(1) «الأمور المؤكدة فى الشرق الأوسط اليوم .. هى مادة للتندر والضحك غداً» .. قرأت تلك المقولة قبل أيام قليلة فى عرض لكتاب «حرق سوريا» تأليف الصحفى المخضرم تشارلز جراس بصحيفة الأوبزرفر البريطانية، وتعنى المقولة أن السياسات التى ينتهجها البعض اليوم يمكن أن تصبح بسهولة إرثا من الماضى غداً. ويضرب المثال بدأب النظام الإيرانى على اطلاق تسمية «الشيطان الأكبر» على الولاياتالمتحدة إلا أن الواقع الجديد للمصالح الإستراتيجية يفرض عليهما التفاهم والجلوس على مائدة التفاوض، وأيضا، موقف واشنطن من الرئيس السورى بشار الأسد فى الأعوام الأربعة الأخيرة حيث تنبيء التطورات الأخيرة بتحول ربما ٌيقبل بالأسد طرفاً فى الحل السياسي. ربطت بين تلك المقولة وبين ما قرأته فى ثنايا وثائق الشرق الأوسط بالخارجية الأمريكية والتى تغطى الفترة ما بين عامى 1977-1980 (أفرج عنها يوم 19 أغسطس الحالي) حيث تكتشف أن الأنظمة التقليدية فى المنطقة لم تتغير طرق تفكيرها وسياساتها عما كانت عليه قبل أربعة عقود، فهم ينشدون من الولاياتالمتحدة الأمن والانتشار العسكرى الذى يؤمن مصالحهم، ولكنهم لا يريدون الاعتراف بالوجود الأمريكى بينهم أو حسب ما قال مسئول فى جهاز الأمن القومى الأمريكى وقتها فى أحد محاضر الاجتماعات: «هم يريدون أن يشعروا به، ولكنهم لا يريدون أن يلمسوه»!. (2) فى النصف الثانى من السبعينيات دب الهلع من الثورة الإيرانية فى مفاصل المنطقة العربية، ثم جاءت حرب أفغانستان لتقدم صيغة جديدة للتعاون بين واشنطن وبعض الحكومات العربية تقوم على توفير الحماية من أى تهديد إيرانى فى مقابل التعاون فى محاصرة السوفيت داخل أفغانستان. خرج السوفيت وتفككت الإمبراطورية الشيوعية ووضعت أمريكا وحلفاؤها الأساس لجماعات الإسلام السياسى وصدرت تلك الجماعات إلى قلب العالم العربى بعد سقوط بغداد حتى وصلنا إلى النسخة الأكثر شراسة من تلك التنظيمات والتى تهدد البشر والتاريخ. ما أخشاه هو أن تكون المقولة سالفة الذكر هى القاعدة التى تحكم الشرق الأوسط على الدوام، ويصبح تنظيم مثل «داعش» من المسلمات التى سيفرضها علينا صانعو السياسات فى العواصمالغربية (غدا) خاصة بعد أن ظهرت مؤخرا كتابات تشير إلى أن وقت توجيه ضربة قاضية للتنظيم قد فات، وأن علينا التفكير فى كيفية إدارة عملية احتواء التنظيم إقليمياً، فيما تتوقع دوائر إسرائيلية أن تظهر كيانات صغيرة قابلة للحياة، نتيجة محدودية نتائج العمل العسكرى ضد هذا التنظيم وغيره. وهو ما يجعل الدوائر الإسرائيلية مشغولة اليوم ببحث مستقبل أمن إسرائيل فى ظل وجود كيان مثل «داعش» قرب حدودها- حسب ما قالته صحيفة جيروزاليم بوست مؤخراً. (3) فى السنوات الأخيرة من السبعينيات، كانت حوارات كبار المسئولين الأمريكيين، وعلى رأسهم مستشار الأمن القومى زيجينو بريجينسكي، تدور حول توفير الإمكانيات الأمنية والعسكرية للدول الحليفة فى المنطقة العربية لمواجهة الخطر الإيرانى وأصدقاء السوفيت والفوضى الداخلية، فيما قالها صراحة واحد من إدارة جيمى كارتر أن تقوية الأمن الداخلى يسبق الدعوة إلى الانفتاح السياسى فى تلك الدول. اليوم، ظهرت «داعش» كمحصلة لتلك العلاقة المصلحية التى بدأت فى أفغانستان ثم تدحرجت كرة اللهب «الأصولية» حتى وصلت إلى الدول التى راهنت على الصديق الأمريكى بشكل كامل فى الحماية ولجم الأعداء من خارج المنطقة العربية ولو مضى مسار التاريخ فى طريقه ستتفاقم تلك الظاهرة الناشئة إلى مستويات أعقد بكثير مما هى عليه اليوم وساعتها يمكن أن نرى الأمريكيين والدواعش يتفاوضون على مائدة واحدة مثلما فعلوا مع الإيرانيين قبل شهور. (4) تكرار سيناريو الماضى والتركيز على حماية الحدود وحدها لمواجهة تنظيم غامض فى تكوينه ووحشيته وإعلامه لا يجدى نفعاً طالما بقى حال المجتمعات العربية دون تغيير حقيقى (اجتماعيا واقتصاديا) ودون أن تواجه تلك المجتمعات الوحش الذى بداخلها والمتمثل فى رداءة التعليم وغياب المشروع الاقتصادى وفرص الترقى الاجتماعى من خلال سياسات عادلة واستمرار مغازلة تيارات لا تستقيم أفكارها مع الدولة الحديثة. نعود إلى المقولة التى بدأت بها، حيث لا يوجد فى السياسة العربية ما يمكن الإطمئنان إلى نتائجه غداً ولا يستوعب رجال السياسة أن التحالفات مسألة «متحركة» وصديق اليوم ربما ينقلب إلى خصم فى وقت آخر.. لا نريد أن نتندر على ما فات فيما نغوص فى «رمال متحركة» لا سبيل للخروج منها!. لمزيد من مقالات عزت ابراهيم