كان علينا ان ننتظر عامين على الأقل منذ اندلاع الشرارة التونسية من جسد البوعزيزى الذى تحوّل من بائع متجول الى عنقاء تخلق من رمادها حراكا عربيا غير مسبوق كى نستطيع غرز اصابعنا فى الصلصال كما يقول النحّاتون، ونبتعد قليلا عن واجهة المشهد كى نراه، خمسة كتب على الاقل صدرت فى هذه الآونة الحرجة عن حراك عربى تعددت اسماؤه وإن كان الربيع أكثرها شيوعا وتداولا، منها ما حمل عنوانا صريحا هو «الربيع الأسود» للكاتب الاماراتى عبد العزيز المطوّع والذى تساءل عن هذا الحراك هل هو ظاهرة ام فصل من فصول تجفيف الأمّة ؟ ومنها ما كان اشبه بالتحليق العالى على الحدث بحيث يحاول رؤيته بانوراميا لكن بعيدا عن التفاصيل التى تسكنها الشياطين كما يقال . وهنا لا بد من التذكير بأن المصطلحات والاسماء التى تطلق على الأحداث يجب عدم الاستخفاف بها ومنها على سبيل المثال اطلاق اسم «النكبة» وهو مستعار من معجم كوارث الطبيعة على كارثة تاريخية وانسانية هى احتلال فلسطين عام 1948، بحث بدت هذه التسمية كما لو انها اعفاء للبشر من عبء المسئولية، ومصطلح الربيع لا يخرج عن هذا السياق، فقد اطلق للمرة الأولى على احداث اوروبية فى القرن التاسع عشر وتحديدا عام 1848 بعد فترة قصيرة من صدور البيان الشيوعى لماركس، ثم اعيد اطلاق هذا المصطلح على احداث براغ عام 1968 فى سياق مضاد، ليس فقط ضد بيان ماركس الشهير بل ضد ثورة اكتوبر وما نتج عنها من تكوّن الاتحاد السوفيتى، هكذا خضعت المصطلحات للنوايا وفقدت حياديتها، وما يدفعنا الى القول بأن مصطلح الربيع العربى استشراقى ومترجم هو ما قدمه برنارد ليفى تحت عنوان الربيع وما اسهم فيه ميدانيا فى اكثر من عاصمة عربية عندما كان يقف امام الكاميرات على الأطلال والخرائب التى أحدثتها الفوضى غير الخلاقة، بل المدمّرة التى سعت الى تحقيق عدة استراتيجيات تستهدف تقسيم الوطن العربى واعادة رسم خطوط الطول والعرض فى تضاريسه السياسية فى ضوء معايير طائفية واثنية، وهناك موقفان استراتيجيان يجب البدء منهما، اولهما ما كتبه برنارد لويس عن عالم عربى يقسّم الى اكثر من ستين دويلة بحجم ومساحة اسرائيل حتى من الناحية الديموغرافية، كى يتحول الوطن العربى الذى تجاوز عدد سكانه الثلث مليار الى عدة اسرائيلات، وبالتالى يغيب عن مستقبل المشروع الصهيونى خطر ما يسمى فى الادبيات العبرية الكتلة العربية المتماسكة، وكان اول تمهيد لهذا هو ما حاوله هنرى كيسنجر من خلال ما سمى فك الاشتباك مع العرب مُتباعدين فى سبعينات القرن الماضى . ما تصوره برنارد لويس وأكمله برنارد آخر هو برنارد ليفى ان سايكس بيكو التى شطرت الوطن العربى كالكعكة مضى عليها تسعة وتسعون عاما وهذا الرقم يعتبر فى الأدبيات الكولونيالية مدة انتفاع تماما كما حدث فى قناة السويس التى لم يكن قد تبقى على الامتياز او مدة الانتفاع الاستعمارية غير عشرة اعوام فقط عندما قرر الزعيم الراحل عبد الناصر تأميمها، وحين قيل له إن انتظار عشرة اعوام اخرى قد يحل المشكلة بدلا من التأميم باهظ التكلفة اجاب بأن ذلك مجرد رقم ولن تلتزم به قوى السّطو والهيمنة وأثبتت الايام ان الرجل كان محقا. وحين نعود اليوم الى عام 1979 الذى شهد جملة من الاحداث التى نعيش تردد زلزالها حتى