"التنظيم والإدارة" يكشف عدد المتقدمين لمسابقة وظائف معلم مساعد مادة    هل تسقط احتجاجات التضامن مع غزة بايدن عن كرسي الرئاسة؟    بيني جانتس يهدد بالاستقالة من حكومة نتنياهو لهذه الأسباب    رئيسا روسيا وكازاخستان يؤكدان مواصلة تعزيز الشراكة الاستراتيجية بين البلدين    ظهر بعكازين، الخطيب يطمئن على سلامة معلول بعد إصابته ( فيديو)    عماد النحاس: نتيجة مباراة الأهلي والترجي «مقلقة»    مدرب نهضة بركان: نستطيع التسجيل في القاهرة مثلما فعل الزمالك بالمغرب    بن حمودة: أشجع الأهلي دائما إلا ضد الترجي.. والشحات الأفضل في النادي    خاص- تفاصيل إصابة علي معلول في مباراة الأهلي والترجي    الداخلية تكشف حقيقة فيديو الاستعراض في زفاف "صحراوي الإسماعيلية"    نصائح لمواجهة الرهبة والخوف من الامتحانات في نهاية العام الدراسي    بوجه شاحب وصوت يملأه الانهيار. من كانت تقصد بسمة وهبة في البث المباشر عبر صفحتها الشخصية؟    عاجل.. إصابة البلوجر كنزي مدبولي في حادث سير    الحكم الشرعي لتوريث شقق الإيجار القديم.. دار الإفتاء حسمت الأمر    بعد اكتشاف أحفاد "أوميكرون "، تحذير من موجة كورونا صيفية ولقاح جديد قريبا    مع استمرار موجة الحر.. الصحة تنبه من مخاطر الإجهاد الحراري وتحذر هذه الفئات    عيار 21 الآن بالسودان وسعر الذهب اليوم الاحد 19 مايو 2024    «إزاي تختار بطيخة حلوة؟».. نقيب الفلاحين يكشف طريقة اختيار البطيخ الجيد (فيديو)    إيطاليا تصادر سيارات فيات مغربية الصنع، والسبب ملصق    حماية المنافسة: تحديد التجار لأسعار ثابتة يرفع السلعة بنسبة تصل 50%    حزب الله يستهدف عدة مواقع لجيش الاحتلال الإسرائيلي.. ماذا حدث؟    باقي كام يوم على الإجازة؟.. موعد وقفة عرفات وعيد الأضحى 2024    الأرصاد الجوية تحذر من أعلى درجات حرارة تتعرض لها مصر (فيديو)    شافها في مقطع إباحي.. تفاصيل اتهام سائق لزوجته بالزنا مع عاطل بكرداسة    نشرة منتصف الليل| الحكومة تسعى لخفض التضخم.. وموعد إعلان نتيجة الصف الخامس الابتدائي    محافظ بني سويف: الرئيس السيسي حول المحافظة لمدينة صناعية كبيرة وطاقة نور    مصطفى قمر يشعل حفل زفاف ابنة سامح يسري (صور)    حظك اليوم برج العذراء الأحد 19-5-2024 على الصعيدين المهني والعاطفي    أصل الحكاية.. «مدينة تانيس» مركز الحكم والديانة في مصر القديمة    باسم سمرة يكشف عن صور من كواليس شخصيته في فيلم «اللعب مع العيال»    صاحب متحف مقتنيات الزعيم: بعت سيارتي لجمع أرشيف عادل إمام    بعد الانخفاض الكبير في عز.. أسعار الحديد والأسمنت اليوم الأحد بالمصانع والأسواق    رضا حجازي: التعليم قضية أمن قومي وخط الدفاع الأول عن الوطن    تعزيزات عسكرية مصرية تزامنا مع اجتياح الاحتلال لمدينة رفح    عماد النحاس: وسام أبو علي قدم مجهود متميز.. ولم نشعر بغياب علي معلول    "التصنيع الدوائي" تكشف سبب أزمة اختفاء الأدوية في مصر    بعد ارتفاعه.. سعر الدولار مقابل الجنيه المصري اليوم الأحد 19 مايو 2024    وظائف خالية ب وزارة المالية (المستندات والشروط)    رقصة على ضفاف النيل تنتهي بجثة طالب في المياه بالجيزة    جريمة في شارع ربيع الجيزي.. شاب بين الحياة والموت ومتهمين هاربين.. ما القصة؟    