نادي النفير بالجهاد فصعد السيد عمر مكرم أفندي الأسيوطي نقيب الأشراف إلي القلعة ليهبط حاملا علمها الكبير الذي أسمته العامة البيرق النبوي لينشره بين يديه ملوحا للألوف من أمامه والألوف من خلفه يشق القاهرة من شرقها إلي غربها علي رأس موجات ثورة الشعب العارمة المدمدمة الغاضبة الملبية لدعوة الزعيم كي يهب شعب مصر مدافعا عن حقوقه.. قال عمر: دقت ساعة الغضب الثوري.. فأتي جواب الوطن باهرا نبيلا أخاذا جبارا هادرا خرج إليه الرجال والشبان.. الشيوخ والنساء والأطفال كل يضحي بما عنده.. اقتطع الفقراء دراهم من أقوات عيالهم جادوا بها لشراء السلاح والذخيرة والخيام.. خاضوا من ورائه معركة الجمل التي استولوا فيها علي ستين جملا تحمل الذخيرة المعدة لإطلاقها لصدورهم.. السيد زعيم مصر الأول في تاريخ زعامات قليلة آمنت بالديمقراطية في وقت مبكر وأن لا سلطة تعلو علي سلطة الشعب صاحب قراره في تشكيل مستقبله.. ابن أسيوط البطل الذي قامت عظمته علي شعور قوي بواجبه في عصر كان في أشد الحاجة إلي زعيم مثله.. أن يستعلي به إلي آفاقه العليا, فاستجاب له الوطن في ثورات جهاد وطنية مليئة بالإقدام ولدتها الحركة القومية التي ظهرت في أفق البلاد أواخر القرن الثامن عشر لينتفض الشعب في أربع ثورات في فترة من الزمن لا تتجاوز تسع سنوات.. ثورة قاوم بها نابليون, وثورة قاوم بها كليبر, وثالثة في وجه المماليك, ورابعة في وجه الوالي التركي.. حيوية شعب لا يرضي الهوان من زمان حتي لحظتنا الآن.. عايش عمر مكرم أربعة عصور فقد ولد عام1755 تقريبا ورحل في1822 لتؤثر أحداث تلك العصور في تكوينه النفسي وتحدد له معالم الطريق الذي يسلكه.. العصر الأول العثماني المملوكي, والثاني الحملة الفرنسية علي مصر, والثالث عصر الصراع بين القوي المتنافسة في أعقاب خروج الحملة الفرنسية, ويأتي العصر الرابع بحكم محمد علي لمصر, ووقوع الصدام بين أفكارهما وتطلعاتهما.. و..تعتبر ثورة1795 من أنضج صفحات المقاومة الشعبية للحكم التركي المملوكي, حيث أرغمت الوالي والمماليك علي كتابة أول وثيقة تبين الحقوق والواجبات بين الحاكم والرعية وتضم خمسة بنود وقعها كل من الأميرين مراد بك, وإبراهيم بك اللذين توليا شأن مصر وتحولا إلي طاغيتان أفسدا في الأرض وثار عليهم الشعب والوالي الباشا العثماني بنفسه, وصدق عليها زعماء الثورة وعلي رأسهم السيد عمر مكرم نقيب الأشراف, والشيخ الشرقاوي شيخ الأزهر, والشيخ محمد البكري, والشيخ أبوالأنوار السادات, والشيخ محمد الأمير.. وتضم بنود الوثيقة: 1- يدفع أمراء المماليك ما كانوا قد اغتصبوه من الشعب ومقداره سبعمائة وخمسون كيسا من الذهب, حيث أمر المشايخ بتوزيعها علي فقراء القاهرة. 2- أن يرسلوا غلال الحرمين الشريفين التي كانوا قد امتنعوا عن إرسالها إلي أهل الكعبة ويعيدوا صرف غلات الشون وأموال الرزقة التي كانوا قد استولوا عليها.. كما وافقوا علي إرسال العوائد المقررة لأهل الحجاز التي كانت تتكفل مصر الإسلامية بها بشكل دائم. 3- أن يبطلوا المكوس الجديدة وألا يفرضوا أي ضرائب بدون وجه حق وبدون استشارة العلماء وزعامات الشعب. 4- أن يكفوا أيدي أتباعهم عن أموال الناس. 