عندما سقط حائط برلين في نهاية الثمانينيات من القرن الماضي وتوحدت الالمانيتان ثم وافقت غالبية دول الأتحاد الأوروبي على إعتماد اليورو عملة موحدة، كان الاعتقاد أن القرن الحادى والعشرين هو «القرن الأوروبي». هذا التفاؤل كان قصير الأمد. فالقرن الواحد والعشرون قد يكون نهاية «المشروع الأوروبي». فافضل لحظة عاشها الاتحاد الاوروبي في تاريخه وهي توحيد الالمانيتين، تواجهها اليوم أسوأ لحظة في تاريخ الاتحاد الاوروبي وهي خروج بريطانيا. وأجواء التوتر والقلق التي سادت الإستعدادات للقمة الاحتفالية الأوروبية التي عقدت في روما يوم 25 مارس الجاري بمناسبة مرور 60 عاما على اتفاقية روما، حجر الزاوية في المشروع الأوروبي، تكشف عن حجم القلق الأوروبي. وهو قلق مبرر. فقبل الأحتفالات الرسمية بأيام، أعلنت بريطانيا أنها ستطلق يوم 29 مارس عملية بدء الخروج رسميا من الاتحاد الاوروبي بتفعيل المادة 50 من معاهدة لشبونة. وهذه أسوأ هدية عيد ميلاد في تاريخ الأتحاد الأوروبي. إلى جانب هذا ما زالت أزمة ديون اليونان وإيطاليا مستمرة تهدد البلدين سياسيا واقتصاديا وتهدد معهما منطقة اليورو كلها. أما حركات اليمين القومي الشعبوي فما زال خطرها محدقا. فحزب الحرية اليميني القومي الهولندي بزعامة جيرت فيلدرز لم يفز في انتخابات هولندا، لكنه جاء ثانيا وعزز مقاعده ب5 مقاعد. وأوروبا بإنتظار الأختبارين الأخطر في فرنسا في مايو، والمانيا في سبتمبر. وفوق كل هذا هناك خلافات داخل الاتحاد الأوروبي حول حدود الأندماج وسرعته بين الدول الأوروبية. المخاطر التي تواجه المشروع الاوروبي تجسدت أمام المستشارة الألمانية انجيلا ميركل في زيارتها غير المريحة إلى امريكا الاسبوع الماضي للقاء الرئيس الامريكي دونالد ترامب. فالرئيس الامريكي تعمد ألا يذكر كلمة «الاتحاد الأوروبي» ولا مرة واحدة خلال يومين من المباحثات مع ميركل التي لا تمثل المانيا فقط، فهى عمليا زعيمة الأتحاد الأوروبي. تجاهل ترامب الإشارة إلى «الأتحاد الأوروبي» تذكير مخيف للاوروبيين بالمأزق المصيري الذي يواجهونه. فكل من الإدارة الامريكية الحالية وروسيا يريدان تفكك المشروع الأوروبي. وسط كل هذا، بدأ قادة الأتحاد الأوروبي الذين شاركوا في القمة الأحتفالية في روما مناقشات رسمية حول إصلاح المشروع الأوروبي. هذه المفاوضات مجرد بداية، فهي ستستمر خلال الأشهر التسعة المقبلة وستختتم في ديسمبر المقبل في اجتماع للمجلس فى أوروبا بعد الأنتخابات العامة الحاسمة في المانيا. طول فترة المفاوضات هو بحد ذاته دليل على كيف يرى الأتحاد الأوروبي التحديات أمامه، فهي صعبة ومعقدة. أحد أبرز مسؤولي الأتحاد الأوروبي، جاي فيرهوفستاف حذر من أن الأتحاد الأوروبي «يمكن أن يختفي» فهو يواجه «لحظة مصيرية». هذا التقييم المتشائم ليس فقط بسبب خروج بريطانيا من الأتحاد الأوروبي، فالبركسيت أحد التحديات لكنه ليس كل التحديات. ولمواجهة تلك التحديات، أعلن رئيس المفوضية الأوروبية جان كلود يونكر خطة من خمس نقاط للنقاش خلال اجتماع روما تحت عنوان «سيناريوهات لأوروبا حتى 