اليوم السابع يحتفى بفيلم رفعت عينى للسما وصناعه المشارك فى مهرجان كان    نقيب الصحفيين: قرار الأوقاف بمنع تصوير الجنازات يعتدي على الدستور والقانون    أخذتُ ابني الصبي معي في الحج فهل يصح حجُّه؟.. الإفتاء تُجيب    صرف 90 % من المقررات التموينية لأصحاب البطاقات خلال مايو    أوكرانيا تُسقط طائرة هجومية روسية من طراز "سوخوى - 25"    مدافع الترجي: حظوظنا قائمة في التتويج بدوري أبطال أفريقيا أمام الأهلي    دييجو إلياس يتوج ببطولة العالم للاسكواش بعد الفوز على مصطفى عسل    بذور للأكل للتغلب على حرارة الطقس والوزن الزائد    الأزهر يوضح أول ما يحاسب عليه العبد يوم القيامة    تعرف علي حكم وشروط الأضحية 2024.. تفاصيل    على متنها اثنين مصريين.. غرق سفينة شحن في البحر الأسود    هل يعني قرار محكمة النقض براءة «أبوتريكة» من دعم الإرهاب؟ (فيديو)    وزير روسي: التبادلات السياحية مع كوريا الشمالية تكتسب شعبية أكبر    البيت الأبيض: مستشار الأمن القومي الأمريكي سيبحث مع ولي العهد السعودي الحرب في غزة    حريق بالمحور المركزي في 6 أكتوبر    وزير التعليم: التكنولوجيا يجب أن تساعد وتتكامل مع البرنامج التعليمي    إطلاق أول صندوق للطوارئ للمصريين بالخارج قريبًا    مفتي الجمهورية: يجوز التبرع للمشروعات الوطنية    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



إمام المؤرخين
الجبرتى .. وشيوخ الوقت اللغز : لماذا لم يتولَّّّ عمر مكرم حكم مصر فى المرحلة الانتقالية؟
نشر في الأهرام اليومي يوم 02 - 06 - 2017

لولا هذا الرجل لظل العتاب التاريخى بينى وبين الشيخ عمر مكرم قائمة حتى اليوم، العتاب سببه غياب إجابة شافية عن سؤال أرقنى وأرق جيلى : لماذا يا نقيب الأشراف حين تزعمتم اجتماع أعضاء الديوان المكون من الوجاقلية والسناجق والأمراء وشيوخ البلد المماليك وعلماء الأزهر والتجار لإنهاء حالة الفوضى وعزل الوالى خورشيد باشا
لماذا لم تتول أنت أو تختاروا مصريا على إدارة شئون البلاد فى مرحلة انتقالية واخترتم هذا الجندى الالبانى محمد على الذى دانت له ولاية مصر بسببكم وصارت تراثا لأولاده من بعده وأنقذتموه من فرمان السلطان بنقله لولاية جدة عقوبة له، وصار هذا الجندى بسببكم هو الوالى الوحيد الذى جاء برغبة أهل مصر فى تاريخ الدولة العثمانية بعد أن ذهب إلى داره المشايخ والجماهير وأعلنوه واليا وعزلوا خورشيد باشا فى 19 أغسطس 1805، وتأخر اعتلاء حاكم وطنى مصرى لسدة الحكم 147 سنة حين اختار الضباط الأحرار بقيادة جمال عبد الناصر اللواء محمد نجيب رئيسا لمجلس قيادة ثورة يوليو 1952؟!
................................................................
العتاب الذى وصل الى حد الخصومة سببه كتب الوزارة ومدرسو التاريخ واعتمادهم أحيانا على شطحات الدراما والحكائين وليس المؤرخين ، وانتهت االخصومة حين قرأت تاريخ هذه الفترة بطريقة قادتنى إلى كتاب (عجائب الآثار فى التراجم والأخبار) وأدركت أن أفضل من أرخ للصدمة الأولى بين الغرب والشرق أو بين الفرنسيس والمصريين دون إملاء أو وصاية وبكل الاحترام لعقلية القارئ هو مؤلفه ومولاى وشيخى عبد الرحمن حسن الجبرتى المولود سنة 1754 والذى مات ولده خليل فى نفس السنة التى مات فيها زعيم الأشراف عمر مكرم وظل الجبرتى يبكى الاثنين ثلاث سنوات وتوقف عن الكتابة حتى فقد بصره ومات سنة 1825.