5- أن يسيروا في الناس سيرة حسنة وحتي يضمن السيد عمر مكرم وبقية الزعماء تنفيذ كل هذه الشروط, فقد طلبوا من القاضي الذي كان حاضرا بالمجلس كتابة حجة عليهم بذلك تحتوي كل الشروط السابقة.. وهكذا انتهت الثورة بعد أن حققت أهدافها وعاد المشايخ إلي الجماهير والعامة لطمأنتهم ففتحت الأسواق من جديد وسكنت الأحوال.. و..ولكن خيانة العهد من طبيعة المماليك, فسرعان ما أصبحت الوثيقة لا تساوي قيمة المداد الذي كتبت به فذيل الكلب عمره ما ينعدل فقد عاد مراد بك بالذات إلي سيرته الأولي بل وأكثر بغيا حتي أتي الزلزال يحطم قوة المماليك.. وكان الزلزال هو نابليون بونابرت في حملة جاءت بعد3 سنوات لاحتلال مصر, ونظر الشعب إلي أمرائه علهم يفعلون شيئا, وإذا بهم لا يفعلون إلا ما يحمون به أنفسهم وكنوزهم التي ادخروها من قوت الشعب.. و..هبط عمر مكرم يقود ثوار مصر قادما من القلعة إلي بولاق, الحي البطل الذي يعد ميناء للقاهرة ومستودعا لمتاجرها الذي استهدفته المدفعية الفرنسية لتدك قوائمه وتهدم الدور علي سكانها, ويكتب الجبرتي في وصف المأساة: هجموا علي بولاق من ناحية البحر( النيل) ومن ناحية بوابة أبي العلاء, وقاتل أهل بولاق جهدهم ورموا بأنفسهم في النيران, وصارت جثث القتلي مطروحة في الطرقات والأزقة, واحترقت الأبنية والقصور, وأحاط الفرنسيس بالبلد, وملكوا الدور وما بها من الأمتعة والأموال والنساء والخوندات والصبيان والبنات ومخازن الغلال والسكر والكتان والقطن والأدهان, وما لا تسعه السطور, ولا يحيط به كتاب ولا منشور, والذي وجدوه منعكفا في داره نهبوا متاعه وعروه من ثيابه ولم يكتف الفرنسيون بما حل ببولاق من الخراب والتدمير بل فرضوا علي أهلها غرامة جسيمة قيمتها200 ألف ريال, وأخري علي متاجرها قيمتها300 ألف ريال, وفرضوا علي الأهالي تسليم ما لديهم من مدافع وذخائر موجودة في ترسانة بولاق.. ويصف الجبرتي آثار الحريق في حي الأزبكية وما جاورها: انهدم جميع ما هناك من المباني العظيمة والقصور المطلة علي البركة واحترقت جميع البيوت التي بين المفارق بقرب جامع عثمان كتخدا إلي الرحبة المقابلة لبيت الألفي سكن ساري عسكر الفرنساوية إلي حد حارة النصاري وصارت كلها تلالا وكأنها لم تكن مغني صبابات, ولا مواطن أنس ونزاهات, وصارت بركة الرطلي وما حولها من بساتين تلالا وكيمان أتربة وهي التي كانت من أجمل منتزهات مصر قديما وحديثا. في عام1926 يتم العثور علي300 وثيقة مهمة تكشف معلومات أنشر بعضها هنا للمرة الأولي من فترة الاحتلال الفرنسي لمصر, منها ما يبين أن السلطات الفرنسية كانت تحرق القري التي تمتنع عن دفع الضرائب, وأن مجموع الضرائب التي كانت مفروضة علي مديرية الغربية وحدها هو319077 ريال, ومنها وثيقة تبين ضرورة الحصول من( طايفة) الغوازي بالبنادر بالوجه البحري علي97 ألف ريال, وغوازي الوجه القبلي ويحصل منهن علي9 آلاف ريال, ومن الحانوتية يحصل منهم علي13867 ريال, ومن المخللاتية علي10300 ريال, ويبدو أن المواشي التي كانت تقف في منطقة الأزبكية كانت تدر علي سلطة الاحتلال الفرنسي شيء وشويات, فالوثيقة الخاصة بها تنص علي أن ضريبة الحمار23 ريالا, والجمل135 ريالا, والحصان12 