كان المسئولون والقادة الدوليون منهمكين فى بحث المخاطر الدولية التى تتهدد الأمن العالمى فى اجتماعات مؤتمر ميونيخ الأمنى وسط أجواء متوترة، ومتوجسة، وأحيانا عصبية. فعلى مدار تاريخ اجتماعات ميونيخ التى تعود ل53 عاما، كانت المخاطر تدور عادة حول التطرف، الارهاب، الأسلحة النووية، الفقر وتباطؤ النمو وما يؤدي إليه من إضطرابات سياسية، الفساد، وقضايا المناخ. لكن هذا العام كان هناك خطر جديد على الطاولة شغل القادة والمسئولين الأوروبيين، ورد اسمه صراحة وضمنا خلال الثلاثة أيام التي انعقد فيها المؤتمر. اسم هذا الخطر الجديد هو: إدارة الرئيس الأمريكى دونالد ترامب بتقلباتها وصعوبة التنبؤ بما سيترتب عليها أوروبيا وعالميا. لم يحضر ترامب نفسه هذا الإجتماع أو أى اجتماع أخر في أوروبا الأسبوع الماضي، لكنه أرسل أقطاب ادارته البارزين مثل نائب الرئيس مايك بنس ووزراء الدفاع الجنرال جيمس ماتيس، والخارجية ريكس تيلرسون، والأمن الوطني جون كيلي وبعدد من أعضاء الكونجرس البارزين، لحضور منتدي ميونيخ الأمني، واجتماعات حلف الأطلنطي في بروكسل، وقمة العشرين في مدينة بون الألمانية لطمأنة الأوروبيين. المستشارة الألمانية انجيلا ميركل التي لا تحضر بالضرورة منتدي ميونيخ، لم تحضره العام الماضي مثلا، قررت حضور اجتماعات هذا العام للتواصل المباشر مع الإدارة الأمريكية، فهي على عكس رؤساء وزراء بريطانيا تيريزا ماي، واليابان شينزو أبي، وكندا جاستين ترودو، وإسرائيل بنيامين نيتانياهو، لم تقابل ترامب بعد وجها لوجه بعد تنصيبه رئيسا لأمريكا. كان حضور أقطاب الإدارة الأمريكية الجديدة اجتماعات ميونيخ فرصة كى يعبر القادة الأوروبيون عن مصادر قلقهم بصراحة وبدون تجميل. وهذا بالضبط ما فعلوه. ففي خطاب صريح، حذرت وزيرة الدفاع الألمانية أورسولا فون دير ليين أمريكا من أخذ العلاقات مع الشركاء الأوروبيين «كأمر مسلم به». ودعت ترامب وفريقه إلى مراعاة الروابط مع أوروبا. كما حذرت واشنطن من «تهديد التماسك الأوروبي» قائلة:»أصدقاؤنا الأمريكيون يعرفون جيدا أن لهجتهم حيال الإتحاد الأوروبي والناتو لها تأثير مباشر على تماسك قارتنا»، وذلك في إشارة إلى دعم ترامب العلني والحماسي لخروج بريطانيا من الإتحاد الأوروبي وتوقعه بخروج دول أخرى ما يهدد بتفكك المشروع الأوروبي كله. وأضافت:»اتحاد أوروبي مستقر هو أيضا من مصلحة أمريكا. كما هو الحال مع ناتو قوي وموحد»، موضحة أن أمريكا لا يجب أن تضع تحالفها مع أوروبا والناتو على قدم المساواة مع روسيا. كما أدانت حظر ترامب دخول المواطنين من سبع دول ذات غالبية إسلامية إلى أمريكا، محذرة من أن المعركة ضد الإرهاب لا يجب أن تصبح جبهة ضد الإسلام والمسلمين، وذكرت واشنطن بقيم الناتو وأوروبا ومنها رفض التعذيب، وذلك في انتقاد واضح لموقف ترامب من التعذيب. لا تستطيع أوروبا التهاون في تقدير تأثير ترامب عالميا وعلى اليمين الأوروبي تحديدا. فهذا العام ستشهد أوروبا انتخابات مصيرية وعلى رأسها الانتخابات العامة في فرنساوألمانيا. وأى تهاون أوروبى قد يعني أن ميركل نفسها، بسياساتها الانفتاحية المتسامحة حيال المهاجرين واللاجئين، قد تصبح ذكرى من الماضي بعد الانتخابات