الآن ومنها الثورة الايرانية وتوقيع اتفاقية كامب ديفيد ووصول صدام حسين الى رأس السلطة اضافة الى بداية طرق امريكا لبوابات الصين، فى ذلك العام أصدر بول فويتس نائب وزير الدفاع الامريكى تقارير لم يهتم بها من اصابهم الزهايمر السياسى وكوفيء برئاسة البنك الدولى كما كوفيء من قبل ماكنمارا، لكنه خسر منصبه بفضيحة، ومن هذه التقارير ان هناك بلدين عربيين يجب ان يفككا هما مصر والعراق، لكن تفكيك العراق لا يكون من داخله بعكس تفكيك مصر الذى لا يأتى من الخارج لأن مصر كما تفيد التقارير الاستشراقية منذ اللورد كرومر تتوحد اذا تعرضت للغزو، وهناك تجربتان على الاقل هما ثورة 1919 التى تبادل فيها شيوخ الاسلام والقساوسة المنابر ورفعوا شعار الهلال مع الصليب، والتجربة الثانية هى العدوان الثلاثى الذى وحّد المصريين باستثناء باشوات تصوروا ان العدوان سوف يتيح لهم استعادة الحكم . ولعله من المؤسف بحق ان معظم الاطروحات العربية التى حاولت رصد وتحليل الحراك الشعبى الذى اسقط نظما لم تتنبه الى جذور هذا الحراك فى التراب العربي، ومن فعل ذلك هو كاتب اسبانى له اهتمامات واسعة بالشجون العربية والاسلامية هو «خوان غواتسلو» وقد قرأ هذه التحولات العاصفة فى ضوء مقدمة ابن خلدون وليس فى ضوء ما بشّرت به كونداليزا رايس وتولاه برنارد لويس وبرنارد ليفى وآخرون . ما حدث ولا يزال مستمرا هو انفجار خمسة مكبوتات على الأقل تفاقمت وتنامت كالآورام الخبيثة فى باطن الواقع العربى بدءا من المكبوت النفسى والتربوى والطبقى حتى المكبوت السياسي، والمكبوت السياسى هو الجزء الناتيء من جبل الجليد ولو كان وحده هو المحرك للاحداث لما نُهبت متاحف ودُمّرت آثار واحرقت دور عبادة وتعرضت مؤسسات الدولة والبنوك للنهب . تلك المكبوتات انفجرت دفعة واحدة وأتاح لها ذلك ما يمكن وصفه بالشيخوخة السياسية لنظم متهالكة تسلل اليها المال ليكون هناك زواج غير شرعى بين السلطة ورأس المال وإن كان هذا الزواج انتهى الى طلاق بائن بينونة كبرى فى بعض الاقطار كمصر . وهناك معنى آخر للربيع فى بُعده الاستشراقى يعبّر عنه مَثَل انجليزى هو ان طائر سنونو واحد يلوح فى الآفق يكفى لإعلان الربيع، ونحن فى العالم العربى شاهدنا الغراب الأشقر برنارد ليفى يحاول طرد السنونو من آفاقنا وما لاح هى البومة التى تحدّث عنها هيجل الفيلسوف حين قال انها تظهر لحظة الغروب فى الغسق، فهل اختلط الأمر علينا فلم نفرّق بين الغسق والشفق لأن الشمس كما الحقيقة تكون فى هاتين اللحظتين فى مكان آخر ! الحراك العربى على اختلاف منسوب حرارته بين بلد وآخر هو حراك أصيل ودوافعه تاريخية واجتماعية واقتصادية بامتياز، لكن اختطافه كان وما يزال تهديدا باعادة انتاجه كى يتحول الى ربيع مُترجم يحقق توقعات رايس وسائر السلالة حول شرق اوسط كبير هو طبعة امريكية منقّحة من الشرق اوسط الجديد الذى صوّره شمعون بيريز قبل اعوام بأنه يوتوبيا اى مدينة فاضلة واتضح العكس، فهذا النمط من الشرق الأوسط هو ديستوبيا اى مدينة راذلة . ما يجب الاعتراف به اولا وقبل كل شيء هو ان الربيع المترجم اوقفته مصر، وبالتالى حالت بقوة واصرار وطنى وتاريخى دون تحويل الوطن العربى الى دويلات يحكمها ملوك طوائف ! لمزيد من مقالات خيرى منصور