ومحاولة العثور على إجابة للسؤال هى نفسها التى جعلتنى أختار عبد الرحمن الجبرتى واحدا من أهم دعاة التنوير فى هذا العدد الخاص من ملحق الجمعة كتفا بكتف مع الشيخ العطار ومحمد عبده وعلى عبد الرازق والمراغى والشيخ شلتوت وعبد الحليم محمود وجاد الحق ..وصولا إلى الشيخ أحمد الطيب، فالمستنير ليس فقط العالم الذى يفهم االدين بشكل صحيح أو لديه رؤية فى بناء العقيدة السليمة والفقيه فى علوم القرآن والتفسير لكنه أيضا من يقدم التاريخ بموضوعية وواقعية ووطنية حتى ولو كان فى شكل وقائع ويوميات صحفية يومية قبل أن يعرف الشرق معنى الصحافة فصارت يومياته تأريخا ومرجعا للعلماء والباحثين ورجال العلم والدين !.
السؤال مرة أخرى
فالجبرتى خير من نبه العقول النائمة فى الشرق وفى مصر ونبهنا للفارق الحضارى بيننا وبين الغرب فى العصر الحديث وقد ظلمه نبوغ رفاعة الطهطاوى من بعده وارتباطه بعصر محمد على باشا، وحين حاولت البحث عن إجابة على سؤالى وعتابى على السيد عمر مكرم طرقت باب إمام المؤرخين فى العصر الحديث وصاحب (تاريخ الحركة القومية وتطور نظم الحكم) هو المؤرخ الوطنى عبد الرحمن الرافعي، فأحالنى بدوره إلى عبد الرحمن الجبرتى وقال عنه بالحرف الواحد: ان تاريخ الجبرتى هو التاريخ الوحيد الذى يعول عليه لمعرفة أخبار مصر فى القرن الثامن عشر وأوائل التاسع عشر ولا يوجد مؤرخ مثل الجبرتى كتب بمثل تحقيقه، أما رجال الحملة الفرنسية الذى كتبوا تاريخنا فى وصف مصر مثلا فقد دونوا ما شاهدوه على فترة وجيزة لا تتجاوز سنة واحدة أو ثلاثا على الأكثر وهى السنة التى قضاها بونابرت فى مصر وجاءت كتاباتهم متعجلة ومقتضبة، أما الجبرتى فقد اعتمد على الاستقراء والتمحيص فلا يوجد مؤرخ فرنسى لم يرجع إليه وينقل عنه فيما يخص مصر إبان حملة بونابرت عليها!
يقول الجبرتى عن مفهومه لكتابة التاريخ فى مقدمة كتابه عجايب الآثار:أعلم أن التاريخ علم يبحث فيه عن معرفة أحوال الطوايف وبلدانهم ورسومهم وعاداتهم وصنايعهم وأنسابهم ووفاتهم، وموضوعه: أحوال الأشخاص الماضية من الأنبياء والأوليا والحكما والشعرا والملوك والسلاطين وغيرهم، والغرض منه: الوقوف على الأحوال الماضية من حيث هي، وكيف كانت؟ وفايدته: العبرة بتلك الأحوال، والتنصح بها، وحصول ملكة التجارب بالوقوف على تقلبات الزمن؛ ليحترز العاقل عن مثل أحوال الهالكين من الأمم المذكورة السالفين، ويستجلب خيار أفعالهم، ويتجنب سوء أقوالهم، ويزهد فى الفاني، ويجتهد فى طلب الباقى .
أما عن منهج الجبرتى فى تغطية حملة بونابارت التى عايشها: «فأمور شاهدتُها، وأناس عرفتهم، على أنى سوف أطوف بالقرافات (المقابر) وأقرأ المنقوش على القبور، وأحاول جهدى أن أتصل بأقرباء الذين ماتوا، فأطلع على إجازات الأشياخ عند ورثتهم، وأراجع أوراقهم إن كانت لهم أوراق، وأسأل المعمرين ماذا يعرفون عمن عايشوهم».
