كانت الحرب الباردة قد وضعت آخر أوزارها عندما بدأت معاهد استراتيجية ومراكز أبحاث أمريكية بتكليف أكاديميين وناشطين سياسيين فى العالم الثالث برصد الاقليات الإثنية تمهيدا لصراعات نشهد اليوم ذروتها والنموذج الأبرز فى هذا السياق هو موسوعة الأقليات فى العالم والتى ألّفها تيد روبرت جار بدعم من برنامج جينتج لاند لوف للسلام العالمى وتضمن الكتاب الموسوعة مئتين وثلاثين أقلية على امتداد العالم وان كانت حصة الشرق الأوسط من تلك الأقليات لافتة للانتباه على نحو استثنائى . وفور صدور الموسوعة تنبّه بعض المثقفين فى العالم ومنهم عرب الى خطورتها، ولكونها تعمّق خطوط الخلاف والتباين فى مجتمعات كانت الدولة فيها تستكمل عناصرها، والمواطنة تحل فيها مكان الهويات الفرعية. ولم تكن موسوعة روبرت جار هى الفريدة فى هذا المجال، لكنها الاكثر اعتناء بالتفاصيل وبتجذير الصراعات الاثنية، فقد مهّد لها وتزامن معها ايضا منذ التسعينات من القرن الماضى اطروحات استشراقية تحاول اخفاء دوافعها الكولونيالية وحقيقتها بأقنعة انسانوية بحيث تبدو مهمتها لأول وهلة انقاذ الأقليات التى تعانى اضطهادا وقد تكون كتابات برنارد لويس مجرد مثال، وليست أمثولة، فهو من بقايا الاستشراق الكلاسيكى الذى بشّر جاك بيرك بنهايته وأصدر بيانا ينعى فيه هذا الاستشراق لتحل مكانه دراسات اكاديمية تحركها المعرفة المجردة، لكن ما حدث بالفعل هو أن هذا الاستشراق الذى تمت عسكرته منذ احتلال افغانستان ومن بعدها العراق، عاد الى منابعه وأقرب مثال الينا الدور الذى لعبه برنارد هنرى ليفى فى ليبيا تحديدا، وما انتهى اليه المشهد من تدخل حلف الناتو وتفكيك ليبيا بحيث تحولت من دولة الى ميليشيات وهذا كله تم تحت عنوان غير مُعلن هو «مَلْشَنَة» الدول والعودة الى ما قبلها، أى الى المكونات القبائلية والطائفية والعرقية. والمريب فى موسوعة الاقليات هو الاشارة منذ المقدمة الى اربع اقليات هى الأكثر معاناة فى العالم وهى على التوالى: البوسنيون والاكراد وشيعة العراق والأفارقة السود فى جنوب افريقيا، والتركيز المبكر على اكراد العراق وشيعته جاء فى وقت كان اكراد العراق قد تمتعوا فيه بحكم ذاتي، ولم يكن الشيعة اقلية عددية، كما ان الدولة العراقية بكل مكوناتها فى تلك المرحلة خاضت حربا لثمانى سنوات ولم يكن جيشها ومجمل كوادرها من السُنّة الخالصة، فنائب رئيس الجمهورية كان كرديا وكذلك عدد كبير من القادة السياسيين والجنرالات كانوا من الاكراد والشيعة. لكن ما شجّع المشرفين على هذه الموسوعة هو حرب الخليج الثانية التى كان شعارها المعلن اخراج العراق من الكويت، أما الممارسة الميدانية فهى اخراج العراق من العراق، وهذا ما عبّر عنه الجنرال شوارتسكوف حين قال ان مئة الف غارة جوية بمقدورها ان تعيد العراق الى القرن التاسع عشر. وما تعانيه طوائف واثنيات كمسيحيى العراق والصابئة والايزيدية الآن هو حصاد ذلك الاستشراق الجديد الذى غذّى الهويات الصغرى والفرعية، وكان المختبر الذى اعدّ هذه المبيدات للدولة العربية تحديدا هو تفكيك الاتحاد السوفييتى سابقا بحيث اصبحت الوصفة نموذجية ومعولمة وقابلة للتصدير. مسيحيو العراق وهم مكون أصيل لنسيجه هاجروا ثم