2025» للحفاظ على مصير الأتحاد الأوروبي بعد خروج بريطانيا منه. لكن خطة النقاط الخمس قوبلت بردود أفعال متباينة. فدول أوروبا الغربية الغنية على رأسها فرنساوالمانيا رحبت بها، لكن دول أوروبا الشرقية والوسطى الأقل غنى تلقتها بالكثير من الشكوك. الخطة التي أطلعت عليها «الأهرام» تحدد خمسة «مسارات للوحدة» بين الدول ال27 الباقية في الأتحاد الأوروبي. وتوضح الخطة في مقدمتها:«في عالم متقلب، فإن العزلة قد تكون مغرية للبعض. لكن عواقب التفكك والتشرذم ستكون بعيدة المدى. فهى ستجعل دول الأتحاد الأوروبي ومواطنيه ضحية أمام أطياف وأشباح الماضي، وستحولهم إلى فريسة لمصالح الدول الأقوى». أما خيارات الاصلاح التي وضعها يونكر، فقد تراوحت بين الحفاظ على الوضع الراهن في الاتحاد الأوروبي كما هو عليه وحمايته من المزيد من التدهور، أو إحداث تغييرات محدودة هنا وهناك يكون حولها توافق، إلى مقترحات إصلاحية أكثر طموحا تتضمن تعميق الاندماج السياسي والأقتصادي بين دول الأتحاد الأوروبي وخلق ما يشبه «الأتحاد الفيدرالي الأوروبي». وهذا المقترح يعني ضمنا أن بعض الدول الأوروبية ستمضي في مشروع التكامل والتقارب أسرع من غيرها، بحسب رغبة كل دولة وحساباتها السياسية الداخلية، وهو ما يفتح الباب ل»أوروبا متعددة السرعات» فيما يتعلق بمسارات الاندماج. ما يفضله يونكر كان واضحا. فهو قال إن «الرجوع للوراء ليس خيارا»، وان دعوات تقليص صلاحيات الاتحاد الأوروبي ومؤسساته في بروكسل لصالح المزيد من الصلاحيات للدول القومية في الأتحاد الأوروبي «لا يجب ان تجد اذانا صاغية». لكن دول أوروبا الوسطى والشرقية بقيادة المجر وبولندا الذين يخشون من أن يتم تهميشهم غير متحمسين لخيارات تعزيز الاندماج. فقد وعدت بولندا مثلا بالوقوف بحسم أمام أي «مشروع أوروبي متعدد السرعات»، يتضمن تعزيز الاندماج بين بعض الدول وترك الدول الأخرى على الهامش. وقال ياروسلاف كاتشينسكي زعيم حزب القانون والعدالة البولندي الحاكم في هذا الصدد:»لا يمكننا أن نقبل إي إعلان بخصوص أوروبا متعددة السرعات. فهذا سيعني إما دفعنا خارج الأتحاد الأوروبي. أو خفض مستوانا إلي أعضاء أقل شأنا. يجب ان نعارض هذا بكل الحزم». أما ميهالي فارجا وزير الأقتصاد المجري فحذر من أن الأعضاء الأقوياء داخل الأتحاد الأوروبي يمكن ان يسعوا إلى تهميش البلاد التي لم تنضم لليورو، قائلا ان هذا قد يؤدي إلى إضطرابات اجتماعية في أوروبا. لكن بالنسبة لبلاد أوروبية أخرى، فإن «المشروع الأوروبي هو بالفعل متعدد السرعات» عبر آليات تعزيز التعاون بين مجموعة من الدول داخل الاتحاد في مشروعات وقضايا بعينها لا تشارك فيها كل كتلة دول الاتحاد. ومنطقة اليورو هى أوضح مثال على ذلك. فهناك دول قبلت المشاركة في مشروع العملة الموحدة ما عزز التقارب بينهم، فيما رفضت دول أخرى الانضمام لمشروع العملة الموحدة. ايجاد أرضية مشتركة بين الدول الأوروبية التي تريد مزيدا من التقارب والاندماج، والدول التي تريد ان تسترجع حكوماتها الوطنية بعض الصلاحيات من بروكسل، لن يكون سهلا. فليست فقط الحكومات