ريالا, والبغل12 ريالا.. وفي إحدي الوثائق التي خرجت من المجهول للمعلوم قائمة بنفقات جنازة الجنرال كليبر الذي قتله المواطن السوري سليمان الحلبي في الأزبكية سنة1800, وفي القائمة بيان يقول إنه قد استخدم في الكفن83 ذراعا من الجوخ ثمنها31405 بارة, و50 ذراعا من القطيفة المخلوطة بالحرير ثمنها26250 بارة, و32 ذراعا من التيل القطن ثمنها2600 بارة, وأن مجموع تكاليف الجنازة هو60255 بارة أي ما يعادل وقتها2151 فرنكا فرنسيا.. و..من بين الوثائق المهمة الأخري التي ننشر عنها للمرة الأولي العثور علي كراسة لنابليون كان يستعملها في تعلم اللغة التركية, وعلي غلافها بعض الرسوم التي كتب بجانبها بالفرنسية هذه الرسوم بريشة نابليون بونابرت, هذا مع سبع مجموعات مخطوطة سجل فيها الضابط الفرنسي هافييت يوميات الحملة منذ تحركها وخلال إقامتها في مصر.. ومن الوثائق المهمة التي تتعلق بالأرقام وثيقة تتضمن بيانا بأموال بطل المقاومة الشعبية في المنزلة حسن طوبار والذي قامت القوات الفرنسية باحتلال بلدته ليهرب إلي الشام وجاء في كشف أملاكه تبعا للوثيقة التاريخية: ثلاثة منازل كان يسكنها هو وعائلته, وطاحونتان لتبييض الأرز كل منهما بعجلة واحدة, ومعصرة زيت سمسم, وبغل واحد, و82 عجلا, و31 حصانا لإدارة الطواحين, و8 جمال, و35 حمارا, ومخزن أرز بقشه قدرناه ب106 أرادب, و11 أردب شعير, و6 أرادب فول, و100 قنطار تبن. عندما تسقط القاهرة بأيدي الفرنسيين يتعهد الجنود العثمانيون والمماليك بالجلاء عن القاهرة خلال3 أيام حاملين أسلحتهم وأمتعتهم ماعدا المدافع فإنهم يتركونها في مواقعها, متعهدين بمواصلة الجلاء حتي حدود سوريا, ويتعهد كليبر في شروط التسليم أن يصدر عفوا عاما عن جميع أهالي القاهرة وعن المصريين الذين اشتركوا في الثورة, ويرافق السيد عمر مكرم جيش إبراهيم بك المتقهقر حتي يافا في الشام ليلحق به نابليون نفسه ويحقق هزيمة ساحقة للجيش التركي حيث ذبح من أهل يافا6 آلاف, ومن الجنود العثمانيين3 آلاف ألقوا السلاح بشرط ضمان أرواحهم وتعهد بوهارينه ياوران بونابرت بهذا الضمان لكن بونابرت كان عاجزا عن إطعامهم وحراستهم في بلاد نائية فآثر إعدامهم رميا بالرصاص علي شاطئ البحر, إلا أنه كان حريصا علي سلامة المصريين وعددهم400 فأعادهم لمصر وكان من بينهم السيد عمر مكرم الذي غاب عن وطنه نحو ثمانية أشهر ليعود ويستقبله الناس بحرارة علي طول الطريق البحري من دمياط إلي القاهرة, حيث وصل إلي بيته بساحل بولاق ليتوجه في الصباح للقاء بونابرت الذي يعلم قدره في قلوب المصريين, ورغم ترحيب نابليون به إلا أن السيد رفض بعد المقابلة أن يشترك في حفل عام أو مهرجان أو ديوان.. لقد كانت مذبحة يافا لاتزال ماثلة في ذهنه ليبث في نفوس المصريين روح التمرد, ويعد المصريين للثورة علي أسلوب أقوي إثارة مما حدث في الثورة الأولي, وتندلع الثورة العاتية في عام1800, وفي14 يونيه من نفس العام يقتل كليبر ويضعف أمر الفرنسيين فيفاوضوا الإنجليز والأتراك علي الرحيل ويغادرون مصر في12 سبتمبر..1801 يعود السيد عمر مكرم لمصر ورئاسة نقابة الأشراف فيقود المقاومة الشعبية ضد حملة فريزر الإنجليزية