العامة فى ألمانيا فى سبتمبر المقبل. ويقول أرون ديفيد ميلر نائب رئيس مركز «وودرو ويلسون الدولي للباحثين:»ترامب يلغي كل ما فعلته إدارة أوباما خلال السنوات الثمانى الماضية. ليس فقط داخليا، بل خارجيا أيضا». الأوروبيون، الذين يمرون بلحظة ضعف تاريخية بسبب أزمة اليورو والبركسيت، يشعرون بأن ترامب بانتقاداته للناتو وعداوته للمشروع الأوروبي يكمل مثلث الخطر المحيط بهم. ويوضح ميلر ل»الأهرام»: «رسالة ترامب شعبوية ضد الهجرة والعولمة، وقد وجدت صدى في أوروبا بسبب حقائق على الأرض في الوقت الحالي. لا أعتقد ان ترامب يعادي جذريا الإتحاد الأوروبي. لكن الطريقة التي يعبر بها عن موقفه تخدم مواقف الرئيس الروسي فلاديمير بوتين الذي يود أن يري انقساما في الناتو وتفكك الاتحاد الأوروبى لأن هذا سيكون في مصلحة روسيا وسيسمح له بالتمدد في دول أوروبية. هذه الأهداف تحقيقها أصعب بكثير عندما تكون أوروبا موحدة ومدعومة من إدارة أمريكية مصممة على كبح جماح النفوذ الروسي في بلاد مثل أوكرانيا ودول البلطيق». وسط تلك المخاوف استمع القادة والمسئولون الأوروبيون إلى أقطاب الإدارة الأمريكية خلال مباحثاتهم في ميونيخوبروكسل وبون بحثا عن سبب للطمأنة، لكن هذا تحديدا ما لم يحصلوا عليه. فنائب الرئيس الأمريكي مايك بنس قال في كلمته في ميونيخ، التي استهلها بإعلانه إنه يتحدث باسم ترامب ثم ذكر اسم الرئيس الأمريكى 19 مرة فى كلمة استغرقت 20 دقيقة، قال إن «التزام أمريكا حيال حلفائها الأوروبيين لن يتزعزع». لكنه أيضا شدد على أن الأوروبيين يجب أن «يدفعوا» ثمنا مقابل ذلك الالتزام عبر زيادة حصتهم في تمويل الناتو، قائلا:»دعوني أكون واضحا في هذه النقطة. الرئيس الأمريكي يتوقع من حلفائنا ان يحافظوا على كلمتهم للوفاء بتعهداتهم. وبالنسبة للكثير من الدول الأوروبية هذا يعني ان الوقت حان لإعطاء المزيد». هذا الإنذار لم يرق للأوروبيين ونال خطاب بنس استقبالا فاترا. لكن رسالته كانت بالضبط الرسالة التي أراد ترامب إرسالها للأوروبيين. أما وزير الدفاع جيمس ماتيس فقد وجه تحذيرا مماثلا في كلمته خلال حضور اجتماع للناتو في بروكسل، قائلا إن على أعضاء الحلف زيادة حصتهم المالية، وإلا خفضت أمريكا التزاماتها حيال الناتو. كما دعا روسيا إلى الالتزام بالقانون الدولي. بينما قال وزير الخارجية ريكس تيلرسون خلال حضوره قمة العشرين في بون، عقب مباحثات مع نظيره الروسي سيرجي لافروف، إن امريكا ستسعي للتعاون مع روسيا فقط عندما يكون ذلك مفيدا للشعب الأمريكي. خلال كل هذه الاجتماعات واللقاءات بين المسئولين الأمريكيين والقادة والمسئولين الأوروبيين بين ميونيخ وبون وبروكسل، كانت هناك قضية واحدة غائبة تماما، لم يتحدث عنها أو يذكرها بالاسم أى مسئول أوروبى وهى: الإتحاد الأوروبى ودوره وأهميته. ليس هذا فقط بل أن بنس خلال كلمته وتصريحاته في ميونيخ لم يذكر كلمة إشادة واحدة بحق مضيفته وزعيمة أوروبا القومية أنجيلا ميركل وسط استياء وسخط واضح من الحاضرين، عبر عنه البعض علانية، ورأه البعض الاخر مؤشرا على أن ترامب وأقطاب إدارته لا يقدرون فعلا أهمية المشروع الأوروبي ولا يمانعون في تفككه تباعا. ويقول ديفيد ميلر في هذا