ويظهر من خلال عباراته حرصه الشديد على تقفى الأثر والاتصال بمصادر أخباره وتواريخه مباشرة. وهو سبب آخر لاعتباره إمام المؤرخين وهى نفس مهمة الإعلامى أو الصحفى النزيه النادر الوجود فى زماننا، والذى قال عنه الرافعى أيضا : إنه كان يتحرى الدقة ويتوخى العقل والصدق ولم يكن يتحيز لطائفة او لدولة أو اى انسان وزير أو امير ولم يداهن فيه دولة بنفاق أو مدح لميل نفسانى أو غرض جسماني.أليست هذه الأوصاف هى ما نطلبها من كل صاحب رسالة علم ومجدد فى أمور الدين؟.
من حسن حظ المحروسة
وفى ظلمة البحث عن إجابة للسؤال هدانى نور من صاحب القنديل وعظيم من طائفة أدباء القرن يحى حقى يشجعني: (إن من حسن حظ المحروسة إن كان يعيش فيها حين جاءت الحملة الفرنسية مؤرخ مصر العظيم عبد الرحمن الجبرتى فقد كان يمثل ارقى ماوصلت إليه الحضارة الشرقية وكان أبوه الشيخ حسن قد مضى بعلوم الأزهر أقصى حد عرفته مصر وكان ذهن ولده متفتحا مثقفا لا يشله الغرور او التعصب) .. تخرج فى الأزهر بعد أن درس علوماً شتى فى الفقه واللغة، ثم عكف على خزانة والده يستزيد من علوم الفلك والحساب والهندسة. وصار الشيخ عبد الرحمن يعقد حلقات التدريس وفق ما جرت به عادة المتفوقين البارزين من علماء الأزهر. وفى صفحة ناصعة القومية والمصرية من تاريخ مصر عنوانها 5 ديسمبر سنة 1798 يقول يحى حقي: استسلم الشرق بعد انتصاره فى الحروب الصليبية إلى الوهم بأن عالمه المقفل مستوف لأسباب البقاء كل فارس يظن انه عنترة ابن شداد إذا امتشق الحسام وركب جواده المطهم مهمازه من ذهب او فضة وإذا خرج للقتال بارم ديله صارخا هل من مبارز فهيهات ان يصمد له خصم ، اما الشعب الصبور فحرفته الزراعة والحرف يحب النكتة ولا ينكسر ظهره ولم الخوف أليس الأزهر وبقية المساجد عامرة بالعلماء حفظة الشرع الشريف؟ .. يتصرف المصريون كأنهم أخذوا عهدا على ربهم بنصرهم على كل معتد إلى أن جاءت حملة نابليون وشاهد المصريون جنود منتظمين تحت قيادة ضابط يصطفون على هيئة مربعات فكرة بسيطة جعلت جنود الشرق يسقطون امامهم كالهشيم فى موقعة شبراخيت والأهرام لم تزد مدة الحرب عن ساعة واحدة..
ففى ذلك اليوم خرج الجبرتى من داره ليتفرج على مايفعله الفرنسيون فى هدم المبانى وشق الطرق لسير الحملة..فلما رجع لداره كتب (فعلوا هذا الشغل الكبير فى اقرب زمن كانوا يصرفون الرجال بعد الظهيرة ويستعينون بالاشغال وسرعة العمل بالآلات القريبة المأخذ السهلة التناول المساعدة فى العمل وقلة الكلفة كانوا يجعلون بدل الغلقان والمقاطف والقصاع عربات صغيرة ويداها ممتدتان من الخلف يملؤها الفاعل ترابا أو طينا أو حجارة ثم يقبض بيديه على خشبتيها المذكرتين ويدفعهما أمامه فتجرى بأدنى مساعدة.. هكذا نبه الجبرتى إلى أثر الآلة فى التخفيف من تسخير الانسان فى العمل الجسمانى وكما اندهش الجبرتى من الآلة التى تشق الطريق بل ذهب فى اليوم ذاته إلى المجمع العلمى الفرنسى وحضر بعض التجارب الكيميائية وقال (إن بعض المقيمين أخذ زجاجة من الزجاجات وبها بعض المياه المستخرجة ثم صب عليها بعض من زجاجة أخرى فغلى الماءان وصعد منهما دخان ملون حتى انقطع وجف ما فى الكاس فصار حجرا أصفر ..)..إلى آخره، والجبرتى هنا يشبه مصر التى تنبهت (أن هناك علما حديثا غير علمها القديم وأن هذا العلم الحديث هو سر غلبة الغرب وتفوقهم على الشرق) .