عام1807, تلك المقاومة التي نجحت في هزيمة فريزر في الحماد ورشيد مما اضطر فريزر إلي الجلاء عن مصر.. وفي هذا يقول الجبرتي: نبه السيد عمر علي الناس وأمرهم بحمل السلاح والتأهب لجهاد الإنجليز, حتي مجاورو الأزهر أمرهم بترك حضور الدروس, وكذلك أمر المشايخ بترك إلقاء الدروس, ويعلق المؤرخ عبدالرحمن الرافعي علي ذلك قائلا: فتأمل دعوة الجهاد التي بثها السيد عمر مكرم والروح التي نفخها في طبقات الشعب, فإنك لتري هذا الموقف مماثلا لموقفه عندما دعا الشعب إلي التطوع لقتال الفرنسيين قبل معركة الأهرام, ثم تأمل دعوته الأزهريين إلي المشاركة في القتال تجد أنه لا ينظر إليهم كرجال علم ودين فحسب بل رجال جهاد وقتال ودفاع.. وتعين تركيا أحمد خورشيد باشا واليا علي مصر ليستقدم معه أفراد حراسته من الجنود الدلاة الذين يثيرون الرعب في قلوب أهل القاهرة بسبب فظائعهم, فأغلقت المحال وانتشرت الفوضي بعد أن بدأوا يقتحمون المنازل ويغتصبون النساء ويخطفون الأطفال, فتجمع الأهالي يخرجون وجها لوجه لمواجهتهم, في حركة تمرد علي خورشيد لم يسبق لها مثيل, وأطلقت الصيحات بأن مصر لن تكون متاعا لأحد.. نريد حاكما يعرف الحق والعدل ويرفع عنا الظلم.. الظالم يرحل.. يا متجلي إهلك العثمانلي.. وتركزت زعامة الثورة في ثلاث شخصيات: السيد عمر مكرم نقيب الأشراف, ورفيق كفاحه أحمد المحروقي كبير تجار القاهرة, والشيخ عبدالله الشرقاوي وآمنت الجماهير بقيادة زعامتها بضرورة عزل خورشيد باشا بعد رفضه تلبية مطالب الشعب الثلاثة: أولا: رفع المظالم عن الشعب وعدم جباية أموال جديدة ثانيا: أن يقيم الجنود في الجيزة بعيدا عن العاصمة ولا يسمح لهم بدخول القاهرة حاملين أسلحتهم. ثالثا: فتح طرق المواصلات بين القاهرة والصعيد و..يرفض خورشيد باشا مطالب الشعب وعندها يقرر زعماء الثورة طرده من منصبه وتولية محمد علي مكانه, ووفقا لرواية المؤرخ الرافعي فقد التقي السيد عمر بمستشار خورشيد( عمر بك) فوقع بينهما جدال قال فيه البك: كيف تنزلون من ولاه السلطان عليكم؟ وقد قال الله تعالي: أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم, فأجابه السيد مكرم العالم الأزهري: أولوا الأمر هم العلماء وحملة الشريعة والسلطان العادل, وهذا رجل ظالم, حتي السلطان والخليفة إذا سار في الناس بالجور فإنهم يعزلونه ويخلعونه, فقال عمر بك: وكيف تحاصروننا وتمنعون عنا الماء والطعام وتقاتلوننا؟ أنحن كفرة حتي تفعلوا معنا ذلك؟ فأجابه الأزهري الوسطي: لقد أفتي العلماء والقاضي بجواز قتالكم ومحاربتكم لأنكم عصاة.. ويصف الجبرتي وقائع التاريخ: تمنع محمد علي أولا ثم وافق بعد إلحاح فأحضروا له( كركا) وعليه قفطانا, وقام السيد عمر مكرم والشيخ عبدالله الشرقاوي فألبساه له وقت العصر ونادوا به في المدينة, ولكن خورشيد باشا رفض اعتزال الحكم فحاصره محمد علي والجند الألبان في القلعة ليظل سجينا حتي أصدر السلطان فرمانا في9 يوليو1805 فاضطر خورشيد إلي مغادرة القلعة وخلصت مصر لمحمد علي.. و..