لم تكن حرب الهويات قد اندلعت وكأنها حرب عالمية ثالثة تحدث بالتقسيط، وعلى نحو موضعي، عندما صدرت موسوعة تضم مئتين وثلاثين اقلية من تأليف »تيد روبرت جار«، ومنها اقليات ميكروسكوبية، وان لم يكن التلاعب ممكنا بالرقم، فإنه متاح امام الرغبات والنوايا في التكبير والتصغير. تزامن ذلك مع صدور عدة كتب بمختلف اللغات عن الهوية، فهي قاتلة كما سماها »امين معلوف« في كتابه الذي صدر بالفرنسية وهي مصابة بالرهاب وخانقة كما اطلق عليها الكاتب الايراني »داريوش«، وهي فائضة كما قدمها د. وجيه كوثراني في كتابه فائض الهوية ونقصان المواطنة. ولم يحدث من قبل ان اصبحت الهوية محورا ساخنا وجاذبا لمعالجات راوحت بين السياسي والانثربولوجي والثقافي، اضافة الى البعد العقائدي او المثيولوجي، وقد يكون تفكك الاتحاد السوفيتي ورفع غطاء الامبراطورية الثقيل عن هويات واشواق قومية مكبوتة، احد اسباب انفجار الظاهرة، لكن المسألة لا تقبل الإختزال في سبب واحد، فقبل هذا السبب كان سؤال الهوية قد بدأ يطفو على السطح لدى العديد من الإثنيات او الاقليات كما هو الحال لدى الاكراد في العديد من الدول التي يتوزعون فيها، وكذلك لدى الأرمن الذين كان سؤال الهوية بالنسبة اليهم مخضبا بالدم، حيث لم تغادر الذاكرة تلك التراجيديا التي تحولت الى ندبة عميقة في تاريخ تركيا، بحيث تظاهرت اعداد كبيرة ضد فوز الكاتب »باموق« بجائزة نوبل لأنه إقترب من هذا المحظور التركي ونبش المسكوت عنه. في معالجة »معلوف« للهوية، ثمة مقترب يمكن اعتباره جديدا الى حد ما، خصوصا وان هذا الكاتب العربي اللبناني والمسيحي يعتبر هويته خلاصة لمكونات ثقافته ووجدانه فهو سليل الإسلام ايضا كحضارة وان كان قد اصبح فرنسيا ايضا ليس فقط من خلال اللغة التي يكتب بها، فاللغة ليست اداة محايدة، خصوصا الفرنسية التي يعتقد الفرنسيون ان ما ليس فرنسا ليس واضحا وسبق للفيلسوف سارتر ايضا ان كتب بأن اللغة حي ما يفكر لنا!. حين تضيق الهوية تصبح بالفعل خانقة بل اشبه بزنزانة وعندئذ تكون مرشحة للتوظيف الثيوقراطي او العرقي، بحيث يصبح اقصاء الآخر شرطا لتعريفها وبقائها واستمرارها، لكن اتساع الهوية ايضا له حدود واطار ما ان يتجاوزه حتى يصبح السقوط ممكنا في فخ عولمة تستهدف الاضعف والافقر من شعوب العالم. وما يقوله كوثراني عن فائض الهوية باعتباره يفضي بالضرورة الى نقصان المواطنة هو أمر بالغ الأهمية الان، فالهوية الطائفية في بلد ما عندما تتضخم يقل على الفور ويتناقص الشعور بالانتماء الى البلد والدولة فالتناسب عكسي وليس طرديا بين فائض الهوية ونقصان المواطنة. وككل الظواهر في التاريخ ثمة عدوى قابلة للتمدد والانتقال من مكان الى اخر، وما يفرز هذه العدوى هو الثقافة التي تسود في مرحلة ما ودور الميديا في الالحاح الدرامي على جوانب هذه الثقافة. والحقيقة التي يجب ان لا تغيب في هذا السياق هي الدولة بمفهومها المدني والحديث ومفاعيلها الاستيعابية، فما حدث مرارا هو ان ضعف الدولة وبداية ارتخاء مفاصلها يكون مقدمة تنذر باندلاع الهويات الفرعية الهاجعة من سباتها السياسي، وليس المقصود بذلك الدولة الفولاذية او الباترياركية التي تغطي وتؤجل بالقوة اندلاع هذه الهويات، بل الدولة الصاهرة والأشبه ببوتقة والتي تجعل بمرور الزمن وتراكم التجارب