وفى وصفه للتدهور الذى حل بالبلاد بسبب العساكر العثمانية فى الفترة الانتقالية بعد رحيل الحملة الفرنسية يقول:(وقد حضرت عساكر كثيرة من جنود الأتراك والأرناءود فأحضروا مشايخ الحارات وأمروهم بإخلاء البيوت لسكناهم فأزعجوا الكثير من الأهالى وأخرجوهم من دورهم بالقهر فحصل للناس غاية الضرر.. وكلما سكن منهم طائفة بدار أخربوها وأحرقوا أخشابها وطيقانها وأبوابها .. وفى موقف آخر (وقف جماعة من العسكر بخط الجامع الأزهر فى طلوع النهار وشلحوا عدة أناس وأخذوا ثيابهم وعمايمهم وأغلقوا الدكاكين وذهب الناس إلى الشيخ الشرقاوى والسيد عمر النقيب والشيخ الأمير فعملوا جمعية وأحضروا كبار العساكر ووقف الوالى وأمامه عدد كبير من عساكر الأرناءود ونادى المنادى بالأمن للرعية وإن وقع من العسكر والمماليك خطف يضربوه .. وبعد مرور الحكام وانفضاض الجمع خطفوا عمايم ونساء حتى كان الناس اذا مشى يربط عمامته ) ..
وحتى فى أثناء حملة فريزر 1807فى بداية حكم محمد على (ركب السيد عمر مكرم النقيب والقاضى والأعيان المتقدم ذكرهم ونزلوا ناحية بولاق لترتيب أمر الخندق وصحبهم قنصل الفرنساوية الذى أشار عليهم بذلك .. ووزعوا حفره على مياسر الناس ).. وبعد أن هزم الإنجليز برشيد (ورد مكتوب من السيد حسن كريت نقيب الأشراف برشيد يذكر فيه أن الانكليز لما وقع لهم ماوقع رجعوا إلى إسكندرية واستعدوا وحضروا إلى ناحية الحماد قبلى رشيد ) .. ووصل ذلك الجواب إلى السيد عمر قرأه على الناس وحثهم على التأهب والخروج إلى الجهاد .. ولما انقضى أمر الحرب فى رشيد وانجلت الانكليز عنها نزل الاتراك على الحماد وماجاورها واستباحوا أهلها ونساءها وأموالها ومواشيها زاعمين انها صارت ديار حرب ... ووصلت مكاتبات بمعنى ذلك الى السيد عمر فكتب اليهم بالكف والمنع.. وهيهات).
العالم العامل
ويتضح دور السيد عمر مكرم (العالم العامل) كما وصفه فى الجهاد ضد الغزاة ودفع الأذى وتعلق الناس بمواقفه والوقوف إلى جانب الأهالى بينما كان ( محمد على يحارب المصريين ويشدد عليهم فعند ذلك انحلت عزايم الباشا وأرسل يصالحهم على مايريدونه ويطلبونه وثبت يقينه على استيلاء الانكليز على الديار المصرية).. فلماذا ساند توليته على مصر ولم يتولها العالم العامل عمر مكرم نفسه؟
هنا نعود فى الإجابة إلى الرافعى : إن مصر كانت أهم ولاية عثمانية وكان يحكمها أحد الباشاوات يعينه السلطان لمدة سنة واحدة تدوم إلى اثنتين وجرت العادة ان تصل إلى ثلاث سنوات ونادرا أربع، ولا يحصل عليها إلا فى مقابل اتاوة من المال اربع مائة الى خمسمائة الف ريال علاوة على على هدايا تصل إلى مائة الف ريال مع كل تجديد وعندما يصل الباشا الجديد الى الاسكندرية يبلغ الديوان نبأ وصوله فيرسل شيخ البلد رئيس المماليك وفدا من أذكى البكوات لاستقباله فيظهرون له الطاعة وخلال ذلك يتحسسون نياته فإذا رأو أنه لا يوافق هواهم أرسلوا بذلك رسولا إلى الباب العالى بأن الباشا الجديد جاء بنيات عدائية تؤول إلى حدوث الفتنة فلا يرفض الباب العالى لهم طلبا فى العادة.
