تغيرت شعارات الفلسطينيين عدة مرات فى القرن الماضى أمام المشروع الصهيوني. ويبدو أن هناك ضرورة عاجلة أن يقيّم الشعب الفلسطينى أوضاعه أمام واقع جديد يغير شكل العلاقات الدولية بشكل غير مسبوق منذ الحرب العالمية الثانية. فالتغيرات فى شمال العالم تعصف بمشاريع سياسية بدا أنها حقائق راسخة كمشروع السوق الأوروبية المشتركة. هذا المشروع الذى تهاوى نتيجة التفوق التجارى الألمانى الذى كشف بوضوح أن عملة السوق الأوروبية ما هى إلا عملة ألمانية فى الأساس، وأن ألمانيا قد امتلكت السوق ولكنها لا تود دفع الفاتورة الكاملة لتوحد العمله فى أوروبا، فهى تترك أضعف دول السوق كاليونان وإيطاليا وأسبانيا تواجه مصير أزماتها الاقتصادية العارمة. المشروع الأوروبى الكبير مثل تهديداً ينذر بانفصام عرى المملكة المتحدة أيضا بطرحه بدائل واختيارات جذابة للقوى القومية فى الجزر البريطانية كاسكتلندا وإيرلندا. فتحت التطورات الأوروبية أبواب مراجعات أوضاع العالم: فقداسة المشاريع الأوروبية ذاتها تتهاوى، فما بال الشرق الأوسط؟ انهيار المشروع الأوربى الكبير بآلياته المتداخلة فى الشرق الأوسط ورؤاه لحلول مشاكلها تحمل مخاطر للشعب الفلسطيني، ولكنها أيضاً تحمل آفاق مراجعة جادة للمشروع الصهيونى ذاته. فهذه التطورات كلها ما كان يمكن أن تخطر على خيال قيادات ونخب العالم منذ شهور، ولكنها تتحول بسرعة إلى واقع جديد يتشكل وسط تهديدات بفوضى دولية. تعددت مفارق الطرق التى واجهت الشعب الفلسطينى ومكوناته المتناثرة فى الشرق الأوسط وحول العالم، ولكنهم استطاعوا الحفاظ على هويتهم ووحدة نضالهم وبؤرته رغم المحن، فكان تبنيهم لشعار الدولة الفلسطينية المستقلة على الأراضى المحتلة عام 1967 دلالة على واقعية فلسطينية ضرورية أمام مشروع شرس مستمر فى التوسع. ثم كانت الانتفاضة الفلسطينية هى علامة أخرى لحيوية النضال الفلسطينى ووحدته. فلقد انتقل مركز نضالهم من (مكون فلسطيني) إلى آخر. فانتقل النضال الفلسطينى من المخيمات لفلسطينى الضفة وقطاع غزة فلقد تصادمت الكتل البشرية الفلسطينية مع الاحتلال بشكل أذهل العالم وأجبره على التفاوض معهم كشعب له قضية عادلة. تحطمت آمال الفلسطينيين نتيجة لاختلال موازين القوى. فإسرائيل كانت (وربما لن تستطيع لاحقاً) قادرة على تشكيل وجهات نظر أركان الإدارة الأمريكية والمشاركة فى خلق سياساتها. فقد تبنت الإدارات الأمريكية وصقورها الرؤية الإسرائيلية التى دفعت بالعالم وبالشرق إلى المأساة الحالية والتى نتج عنها فيضان المهاجرين ومذابح سورية وليبيا وغيرهما. تلك الرؤية الإسرائيلية روجت أن الإسرائيليين طلاب سلام وان مشكلة الشرق الأوسط مصدرها أن المجتمعات العربية غير ناضجة لتقبل هذا الأمر. فالرؤية الصهيونية هى رؤية عنصرية تتلاقى فى عنصريتها مع اليمين حول العالم, وتلك الرؤى ببساطة أن شعوب الشرق هى شعوب متخلفة، وأن المعبر الحقيقى عنها هو الإسلام السياسي، وأن المعضلة هى فصل هذا الإسلام السياسى عن توءمه الجهادي. وهذه الرؤية تصب فى الأساس لصالح إسرائيل فهى تحرف النظر عن جرائمها. الصهيونية ذات الجذور الأوروبية تعرف الفكر الأوروبي، وتتفهم مكوناته، وتتكلم لغته، وتتحاور بمفردات فكره. فالحركة الصهيونية تتفهم الرؤى الاستشراقية الراسخة فى الغرب. فهى رؤية قديمة وضرورية لتبرير الاستعمار وهى تخلق من الإنسان العربى