هي من يتردد في قبول خيار «المزيد من التكامل»، لكن الرأي العام الأوروبي لديه تحفظات على تعميق مستوى الاندماج داخل الاتحاد. ففي استطلاع للرأي اجراه مركز «بيو» في 10 دول أوروبية، قال 42% ممن تم استطلاع رأيهم أنهم يفضلون إعادة المزيد من الصلاحيات من بروكسل إلى الحكومات والبرلمانات الوطنية، مقابل 19% فقط أيدوا منح بروكسل المزيد من الصلاحيات. أزمة المهاجرين واللاجئين التي مزقت أوروبا بين 2015 و2016 لها تأثير كبير على الشكوك التي تعتري بعض الحكومات الأوروبية والمواطنين الاوروبيين حيال قدرة مؤسسات الاتحاد الاوروبي في بروكسل على اتخاذ القرارات الصائبة. فالنسبة لهؤلاء استقبال نحو مليون ونصف مليون لاجئ ومهاجر في أوروبا خلال عامين فقط «عين الجنون». التحديات أمام المشروع الأوروبي تتسع لتشمل أزمة الديون، والتعاون الدفاعي، ومستقبل منطقة اليورو وسط خلافات المانية وفرنسية حول هذا الموضوع. أيضا هناك العلاقات غير المريحة عبر الأطلنطي بين الأتحاد الأوروبي والإدارة الامريكية الحالية، ما يشكل تحديا إضافيا أمام الأتحاد الأوروبي في عالم متقلب. فالتعامل مع ترامب معضلة بالنسبة للكثير من الدول الأوروبية. فخطاب ترامب القومي العدواني حيال حلف شمال الأطلسي، والأتحاد الأوروبي، والحدود المفتوحة، يترك الأتحاد الاوروبي متوجسا من واشنطن. ففي زيارتها إلى واشنطن طالبت مسؤولة الشؤون الخارجية في الاتحاد الأوروبي فيديريكا موجيريني الولاياتالمتحدة ب«عدم التدخل في السياسة الأوروبية». لكن وبرغم التوجس، ليس لدي أوروبا شريك دولي أخر قادر على الحلول محل امريكا عسكريا وأقتصاديا. وزيارة ميركل إلى امريكا الأسبوع الماضي شهادة أنه بغض النظر عن حجم الخلافات فإن اوروبا تحتاج إلى العمل مع امريكا. ولميركل دور خاص في هذا المأزق الأوروبي. فالمستشارة الألمانية قد لا تحب ترامب أو ما يمثله، لكنها عمليا ساعدت على انتخابه رئيسا لامريكا. فهي كانت أكثر زعماء العالم الذين ذكرهم ترامب بلهجة سلبية بسبب سياسات الهجرة التي انتهجتها. فقد استخدم ترامب ميركل وسياساتها ك»بعبع» لإخافة الامريكيين من انتخاب مرشح له نفس النهج حيال الهجرة، في إشارة إلى هيلاري كلينتون. والتخويف من ميركل وسياسة الباب المفتوح إزاء المهاجرين واللاجئين لا شك لعب دورا كبيرا في انتخاب ترامب رئيسا لامريكا. وسط كل تلك التحديات يحاول الاتحاد الاوروبي أن يخفف من أثر ومخاطر خروج بريطانيا من الاتحاد. وفي هذا الصدد قال مسؤول في المفوضية الأوروبية ل»الأهرام»: «خروج بريطانيا جزء من جدول المناقشات في روما وليس كل المناقشات». لكن هذا نصف الحقيقة. فالاتحاد الاوروبي قلق فعلا من «تأثير الدمينو» بعد خروج بريطانيا. وسيحتاج الأتحاد الأوروبي إلى إعادة اكتشاف نفسه بعد البركسيت، لان انتهاج نفس السياسات لن يكون كافيا لانقاذه. فالاتحاد الاوروبي بدون التهويل او التهوين من خروج بريطانيا رسميا بنهاية هذا الشهر لديه تحديات كبيرة مصيرية. وقادته يعلمون هذا، ومزاجهم القلق خلال احتفالات الذكري ال60 لمعاهدة روما أكبر دليل على هذا.