صارت شعارات المنتصرين فى مقصورات الحكم فى عواصم العالم معزوفة تصم الآذان. معزوفة كاملة، تتشابه نغماتها، لا يفرق بينها أنواع الآلات؛ فرنسية كانت أم أمريكية أو بريطانية. شعارات عن قداسة الربح واسترجاع الكفاءة لبلاد كانت لها إمبراطوريات. فها هو الرئيس الأمريكى يتحدث عن إدارة أمريكا كمشروع أو (بيزينس)، بغض النظر عن أن عدداً من مشاريعه قد فشل! ففى فرنسا يتحدثون عن عودة الاستثمار الذى عرقلته بيروقراطية السوق الأوربية وهياكلها، فمن أين سيأتى الاستثمار؟ الإجابة: من بلاد المستعمرات الفرنسية السابقة أو دول النفط. أما فى بريطانيا، فالأمر لا يختلف كثيراً، إلا أن المسميات تتباين. فالحديث عن (دول الكومنولث) قد دخل دائرة الفعل، فإذا برئيسة الوزراء البريطانية تزور الدول العربية فتعود الروح لتعبيرات أنيقة كإستراتيجية (شرق السويس) البريطانية! وهى لا تضيع الوقت، فتزور المنطقة وتحول الزيارة إلى تجارة، فتبيع السلاح بالمرة. جميع المنتصرين فى دهاليز الحكم فى البيت الأبيض أو شارع الحكم البريطاني. وعما قريب فى الإليزيه يستدعون تذكره داوود لأولى الألباب فى العجب العجاب فتظهر شعارات وروشتات الرأسمالية فى القرن التاسع عشر؛ فيبدو كما لو أن العقبة الوحيدة أمامهم لعودة تلك الكفاءة هى الفقراء والمعدمين والمهاجرين. شعارات الكفاءة وأجوائها تذكرنا بفيلم أمريكى اكتسح العالم منذ سنوات اسمه (Wall Street). وهو فيلم عن ممارسات ما يطلق عليهم المستثمرون فى أسواق المال وأشهر أحيائها فى نيويورك. ففيه يقف بطل الفيلم أمام أطلال شركة استحوذ عليها بتراب الفلوس، فشرد عمالها وباع مكوناتها لاحقاً بأضعاف سعر الاستحواذ. يشرح الرجل المستثمر النموذج فلسفته لشاب يسعى للثراء هو الآخر قائلاً عن الجشع: «الجشع جيد وضروري.. الجشع يشق كالسكين ويفكك المكونات ويحقق الربح» إنه الجشع النهم الشرس، يعود ويتقدم ويرفع راياته، كالطاعون الأسود فى القرون الوسطى الذى فتك بأوربا ولكن ضحاياه هذه المرة مهددون بفقدان المعاشات والضمانات الصحية. تتقدم أحزاب إعادة الهيكلة الأوربية فى أوربا، تتصايح عبر أوربا والعالم كله مطالبة بتخفيض الضرائب على الأفراد والمؤسسات؛ فوصفتهم السحرية تقول: «إنك إذا خفضت الضرائب فسيتزايد الاستثمار وتتسع دوائره. ثم إن الاستثمارات الناجحة الرشيقة ستقتص من الكسالى والعجزة وتزيحهم عن الطريق.» ولكن المعزوفة لا تتوقف هنا، ففيها أيضاً الدعوة المستترة للنقاء الأوربى وإيقاف المهاجرين المقتحمين لأوربا وشمال أمريكا من الشرق والجنوب. الاقتصاد محرك التاريخ، فهل تحل أبجدياته لغز الحملة المتصاعدة ضد السوق الأوربية واستخدامها الخطر لشعارات شبه عنصرية فى مجتمعات بها ملايين المهاجرين وأبناؤهم بل وأبناء أحفادهم؟ فهناك من يدير حملة سياسية متكاملة ضد السوق الأوربية المشتركة، وهناك من يحرص على تقديم السوق الأوربية المشتركة للشعوب الأوربية كمترادف لأبواب الهجرة المفتوحة، وبالتالى غياب الأمن وتصاعد الإرهاب. وهناك من يدير حملة ضد كيان السوق الأوربية الإدارى والسياسى باعتبارهم مجموعة من الموظفين غير المنتخبين الذين اختطفوا سلطة صناعة القرار فى أوربا. الجماعات السياسية والإعلامية التى تدير تلك المعركة هى فى أغلبها أحزاب هجين مع أحزاب اليمين أو جماعات (وظيفية) ظهرت خارج المسار التاريخى للأحزاب الأوربية، وهى جماعات لا برامج لها تقريباً إلا الدعوة للخروج من السوق ورفع شعارات القومية. وتعبير «أحزاب وظيفية» تعبير مقصود فهى أحزاب توجد اليوم