إنساناً غريباً يختلف فى تطلعاته وآماله عن الإنسان الأوروبي. وهكذا فلقد تبنى أوباما النموذج التركى وتبنى رؤية متعاطفة مع الإسلام السياسى فى العالم العربى فدبت الهمة فى مشروعهم. لكن الثمن الإنسانى الباهظ للمشروع فى الشرق وتزامنه مع أزمة اقتصادية أمريكية وصعود وصلابة الإرادة الروسية.. كل هذا عقّد المشروع وفرض على أركان مهمة من الإدارة الأمريكية مراجعة رؤاها فى الشرق الأوسط. فهناك وسط الأمريكيين من يدرك أن هناك من ورطهم فى أزمة كبيرة. فلقد خبرت بعض مؤسساتهم الفرق بين الحقيقة والأكاذيب الإسرائيلية. وصار الحديث السلبى عن الصلف الإسرائيلى وعنصريته مطروقاً ومتكرراً لمفكرين غربيين. ولقد أثبتت الأيام عدم احتياج الولاياتالمتحدة لإسرائيل. فلقد تعمق أوباما وإدارته فى مشروع تشكيل الشرق الأوسط الجديد دون استناد إليها بل ولقد رفض الأمريكيون أكثر من مرة الانصياع لطبول الحرب الإسرائيلية بشأن إيران ورفضوا التورط المباشر فى سوريا. وهناك اليوم من صار يعتقد أن مسئولية الولاياتالمتحدة تجاه إسرائيل هى ضمان الهبوط الآمن للدولة العبرية وسط جيرانها وفقط. “فقط” تلك تعنى أن أمربكا لا تحتاج إسرائيل؛ فلقد استطاع الأمريكان تنفيذ مشروعهم فى الشرق الأوسط دون معاونة إسرائيلية، حتى لو كان المشروع يخدمهم كما يخدم الأمريكان. الولاياتالمتحدةالأمريكية تتأرجح، ويبدو أنها تود أن تتباعد عن مشروع الدولتين فحقائق السكان وانتشارهم ستجعل حل الدولتين غير قابل للحياة أو الاستمرار فيدور الحديث همساً لذلك عن مشروع دولة واحدة. هذا المشروع هو شعار يحمل عشرات التفسيرات: فوسط الفلسطينيين يوجد من يعتبره هزيمة إستراتيجية كاملة لسنوات طوال من النضال وتضحيات جسيمة. وهناك من يرى أن مشروع الدولة الواحدة يسلم للإسرائيليين على طبق من ذهب تراجعاً فلسطينياً عن إدانات دولية لجرائم إسرائيلية خطيرة. تعريف الدولة الواحدة هو مربط الفرس. ولقد تأخرت النخب العربية فى البحث عّن آفاق هذا الأمر وتعريف التخوم التى تفصل بين مشروع عربى فلسطينى عادل ومشروع صهيونى هو ستار دخان للتعتيم على التوغل فى العنصرية والاضطهاد؛ ليس للفلسطينيين فحسب بل لعالم العرب كله. إن العالم يتغير ولكن هناك حقائق باقية ومنها أن أقدم مكونات الشعب الفلسطينى قد يصير هو مقدمة نضال الفلسطينيين فى مشروع الدولة الواحدة. هذا المكون هو فلسطينيو 1948 فى إسرائيل ذاتها؛ من حيفا لعكا ليافا والجليل والبالغ تعدادهم مليون ونصف المليون فلسطيني. فهؤلاء الفلسطينيون هم أكثر مكونات الشعب الفلسطينى احتكاكا بالدولة الإسرائيلية فهم جزء منها، ولا يمكن تخيل مشروع للدولة الواحدة دون أن يكونوا فى مقدمة صناعه. ولعل الكتاب الذى صدر حديثاً عن دار الفارابى باسم (شهادات على القرن الفلسطينى الأول) للكاتب الفلسطينى (إلياس نصر الله) يلقى الضوء على أصالة هذا المكون الفلسطيني. السفر الضخم الذى لقى اهتماما واسعا هو تجسيد للتاريخ الطويل والمتحدى للشعب الفلسطينى من خلال شهادات البسطاء من الناس ومآسيهم، ويجسد حقيقة أن الشعب الفلسطينى باق وأن ترابطه بالشعوب العربية حقيقة. أن التفكير والبحث فى مشروع الدولة الواحدة يدور فى دهاليز وأروقة صناع السياسة حول العالم وعلينا دراسة رؤية عربية لكيف تكون هناك دولة واحدة فى فلسطين فلقد تفرض علينا. لمزيد من مقالات د. حازم الرفاعي;