الأحداث المأساوية التى شهدتها مصر يوم التاسع من إبريل وجعلت من عيد السعف الذى يحتفل به المصريون مسلمين وأقباطاً كعيد للسلام والبهجة إلى يوم حزن وبكاء ليس فقط لفقد الأحبة ولكن أيضاً لما أصاب الوطن من عدوان على مقدساته ورموزه وخرق لكبريائه وكرامته... يطرح السؤال الذى تكرر طوال الساعات الماضية نفسه بإلحاح ما الذى يجعل واحداً من أبناء الوطن يرتكب هذه الجريمة الشنعاء؟... وتأتى الإجابة على الفور أنه العقل الذى أصبح مغيباً بواسطة ماكينات غسيل المخ الآدمية والمتمسحة بالدين والمنتشرة فى قرى ونجوع مصر شمالاً وجنوباً.. شرقاً وغرباً.. بما تبثه ليلاً ونهاراً... فى عقول شباب مصر الذى أصبح نهباً لهؤلاء الضالين والمضللين الذين ينفذون أجندة الجماعات الإرهابية التى تعمل على القضاء على وحدة هذا الشعب ووحدة نسيجه الوطنى.. ما الذى حدث؟.. وكيف أصبح هذا حالنا؟ الذى حدث هو ببساطة أننا تركنا عقول الشباب نهباً لهذه الماكينات اللاآدمية تبث ما تبث فى العقول من فكر ظلامى يعادى العقل.. بل ويعادى وجدان الشعب المصرى الذى جُبل عليه لقرون وقرون... منذ مائة عام كان الشعب يخرج... أئمة المساجد مع القسس تتشابك الأذرع فى الأذرع ينادون «نموت وتحيا مصر» كان سكان مصر أثناء ثورة 19 لا يتعدون بضع عشر مليوناً.. كنا نعيش أيام النهضة التى أنجبت منظومة تعليمية راقية... تعمل على تنمية العقل.. فخرج منها رجال مثل على باشا مبارك الذى اقترح على والى مصر إقامة دار الكتب... فكانت تلك الدار التى أنشئت لتغرس حب القراءة والثقافة، وعندما تفجرت ثورة 1919 العظيمة.. كانت أول جامعة فى مصر قد افتتحت بأموال الذين تبرعوا بأطيانهم ومجوهراتهم، وفى مرحلة لاحقة أنشئت الجامعات الإقليمية، ونشأت مكتبات البلدية فى عواصمالمحافظات.. الإسكندرية والمنصورة ودمنهور والمنيا وبنى سويف وغيرها.. ونشأت الجمعيات العلمية.. فى مختلف المجالات... وخرجت أجيال وأجيال برموزها ونجومها فى الآداب والعلوم... وعندما حاولت السلطة أن تحجر على الفكر وتسحب شهادة العالمية من رجال مثل طه حسين وعلى عبد الرازق تصدى القضاء المصرى العظيم وأبطل هذه الأحكام... وعاد طه حسين حتى أصبح وزيراً للمعارف... وعاد على عبد الرازق ليصبح وزيراً للأوقاف.. تلك كانت فترة النهضة المصرية أو ما يسمى بالتعبير الشائع حقبة الزمن الجميل... ثم دار الزمن دورته واختفت مكتبات البلدية.. بل وأصبحت دار الكتب جزءاً من الهيئة العامة للكتاب... وأصبح الفكر الحر متهماً وأصبح المفكرون محلاً للملاحقات القضائية. تلك فترة ماتت فيها المكتبات العامة.. وشاءت الظروف أننى دعيت وقبلت كعمل تطوعى أن أسهم فى إنشاء مكتبة عامة يكون مقرها فى الجيزة... وكانت الداعية لى هى السيدة سوزان مبارك التى قامت فى العقد الأخير من القرن الماضى بجهود مشهودة فى مجال القراءة والمكتبات العامة... وافتتحنا مكتبة مصر «مبارك» العامة فى مارس 1995... ثم طورنا الفكرة فى مكتبتنا العتيدة وبعد أن كان المطلوب هو أن ننشئ مكتبة عامة واحدة... أنشأنا منظومة بلغت اليوم خمس عشرة مكتبة... وفى يوم السبت الماضى أى اليوم السابق مباشرة على يوم الأحد الدامى كان هناك احتفال رائع بمناسبة مرور اثنين وعشرين عاماً على بدء مسيرة مكتبة مصر العامة.. وجاء رجال ونساء وأطفال من مكتبات من مختلف محافظات مصر وغنوا وعزفوا الموسيقى وأنشدوا الأشعار.. وكان يوماً حافلاً