انزل يا باشا
ويضيف الرافعى أن منصب الباشا كان نوعا من النفى فالسلطة الفعلية للحكومة كانت فى شيخ البلد فهو كبير المماليك ورئيس الحكومة المحلية والباشا الوالى بجانبه لا حول له ولا قوة، يليه فى الأهمية أمير الحج تم الدفتردار وزير المالية، والباشا لا يستطيع أن يخرج من القلعة إلا بإذن شيخ البلد وهو سجين وسط مظاهر الأبهة ولابد له فى شئون الحكومة ومرتبه محدود من رسوم جمرك السويس والمتاجر التى ترد من البحر الأحمر .. وكان الباشا الحازق أن يستدر عطف حزب من المماليك الذين يعينهم سناجق فى الأقاليم مقابل اتاوات وإليه يؤول ميراث الملاك الذين يموتون بلا عقب، وطريقة عزل الوالى كانت غاية فى السهولة والفوضي، يجتمع الديوان المؤلف من البكوات والمماليك فإذا رأى عزل الوالى نفذ إليه رسولا يلبس رداء أسود فيدخل عليه ويطأطئ احتراما له ثم يلمس طرف السجادة ويطويها ويقول مناديا للوالى :(انزل ياباشا) ثم يخرج من المجلس، فعندما تسك الكلمة سمع الباشا يعرف أنه أصبح معزولا، ويبدأ فى حزم أمتعته ويتوجه إلى بولاق وينتظر ما يؤمر به من الأستانة!
ويفهم من ذلك أن مكانته كانت على العكس من مكانة ولاة مثل خورشيد باشا فالسيد عمر مكرم كان روح الحركة الشعبية وعمادها لا يملك أحد عزله إلا بالدسائس والفتن وقال عنه الرافعى (قاد حركة شعبية ضد ظلم الحاكمين المملوكيين إبراهيم بك ومراد بك،وطالب برفع الضرائب عن كاهل الفقراء وإقامة العدل فى الرعية. وهى ثورة شعبية ضد الاستبداد استندت إلى فتوى شرعية من المحكمة، وأنها قامت بتولية محمد على حاكمًا على مصر من خلال معاهدة وشروط بين محمد على الوالى الجديد وبين زعماء الشعب، وأقرت مبدأ الشوري، وعدم اتخاذ قرار بدون الرجوع لممثلى الشعب، وهم العلماء والأعيان).. ولو سارت الأمور فى مسارها الصحيح بعد ذلك لكان إيذانًا بروح من الحرية والشورى واحترام إرادة الشعب وخياراته،
ويصف الجبرتى هذه المكانة بقوله: “وارتفع شأن السيد عمر، وزاد أمره بمباشرة الوقائع، وولاية محمد على باشا، وصار بيده الحل والعقد، والأمر والنهي، والمرجع فى الأمور الكلية والجزئية. فكان يجلس إلى جانب محمد على فى المناسبات والاجتماعات، ويحتل مركز الصدارة فى المجتمع المصري، حتى إن الجماهير كانت تفرح لفرحه، وتحزن لحزنه.
ولكن محمد على التف على هذه المكانة وأفرغها من مضمونها فيما بعد وبمجرد أن نقل الوشاة من العلماء إلى (الباشا) تهديد عمر مكرم برفع الأمر إلى الباب العالى ضد والى مصر، وتوعده بتحريك الشعب للثورة، وقوله: (كما أصعدته إلى الحكم فإننى قدير على إنزاله منه). حاول محمد على فى البداية رشوة عمر مكرم ( فى تطويع إرادته وإرغامه على الإقلاع عن تبنى مطالب الشعب) .. ثم لجأ إلى المكيدة التى عاونه فيها من أسماهم الجبرتى بمشايخ الوقت من العلماء، وعزل عمر مكرم عن نقابة الأشراف ونفاه إلى دمياط فى 9 من أغسطس 1809م وظل بها حتى نهاية حياته.
ألا يستحق عبدالرحمن الجبرتى لقب شيخ التنوير ، بقدر ما رصد الحوادث بموضوعية ووطنية وروح مصرية وشارك فى صون الصدمة الحضارية التى نبهت العقول وأثارت أسئلة النهضة كيف صرنا ولماذا لانكون الأفضل ويبقى السؤال الذى طرحته فى البداية لماذا اعتبر الشيخ عمر مكرم نفسه أكبر من مجرد زعيم سياسي؟.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.