الصدد:»لن يكون في مصلحة الأمن القومي الأمريكي لو تفكك الإتحاد الأوروبي. لكن علينا تقبل بعض الحقائق. سياسات ترامب ليست هى المسئولة عن ما يحدث في أوروبا. مثلا خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي كان مفاجأة للجميع لكنه يعكس تناقضات وضعفا منهجيا في بنية الإتحاد الأوروبي». من الواضح جدا أن هناك فجوة كبيرة بين كيف يرى الأوروبيون والأمريكيون تحالفهم ودور الإتحاد الأوروبى والناتو. فميركل في كلمتها في منتدى ميونيخ شددت على أن «الإنفاق العسكري» ليس المقياس الوحيد لالتزام الأوروبيين بحلف الناتو. كما هاجمت الكثير من سياسات ترامب، مشيرة إلى الأهمية الحيوية للمنظمات الدولية متعددة الأطراف من الأممالمتحدة والإتحاد الأوروبي وأهمية الديمقراطية وحرية الاعلام والحدود المفتوحة والتسامح. ثم تساءلت:»هل سنكون قادرين على العمل بتنسيق معا أم سنتراجع نحو سياسات انعزالية؟». أما رئيس المفوضية الأوروبية جان كلود يونكر فوجه في كلمته في ميونيخ رسالة لأمريكا ملخصها إن المساهمة في أمن العالم لا تقاس فقط بالإنفاق العسكري، مذكرا بحجم ما تنفقه أوروبا سنويا على المعونات الخارجية، ومساعدات التنمية للدول الفقيرة وجهود الإغاثة الانسانية. المخاوف الأوروبية من امريكا بقيادة ترامب، وضعها عارية على الملأ رئيس مؤتمر ميونيخ الأمني وولفجانج ايشنيجر بقوله:»العالم يمر بمرحلة غموض هائلة. خاصة فيما يتعلق بمستقبل العلاقات الامريكية -الأوروبية. القادة الأوروبيون والحكومات الأوروبية وأخرون يريدون معرفة كيف ستكون السياسة الخارجية الامريكية في هذه المرحلة الجديدة». بالنسبة له وغيره من المسئولين فإن الأوروبيين حالة السيولة التي يمر بها النظام الدولي والفراغ في القيادة، وتزايد الدور المدمر لتنظيمات متطرفة راديكالية تتحدى سلطة الدول الوطنية وسيادتها، كلها مؤشرات على أمراض تعتري هيكل النظام الدولي الحالي قد تؤدي إلى تهميش مركزية المشروع الأوروبي. ويقول ايشنيجر إن العالم على أعتاب دخول مرحلة يمكن تسميتها «ما بعد الغرب» و»ما بعد النظام». وبنظرة على المنظمات الدولية مثل الناتو، والأممالمتحدة، والإتحاد الأوروبي، ومنظمة الأمن والتعاون الأوروبي بكل المشاكل والمعوقات التي تمر بها هذه المنظمات الدولية يمكن رؤية أسباب التشاؤم. فكلها في تراجع «ما يعني أن النظام الدولي... بلا نظام». مشكلة إدارة ترامب في الوقت الحالي إنها لا تعطي تطمينات ايجابية كافية. بل تزيد الوضع خطورة برسائلها المتناقضة ورؤوسها العديدة. فترامب وفريقه المقرب، وعلى رأسه ستيف بانون وجارد كوشنير وكيلي كونواي، لا يتفقون مع كل ما يقوله مايك بنس أو ريكس تيلرسون أو جيمس ماتيس. ففي واشنطن يبدو وكأن هناك «إدارتين» وليست إدارة واحدة. فبينما كان أقطاب الإدارة الامريكية ينتقلون بين بون وبروكسلوميونيخ لطمأنة الأوروبيين، كان ترامب في فلوريدا يشيد أمام أنصاره بالبركسيت من جديد، قائلا:»كلكم جزء من حركة عظيمة...حركة تجتاح بلادنا وتجتاح العالم كله. أنظروا إلى البركسيت...الناس يريدون إستعادة السيطرة على بلادهم وعلى حياتهم». وبمواقف مثل هذه فإن قلق أوروبا وتوجسها وتوترها من إدارة ترامب سيتواصل.