ومشعاً بالبهجة... طبقا لآخر تقرير أصدره الاتحاد الدولي للمكتبات IFLA الذي يصنف الدول موضحا أمام كل دولة عدد المكتبات العامة التي بها وعدد السكان في هذه الدولة والعدد الذي تخدمه كل مكتبة... طبقا لهذا التقرير فإن نصيب الشعب المصري من المكتبات العامة هو مكتبة لأكثر من مليون نسمة.. بينما الدولة التي تسبق مصر مباشرة وهي كوريا توجد بها مكتبة عامة لكل مائة ألف أما في منطقتنا فإن إسرائيل كما هو متوقع تسبق الجميع حيث توجد مكتبة لكل تسعة آلاف فرد... أما في الهند التي دائما أحرص على مقارنة مصر بها فإنه يوجد مكتبة عامة لكل ثمانية وعشرين ألف نسمة... أما لماذا أذهب إلى اتخاذ الهند في مجال المقارنة فلأننا كنا في منتصف الخمسينيات نقف معها كتفا بكتف... وفي الثلاثينيات والأربعينيات كان قواد حركة استقلال الهند مبهورين بمصر... وأتوا إلى مصر لدراسة التجربة المصرية... مثلما أتى لي بكوان يو ا مؤسس سنغافورة الحديثة في الخمسينيات... لدراسة التجربة المصرية... وعندما اتفق عبد الناصر ونهرو على إنتاج طائرة مشتركة كان نصيب مصر هو إنتاج الموتور engine بينما ترك للهند إنتاج جسم الطائرة... في الخمسينيات بدأنا سويا في الاهتمام بالذّرة وتولى اللجنة الهندية العالم الهندي بها وتولى اللجنة المصرية العالم المصري إبراهيم حلمي عبد الرحمن... ومصر في هذه الأثناء كان لديها اكتفاء ذاتي في الغذاء وتصدر جانبا منه،بينما كان إنتاج القمح في الهند قاصرا عن تلبية حاجتها فكانت تستعين بالخارج... ولكن الهند الآن تنتج غذاءها وتصدر الفائض ودخلت النادي الذري، كما اقتحمت عالم الفضاء وعالم تكنولوجيا المعلومات وتصدر من البرمجيات أكثر من مائة وعشرين مليار دولار... وقد صنفت الأيكونومست في عددها الأخير الهند كسادس قوة اقتصادية في العالم.. ومنذ عدة أسابيع أطلقت الهند صاروخاً حمل مائة وأربعة أقمار صناعية دخلت جميعاً فى المدارات المحددة لها خلال نصف ساعة... ويثور السؤال المشروع عن العلاقة بين التقدم في الاقتصاد والعلوم والتكنولوجيا وبين المكتبات العامة؟ بالنسبة لنا فإن نشر المكتبات العامة لن يكون فقط عاملاً مهما فى تحقيق التقدم فى مختلف المجالات، ولكنه سيكون أيضاً عاملاً مهما فى نشر التنوير الذى يرتقى بالعقول ويرفض فكر التكفير والعنف والإرهاب.. فى حديث لى مع محافظ سابق لمحافظة من جنوب مصر... ذكر لى أن قرية من قرى هذه المحافظة كانت شبه مغلقة على أجهزة الدولة ولم يكن أحد يرغب أو يستطيع دخولها لأنها كانت فى قبضة هذا الفكر الظلامى... سألت هذا المحافظ هل كان الأمر سيختلف إذا وجدت مكتبة عامة بهذه القرية... فأجابنى أنه بالتأكيد كان الأمر سيختلف. من ناحية أخرى لم تعد القراءة والحصول على المعرفة مقصورة على الكتب بل أصبحت الوسائل الإلكترونية عاملاً أساسياً فى المعرفة، وفى مكتبة مصر العامة جاءت الجمعية الكويتية لمساعدة الطلبة وقدمت لنا مكتبة إلكترونية علمية تتيح 223 ألف كتاب إلكترونى وعدد خمسة آلاف دورية علمية إلكترونية وفقاً لآخر تحديث، وأصبحت هذه المكتبة الإلكترونية متاحة أيضاً لرواد مكتبات مصر العامة فى المحافظات . أدعو إلى إنشاء ألف مكتبة لأنني أوقن أنه من الظلم أن تُترك معركة الإرهاب ليحاربها بالبسالة والفداء التي تحارب بها قواتنا المسلحة والشرطة وحدها... بل يتعين أن تكون هناك معركة أخرى تتآزر معها وهي معركة التنوير لتجفيف