تغيب الموت زيجيينو بريجينسكى مستشار الأمن القومى الأمريكى فى عهد جيمى كارتر (1977-1981) يوم الجمعة الماضى عن 89 عاما بعد حياة حافلة بالأدوار المحورية المؤثرة فى السياسة الأمريكية منذ أن قام بهندسة عملية الجهاد فى افغانستان بالتعاون مع حكومات وجماعات دينية مثل الإخوان المسلمين- وهى الظاهرة التى نمت وترعرعت ثم أثمرت جماعات جهادية تملك قوات شبه نظامية بدعم من دول تملك المال ولا تملك العقل. بعد أربعين عاماً من تدشين الجهاد الأفغانى تجنى المنطقة العربية ثمرة البذرة الفاسدة التى تكلفت مليارات الدولارات وما أشبه الليلة بالبارحة!. ربما سوء حظ المنطقة العربية أن والد بريجينسكي- الذى كان يعمل فى مونتريال- قرر عدم العودة الى بلده بولندا خلال الحرب العالمية الثانية بعد أن اصبحت تحت الحكم الشيوعى فدرس الشاب العلوم السياسية والاقتصادية فى جامعة ماكجيل ثم فى هارفارد. وقدم رسالة الدكتوراه حول «الحكم الشمولى السوفيتى وعمليات التطهير» فى 1956، وأصبح استاذا فى جامعة كولومبيا. وقاده التخصص فى قضايا الشيوعية والعلاقات بين الشرق والغرب لمنصب المساعد الخاص للرئيس كارتر ومدير مجلس الامن القومى فى البيت الابيض. فقد كان ديمقراطيا، لكنه تبنى مواقف أقرب الى المحافظين فى مجال الامن القومى حيث أيد اتباع سياسة حازمة حيال الاتحاد السوفيتى السابق. وتركت الخلفية السابقة أثرا هائلا على توظيف بريجينسكى للدين فى اللعبة السياسية بين قطبى الحرب الباردة ووجد فى توظيف الإسلام السياسى فرصة لا تعوض لحشد مجتمعات بعينها ضد المعسكر الشيوعي!كيف صنع بريجينسكي أسطورة الإسلام السياسى لمواجهة الإتحاد السوفيتي..؟ عند دخول البيت الأبيض فى عام 1977، شكل بريجينسكي «مجموعة عمل الجنسيات» والتى استهدفت اضعاف الإمبراطورية السوفيتية عن طريق تأجيج التوترات العرقية وبخاصة الإسلامية بين شعوب المنطقة وكان إداة التنفيذ جراهام فوللر الرئيس السابق لمحطة المخابرات المركزية فى كابول وهو صاحب نظرية التركيز على بتسييس العالم «الإسلامي» نيابة عن المصالح الأمريكية. وقد انتهى الحال بفوللر اليوم وهو كاتب ومحلل شهير أن يقول فى آخر مقالاته لم أرأها فى عمري. بحسب معظم المعايير يستمر الشرق الأوسط فى التدهور، ويطفو أعداء جدد للولايات المتحدة أكثر من أى وقت على السطح. انها ظاهرة تستقطب الجهاديين من الشباب من الشرق والغرب وهم على استعداد لقتالنا - كل ارتفاع فى منسوب الدم هو بمثابة أمر مثير للشهوة «الجنسية» عند هؤلاء سواء قطع الرؤوس أو التفجيرات. وربما يكون الحكم على بريجينسكى فى غير صالحه على مستوى ما فعله بالمنطقة العربية من رعاية جماعات الإسلام السياسى بزعم الدفاع عن الدين فى مواجهة الإلحاد فى افغانستان إلا أن مكانته فى الفكر السياسى العالمى لا يمكن إنكارها.. فقد كان حاد الذهن ومنمقا فى عباراته ولا تخرج كلمة من فمه إلا وهو يقصد تماما ما يقول ويصعب أن تنجح فى أن تفلت أعصابه أو أن يتهور فى الكلام فى شهر يونيو من عام 2012، أجريت حوارا مع بريجينسكى كان فى أوج فترة اختلاط الأوراق على الساحة المصرية- وقبل وصول محمد مرسى إلى الحكم بعشرة أيام فقط- ووضعت له عنواناً من عبارات المفكر الاستراتيجى الأمريكى يقول «الشتاء العربى يدق أبواب المنطقة» بما هو قادم من مواقف قاصرة متخبطة من بعض النخب التى سعت إلى إبرام صفقات مع جماعة الإخوان من أجل الفوز بنصيب من كعكة السلطة وتعريض التماسك الاجتماعى والتعايش فى البلاد للخطر.سألت المفكر الأمريكى عن عبارة قالها فى غمار أحداث ثورة 25 يناير وهي: «الانتفاضة الشعبية هى إعادة تشكيل، ولكن قد لا تسفر تماما عما يتوقعه الناس!، فقال مازلت مقتنعا بما قلت، لقد قلت ذلك قبل عام تقريبا. وأعتقد أن الصحافة الغربية قد قدمت صورة درامية تمجد الثورة من خلال مصطلحات غاية فى التبسيط، تجمع ما بين الشعبوية (الأفكار السياسية والأنشطة التى تهدف لتمثيل الناس العاديين وتلبية احتياجات ورغبات المواطنين) والديمقراطية. الشعبوية هى جانب من جوانب الديمقراطية، ولكنها ليست هى نفسها، إنها نقطة انطلاق لإقامة نظام ديمقراطي. والشعبوية يمكن أن تكون غير متسامحة. كما يمكن أن تكون عنيفة. ويمكن أن تكون متطرفة فى آرائها. الشعبوية، من أجل أن تصبح هى الديمقراطية، تتطلب القيادة الرشيدة، وفى الوقت نفسه بعض المفاهيم المشتركة للديمقراطية ونظاما دستوريا حقيقيا. وأخشي، وقد قلت هذا مرارا وتكرارا، أن الربيع العربى قد يعقبه شتاء العرب. كان بريجينسكى فى التوصيف السابق للحالة المصرية يحلق بعين الطائر وليس من يدفعه الحماس، وربما المصلحة، إلى تبنى خيارات لا تتفق مع المصلحة العامة للمجتمع. وفى شأن الأخيرة، قال المفكر الاستراتيجى فى موضع آخر أثناء الحديث: على المرء أن يأخذ فى الاعتبار أن مصر نفسها هى بلد ذات تاريخ مثير للإعجاب بشكل كبير، ومع إحساس مواطنيها بالهوية الخاصة، ومع وجود إدراك كبير لأهمية دورها فى المنطقة. كل هذا، فى اعتقادي، يجب أن يكون عاملا من عوامل النظر فى أى توقعات بشأن التوجه الإسلامى المحتمل لنظام الحكم فى مصر - إذا كان هناك نظام يمكن أن نطلق عليه الوصف السابق. رأى بريجينسكى أن الهوية المصرية وإحساس مواطنيها بها هى عامل حاسم فى التعامل مع وصول الإسلاميين إلى الحكم، وهو ما حدث بالفعل فى 30 يونيو 2013 حيث خرجت الجماهير دفاعا عن تلك الهوية قبل البحث عن الاحتياجات الحياتية المعتادة!---شهادات من اقتربوا من بيرجينسكى وفوللر من المنطقة العربية لم تكتب بعد..فهل يمتلكون الشجاعة لكتابة ما عاينوه؟!. [email protected] لمزيد من مقالات عزت ابراهيم;