رغم إيمانه بفضل السيد عمر مكرم في جلوسه علي عرش السلطة, فقد كان يضمر بين جوانحه أنه خطر علي أحلامه في الاستفراد بحكم مصر, فمن استطاع أن يرفعه إلي مصاف الحكام يستطيع بقوته الشعبية أن يقصيه, ومن هنا أدرك أنه لكي يثبت دعائم ملكه وتجميع القوة في يده لابد وأن يقوض الأسس التي يستند عليها عمر مكرم في زعامته الشعبية.. وعندما أعلن زعماء الشعب عن استعدادهم للخروج لقتال الإنجليز أجاب محمد علي: ليس علي رعية البلد خروج, وإنما عليهم فقط المساعدة بالمال لعلف بهايم العسكر.. و..كانت العبارة الصادمة لعمر مكرم إذ حصر محمد علي الزعامة الشعبية في توفير علف الحيوانات, ولكن حصافة الرجل لم تجعله يعلن خصومته لمحمد علي, وأرجع مقولة الباشا إلي أنها مجرد زلة لسان.. ويطلب محمد علي منه تدبير خمسة آلاف جنيه لتغطية نفقات الجنود الذين يعتزم إرسالهم إلي رشيد لمقاتلة البريطانيين, ويقبل عمر القيام بالمهمة من منطلق أن هناك محنة تواجه مصر وعليه الدفاع عنها وقد اتهم البعض عمر بأنه بموافقته قد أصبح أداة طيعة في يد محمد علي ولم تلبث جماهير القاهرة أن بدأت تتعرض لبعض المظالم من جنود الباشا, ولاذت جموع الشعب بالسيد عمر تطالبه بالتدخل لوقف القهر فكان الزعيم عند حسن ظن الشعب به, وحتي تلك اللحظة كان محمد علي لا يظهر توجهه الحقيقي تجاه القضاء علي الزعامة الشعبية ممثلة في عمر مكرم حتي استشري الفساد والغيرة بين بعض المشايخ وعدد من العلماء للإيقاع به مدعين أنه يهدد برفع الأمر إلي الباب العالي ضد محمد علي وأن قوله الدائم أمامهم في كل مناسبة كما أصعدته إلي الحكم فإنني قدير علي إنزاله منه.. ولم تفلح محاولات محمد علي في رشوة الزعيم وفي تطويع إرادته وإرغامه علي الإقلاع عن تبني مطالب الشعب, حتي أنه أرسل إليه كتخدا وكيله ذاكرا له أن الباشا يرتب له كيسا به خمسمائة قرش مع طلعة كل شمس ويعطيه فورا ثلثمائة كيس خلاف ذلك, لكن السيد عمر لم يقبل بل ولم يذهب إلي الاجتماع به في بيت السادات مما أثار غضبته ليعزله عن نقابة الأشراف ونفيه إلي دمياط في9 أغسطس1809, وقبض الوشاة الثمن في الاستحواذ علي مناطب السيد, ومن هنا جاءت تسمية الجبرتي لهم بمشايخ الوقت الضائع.. واستمر الزعيم في منفاه إلي ربيع1812 ثم نقل إلي طنطا في أواسط شهر أبريل, حيث كان الحراس يلازمونه أينما سار, فحاول أن يجد له عملا يشغله فبني خانا لنزول التجار الذين كانوا يقصدون دمياط في سفنهم.. ورغم النفي والاضطهاد لم يستطع صاحب القلب النابض ألا يفرح لانتصارات إبراهيم باشا ابن محمد علي في حروبه ضد الوهابيين, فأرسل مع حفيده رسالة إلي الباشا صديقه القديم يهنئه فيها لما لقيت مصر من المجد علي يديه في الخارج والداخل, وأن البلاد شهدت في عهده نهضة زراعية وتجارية وصناعية, ولما بلغت الرسالة محمد علي اهتز لها وطرب وطلب من الحفيد أن ينقل له أية أمنية لجده فأجاب بأنه لا يرغب سوي في أداء فريضة الحج فأرسل معه خطابه التاريخي المعبر عن تقديره الكامن الذي لم تغيره الأيام: إلي مطهر الشمائل سنيها, حميد الشئون وسميها, سلالة بيت المجد الأكرم, والدنا السيد عمر مكرم, دام شأنه, أما بعد.. فقد ورد الكتاب اللطيف من الجناب الشريف, تهنئة بما أنعم الله علينا, وفرحا بمواهب تأييده لدينا, فكان ذلك مزيدا في السرور, ومستديما لحمد الشكور, ومجلبة