الانتساب الى هوية قومية أمر بمثابة الحصانة ضد تفريخ هويات صغرى تقضم الهوية الأم، وبالتالي تهيء مناخات نموذجية لحروب اهلية تبدأ باردة او في باطن الواقع غير القابل للرصد بالطرق التقليدية ومن ثم يجري توتير وتسخين النزاعات الأهلية الباردة بحيث تتحول الى حروب اهلية بالمعنى الدقيق. وما كتب في المجال الاستشراقي منذ قرنين على الأقل حول تفكيك أمم ودول من خلال التطييف والتمذهب تعج به رفوف المكتبات والقليل المترجم منه يصلح عينات بل وصفات تقترح لتحويل دول عريقة وذات عمق تاريخي الى كسور عشرية وما ارتكز اليه على سبيل المثال »برنارد لويس« في مشروعه الخيالي لاعادة تشظية وتشطير العالم العربي هو تراث استشراقي هائل من حيث الحجم على الأقل، لهذا بدت بعض الهويات الفرعية كما لو انها قيد التصنيع وتحت المطرقة كي تلبي استراتيجية سياسية راهنت منذ البدء على إقتران السيادة بالتفرقة، وما يجري في العراق الآن نموذج قابل للتصدير بل للتعميم والتعريب، فمنذ احد عشر عاما وهي زمن احتلاله، ونشرات اخباره تزدحم بالقتلى، وبمعدلات لا تقل عن ارقام الحروب الأهلية الصريحة. ان جذر مفهوم الهوية في الغرب هو ما يسمى »ناراتيف«، وهو ما ترجم الى العربية »السردية الوطنية«، وان كان عنوان فلم للراحل يوسف شاهين رغم بساطته يقدم ترجمة شعبية حميمة لهذا المصطلح وهو »حدوثة مصرية«، فالناراتيف هي اخيرا حدوثة وطنية، أي قصة استقلال وانتساب وطني، وبالتالي تبلور هوية. ان اخطر ما يهدد الهوية الأصل او الجذرية الآن في العالم العربي، هو تهجيرها إما ايديولوجيا بحيث تصبح الطائفة هي المعيار الذي يحتكم اليه او فلوكلوريا بحيث يتدنى مفهوم الهوية الى مظاهر مادية تنتهي عند الزي والمطبخ والطقوس الاجتماعية. ما يمكن اضافته الى قائمة الهويات القاتلة والخانقة والفائضة والمصابة بالرهاب حسب تعبير »داريوش« هو الهوية الجريحة، وهنا تبرز الهوية الفلسطينية بكل نزيفها اليومي، رغم انها ذات مرجعية عربية في الاساس وحين نتحدث عن هوية فلسطينية فذلك على نحو اجرائي تفرضه ظروف الصراع، ونزيف هذه الهوية نتاج ثلاثة عوامل على الأقل، بدأت ب«الأسرلة« اي تحول الحركة الصهيونية الى دولة وبالتالي فرض الهوية الاسرائيلية على اكثر من مليون عربي يعيشون في المناطق المحتلة منذ عام 1948، والعامل الثاني هو »العبرنة«، اي تهويد ذاكرة المكان بتغيير الاسماء، بدءا من اسماء القرى والمدن حتى اسماء الشوارع والأزقة والمعالم عبر كل تضاريس فلسطين. والعامل الثالث وهو الذي تسعى اسرائيل لاستكماله باعتباره الأقنوم الأخير في مشروعها او ما تسميه حرب الاستقلال الثانية هو التهويد، بدءا من القدس وانتهاء بالدولة كلها، هنا تصل حرب الهويات ذروتها، لأنها تنحصر في ثنائية إما.. أو حيث ما من بعد ثالث او ظلال لهذه الثنائية الحاسمة. واخيرا هناك حروب تندلع وتضع اوزارها ونحن اخر من نعلم مقابل حرب قال عالم الاجتماع الفرنسي »جان بودريار« انها لم تقع بعد، وهي الحرب على العراق التي حذفت آخر فارق في التاريخ بين التدمير والتحرير. بهذا المقياس فإن حرب الهويات قد وقعت وما تبقى هو إقتسام غنائمها والخرائط تعد للاصدار في طبعة جديدة لها خطوط طول وعرض طائفية اما خط استوائها فهو مرسوم بالدّم!. لمزيد من مقالات خيرى منصور