هجّروا بحيث خلت منهم مدن رئيسية فى العراق كالموصل وصمتت اجراس كنائسها، فيما عرض دهاقنة الاستشراق العسكرى على من تبقى منهم ان يغادروا مسقط الرأس الى فرنسا، وهذا بالضبط ما طرحه هولاند الرئيس الفرنسى على نحو مباشر رغم ادراكه بان السيد المسيح ليس فرنسيا، ولم يطلب اللجوء من فلسطين الى باريس بل هو فى الأدبيات العربية الفدائى الاول والذى يجرى اعادة صلبه حسب تعبير كازانتزاكى لكن بصورة اخرى على ايدى اسخريوطيين جدد! فى الآونة التى كانت موسما لمثل هذه الابحاث والموسوعات، لم يتنبه العرب الى ما يُهيأ لهم، ومنهم من ابتلعوا الطُعم، ودخلوا باقدامهم الى الفخ، والاستثناءات ممن كانوا يقرعون الاجراس لم يسمعهم أحد لأن ضجيج العولمة كان يحجب الاصوات كلها، واذا كان هناك من استخفهم الطرب ورقصوا فذلك لأنهم مذبوحون ومن شدّة الألم. وما نخشاه هو ان ينوب عنا كعرب آخرون، بحيث يجرى تهميشنا، ونصبح اشبه بالضحية الخرساء التى يتم ازدرادها فى صمت، فمن يتولى الرد الان على برنارد لويس كاتب يهودى هو« آفى شلايم« خصوصا فيما يتعلق بافتراءات لويس على الراحل ادوارد سعيد، ومن يفتضح برنارد هنرى ليفى هو الن غريش تحت عنوان مُثير هو «ليفى ليس فيكتور هوجو». واذا استمر هذا الحال فان نبوءة الكاتب المصرى د. فوزى منصور التى اطلقها تصبح قابلة للتحقيق وهى خروج العرب من التاريخ رغم بقائهم عالقين بالجغرافيا . من اهم ما تقوله موسوعة تيد جار عن اشكال الصراع الاثنى السياسى هو ان هذا الصراع له ثلاثة اشكال هى فى النهاية ثلاث مراحل بدءا من المرحلة السياسية التى تسعى الجماعات من خلالها الى تحقيق مصالحها، ثم مرحلة الاحتجاج الخافت او الناعم، واخيرا الانفجار تحت عدة مسميات منها الثورة او الحراك العنيف، فهل كانت ثلاثة عقود فقط كافية لهذه المحطات الثلاث ؟ أم أن الدول الفاشلة حسب تعريف تشومسكى ساعدت على حرق المراحل وانجاز ما يتطلب انجازه قرنا فى عشرة اعوام فقط ! ان من سمعوا ديفيد وينبرغ وهو يحاضر عن الربيع العربى فى النرويج عليهم ان يغمضوا اعينهم خمس دقائق على الأقل ثم يفتحوها ليروا هذه الاطلال فى العديد من الدول العربية. فقد قال، وهو بالمناسبة مسئول اسرائيلى متقاعد ان ما حققته اسرائيل من هذا الربيع فى بضعة اعوام كان عليها ان تحققه فى خمسين سنة، وحين قدّم قائمة عن الجيوش والدول العربية التى تم تفكيكها اضطر لإستثناء مصر ولو الى حد ما، فقد كان لديها من المناعة واحتياطى تاريخ الدولة ما حال دون تحولها الى ما انتهت اليه دول اخرى منها ليبيا والعراق، ولو جرى تفكيك الدولة لكانت الوصفة ذاتها قد بدأت تترجم من حلم استشراقى الى واقع، فالعزف لم يكن فقط على الوتر القبطى بل تجاوزه الى النوبة وحتى «سيوة»، ان من يقرأ تلك السلالة من الكتب التى تراوح بين الاستراتيجى والميتا استراتيجى قد يعود الى أول السطر ليقرأ ما جرى بأثر رجعى وبعينين اشدّ يقظة ووعى اقلّ استلابا فمعرفة السبب ستبطل العجب، أما الأقلية 231 والتى لم ترد فى موسوعة تيد روبرت جار فهى من تبقى من مثقفين عرب لم يصابوا بالايدز السياسى وانفلونزا العولمة المؤسرلة، فهم بحاجة الى محمية تقيهم من الانقراض . لمزيد من مقالات خيرى منصور