لثناكم, وإعلانا لنيل مناكم, جزيتم حسن الثنا, مع كمال الوقار ونيل المني.. هذا وقد بلغنا نجلكم عن طلبكم الإذن في الحج إلي البيت الحرام, وزيارة روضته عليه الصلاة والسلام, للرغبة في ذلك, والترجي لما هنالك, وقد أذناكم في هذا المرام, تقربا لذي الجلال والإكرام, ورجاء لدعواتكم بتلك المشاعر العظام, فلا تدعوا الابتهال, ولا الدعاء لنا بالقال والحال, كما هو الظن في الطاهرين, والمأمول من الأصفياء المقبولين, والواصل لكم جواب منا خطابا إلي كتخدائنا, ولكم الإجلال والاحترام مع جزيل الثناء والسلام.. و..يعود السيد عمر مكرم إلي القاهرة في التاسع من يناير1819 وترتج القاهرة عند لقائه والترحيب به, ويقصده الأدباء والشعراء للتهنئة, إلا أنه اختار الاعتزال والبعد عن مواطن الظنون, ولم يسمح لأحد أن يزوره إلا جماعة قليلة من أقرب الأصدقاء الأوفياء.. و..لكن لم يقض إلا ثلاث سنوات ليقضي عليه بالنفي للمرة الرابعة.. فقد كان الباشا قد مضي في جباية الأموال لا يخشي معارضة ولا ممانعة, فلما جاء عام1822 زادت الضرورة إلي مضاعفة الجباية حيث وصلت إلي الإسكندرية في8 مارس ثلاث سفن تركية أمر السلطان بإمدادها بالمؤونة فاضطر الباشا إلي أن يفرض ضرائب جديدة علي الريف والحضر, فثار الشعب وهتف باسم السيد عمر لينقذه من الظلم, وما أن سمع محمد علي بصوت الهتاف حتي سارع بإرسال مندوبه السامي إلي بيت الزعيم القابع في الظل كافيا خيره شره في مصر القديمة أثر النبي وذلك في يوم15 ابريل1822 فوجد صاحب البيت نائما فاستأذن في أن يوقظوه, وما أن خرج السيد عمر مكرم من غرفته متطلعا ليجد ضابط الباشا حتي رحب به لينحني الأخير علي يده يقبلها ليطرح السؤال فيأتيه الجواب: خير إن شاء الله؟! يقول الضابط: سيدي الباشا يأمر بسفرك إلي طنطا, فلم يراجعه السيد عمر بل قال هادئا: متي أراد فأنا مستعد وسأعد سفينة للسفر فقال الضابط: كل شيء معد يا سيدي علي ساحل النيل في مصر القديمة.. فهز الشيخ الوقور رأسه قائلا: إذن هلم بنا.. وسافر بعبع محمد علي في ذلك المساء منفيا إلي طنطا.. ولم يبق في رحاب السيد البدوي طويلا فقد توفاه الله في نفس العام وكان سنه نحو سبعين عاما أنجب فيها ابنة واحدة هي حنيفة عمر مكرم التي تزوجت من ابن أخيه صالح والتي انحدر منها نسل بلغ من الأحفاد786 حفيدا. يرحل السيد الزعيم المجاهد عمر مكرم ولا نستدل علي ملامحه هنا في وطنه فصورته الوحيدة تسكن هناك في لوحة علي جدار متحف اللوفر بباريس كان قد رسمها له أحد فناني الحملة الفرنسية الذين قاموا بتسجيل كل ما علي أرض مصر في كتاب وصف مصر من بشر ونهر وأثر وشجر.. لكننا هنا في وطنه نسير علي خطاه للوقوف في وجه الطغاة العتاة.. وإذا ما كان الآذان في مسجده بالميدان يرتفع حي علي الصلاة فصدي التحرير في نفوس الملايين هو: حي علي الفلاح.. آذان بصلاة الاستسقاء التي ندعو الله فيها بعودة المياه إلي مجاريها, وعودة الروح إلي جسدها, بعدما أزهقت الأرواح, واختنقت الصدور من دعاوي الجاهلية.. اللهم ارفع مقتك وغضبك عنا بعدما غاض ماء النيل وجفت العروق وانكشف الحجر الراقد تحت الحجر القائم عند فم الخليج!! لمزيد من مقالات سناء البيسى