كان المسكوت عنه فيها أضعاف المعلن، والامثولة العراقية تفرض نفسها فى هذا السّياق، فالاحتلال تبعا للوصفة الاستشراقية التى قدمها بول فويتس أو برناد لويس لا يجد طريقا معبداً لدبابته فى أى بلد غير النزاعات الأهلية وتغذية الهويات الأثنية والفرعية البديلة للهوية الأم. واذكر أن كاتباً فرنسياً قال لى بالحرف الواحد بعد شهور من احتلال العراق، ان الوَصفة التى حددت للعراق بتعدد طوائفه وأعراقه لا يمكن تكرارها مع مصر، ليس فقط بسبب التجانس، بل لان ادبيات الكولونيالية و تقارير المستشرقين أكدت للغرب منذ ثورة عام 1919 أن مصر تحتشد و تتحول الى مصّدٍ قوى باسل ازاء الغزو الخارجى لهذا فالوصفة المصرية هى التفكيك من الداخل، وهى استراتيجية استعمارية اطلق عليها ذات يوم قضم الأحشاء. وقد جربت عينات من تلك الوصفة لكنها لم تنجح لهذا بدأ التفكير بسبل وأساليب أخرى . من حذرونا و قرعوا الأجراس قبل أن تقع الفؤوس فى الرؤوس ارتطمت اصواتهم ورنين اجراسهم باللامبالاة والصّمم السياسي. فهل سيكون الرهان فى المرحلة التالية على تجريف الثقافة القومية وتفكيك الدولة بعد أن يصبح الزهايمر السياسى وباءً بلا أية أمصال؟؟ لمزيد من مقالات خيرى منصور