لتؤدى هدفاً محدداً ومتبلوراً هو تفكيك السوق الأوربية بأى وسيلة، ثم يتبرأ منها الجميع بعد نفاذ المهمة أو تتبخر من سطح الحياة السياسية الغربية. واختفاء هذه الأشكال والجماعات السياسية حتمي، فأغلبهم إن لم يكونوا جميعهم دعاة لعنصرية ضروريه شبه معلنة، فعبر موجات العنصرية يستطيع المرء دفع الجموع المعادية للآخر بالتصويت، لأى برنامج سياسى حتى لو كان هذا البرنامج ضد مصالحها الاجتماعية ذاتها. والنتيجة المؤكدة أنه صار هناك قطاع من الجماهير والناس يتحرك كتيار ضد السوق الأوربية. ولكن السؤال يبقي: «لمصلحة من؟» وهناك نافذون فى دول أوربا ممن يعتقدون أن السوق الأوربية المشتركة هى مشروع (ألماني). ويدللون على هذا بتصاعد فائضها التجاري؛ بل ويصف هؤلاء عملة السوق الأوربية (اليورو) بأنها عملة ألمانية. فتوحيد العملة الأوربية لم يتبعه توحد محاسبيٌّ عبر أوروبا؛ فهكذا تظل الديون الأسبانية أو الإيطالية أو اليونانية مشاكل محلية لهذه الدول قد تساعدها فى مواجهتها البنوك المركزية الأوربية. ولكن تلك المساعدات غير ملزمة. فالناقدون للمشروع الأوربى الكبير يحددون بوضوح أن (توحد العملة) يختلف عن التوحد الأوربى وما يستتبعه من توحد سياسي، وفى الميزانيات وغيرها. ففى نظرهم أن الوحدة الأوربية لم تتحقق بعد. فبدون (وحدة محاسبية) عبر أوروبا فالمشروع متخبط ولا أفق له. تلك الوحدة المحاسبية تستلزم أن تفقد ألمانيا ما يقترب من 5% من ناتجها القومى حتى يتحقق هذا. وهو ما لن يقبله الألمان ذاتهم . والعملة الأوربية كذلك محل تساؤل أمريكي، فالسوق الأوربية أو ألمانيا تمثل منافسة للدولار الأمريكى وللمنتجات الأمريكية، ولهذا فإن هناك من يتمنى تفكك هذا السوق. كما أن عالم العملات الدولية شهد صعوداً ضخماً للعملة الصينية التى بدأت الطريق الطويل لتحولها هى الأخرى إلى عملة دولية. هذا الطريق يمر عبر بوابات البورصة الإنجليزية التى تطرح نفسها كاللاعب والرابح الأساسى من عمولات إصدار سندات بالمليارات فى عملية تحول اليوان الصينى إلى عملة دولية فى عالم الاستدانة وعالم الإقراض. تغيير أوربا وتفكيكها هدف لقويً كثيرةٍ إذن، ولكن تلك القضايا الاقتصادية والسياسية هى أبعد ما تكون عن عقل المواطن الأوربى العادي. لكن إثارة الرعب والفزع من اختلال الأمن ومن الأزمة الاقتصادية ومن العداء للمهاجرين والإسلام مفاهيم بسيطة من الممكن المتاجرة بها. وقد ظل الدولار لعقود طوال هو عملة العالم الأساسية فى عالم متعدد العملات، إلى أن ظهر اليورو كعملة للدول الأوربية أو عمله ألمانية دولية كما تحسبها قطاعات مصرفية واقتصادية وسياسية فى إنجلترا التى نأت بنفسها عن مشروع العملة الأوربية الموحدة. وحيث أن المانيا فى قلب المشروع بتقاطعاتها داخل المراكز الاقتصادية الاوربية فربما يجب أن ينظر المرء الى برلين ودوائر مفكريها السياسيين والاقتصاديين فبلا شك سيكون لديهم رؤية وردود عما يدور على ساحتهم وربما يكون ما دار أخيرا فى هولندا هو انتصار ألمانى قد يعقبه شبيه أكثر ترددا فى فرنسا. فساحة أوربا هى ساحة ألمانية حتى وإن إطلق عليها اوربا الموحدة بدلا من المانيا القوية اقتصاديا والغامضة سياسيا والضعيفة عسكريا. فى العشرين عاماً الأخيرة صعدت العملة الصينية وصارت الصين أهم مدين للولايات المتحدة، فهل آفاق التفكك الأوروبى ضرورة لاستمرار وتعزيز هيمنة الدولار؟ ربما لا تكون السوق الأوربية المشتركة خطراً، ولكن قد يكون اليورو فى عصر صعود اليوان الصينى غير جذاب. لمزيد من مقالات د. حازم الرفاعي;