منابع الإرهاب الذي يكمن في الفكر والعقل في الأساس. أدعو إلى إنشاء ألف مكتبة عامة لأنني أعلم أن هذه المكتبات هي التي احتضنت براعم أزهرت فكان هؤلاء العلماء والمفكرون وغيرهم من المبدعين الذين أنتجوا الزمن الجميل الذي كان له أكبر الأثر في النهضة المصرية التي أشعت على المشرق العربي كله. أدعو إلى إنشاء ألف مكتبة لأني عندما أذهب إلى إحدى العواصم للمشاركة في افتتاح مكتبة من مكتبات مصر العامة، سرعان ما يأتيني من يقول لي ولماذا لا تقام مكتبة أيضا في مدينتنا أو قريتنا... فأعرف أن التصحر والتجريف الذى أصاب الأرض فى مصر... قد امتد أيضا إلى العقول التي شبت محرومة من المكتبات بل والكتاتيب التي احتضنت في ماضي الزمان طه حسين وأحمد أمين ولطفي السيد ومن قبلهم محمد عبده وسعد زغلول ومن قبل كل هؤلاء علي باشا مبارك أبو التعليم في مصر الذي كان له فضل إنشاء دار الكتب المصرية في نفس الوقت تقريبا الذي بدأ فيه إنشاء المكتبات العامة والوطنية في أوروبا وأمريكا هذه المكتبة الرائدة التى تناوب على إدارتها في عهدها الذهبي أحمد لطفي السيد ومنصور فهمي وتوفيق الحكيم وغيرهم. أدعو إلى إنشاء ألف مكتبة عامة لأن وضع مصر الآن ليس فقط متدنيا في مجال المكتبات العامة بل هو متدن في مجال البحث العلمى... فحسب دليل Index المنظمة العالمية للملكية الفكرية فإن مصر تقع في مرتبة قريبة من الأخيرة وتسبقنا الدول العربية باستثناء الجزائر واليمن... أما الإمارات فتحتل المرتبة الأولى بين الدول العربية وتحتل الأردن المرتبة الثانية. ليس غريباً إذن أن الخريجين الأردنيين أصبحت لهم الآن ميزة تنافسية في منطقة الخليج في شغل الوظائف المهنية التي تحتاج إليها هذه الدول مثل الأطباء والمهندسين والمدرسين ليس غريباً أيضا أن يعلن وزير الزراعة المصري أن الزراعة في مصر لن تتقدم ما لم تحدث نهضة في البحث العلمي في مصر!! تقوم القوات المسلحة وقوات الشرطة بدور بطولى وتقدم أغلى التضحيات دفاعاً عن مصر وهى تواجه هذا الإرهاب الأسود والذى لا يعرف سوى التدمير والتآمر، ومن حقها علينا أن يشارك الشعب بكل إمكاناته فى حمل المسئولية... ومن أهم ما يمكن أن يتحقق به ذلك هو وجوب أن تكون هناك حركة التنوير من خلال المكتبات العامة ونشر ثقافتها... التى تستهدف كسب العقول والقلوب والوجدان... معركة تخوضها مع قوى الظلام التى تسعى لأن تستولى على العقول وبوجه خاص عقول الشباب ووجدانهم وتحويلهم إلى آلات تدمير وقتل وسفك للدماء... هذا الشباب لا يجد اليوم من يخاطب عقله ووجدانه ويجتذبه إلى آفاق الثقافة والفنون والإبداع... إن هذه العقول الشابة والقلوب المتحمسة هى الآن لب المعركة بين الفكر الظلامى وبين قوى التنوير... وليس هناك اليوم من يتصدى لهذا الفكر الظلامى وتجلياته فى الإرهاب والتدمير سوى القوات المسلحة وقوات الشرطة... وعلينا كمجتمع أن نقوم بواجبنا من أجل كسب معركة التنوير... وأرى أن أدواتها الرئيسية هى المكتبات العامة، التى تنتشر فى ربوع مصر ونجوعها... وتكون بمثابة مراكز إشعاع حضارى... ساحة للإبداع وتذوق القراءة والتعرف على كل ما هو جديد... فضلاً عن تذوق الفنون والتمتع بما تقدمه هذه المكتبات من دورات تدريبية وورش عمل... ليس هناك سقف لما يمكن لهذه المكتبات أن تقدمه، وأعرف ذلك من خلال تجربتى الشخصية عبر العشرين عاماً الماضية. ثمة تجربة ملهمة تأتيا من الإمارات، مرسوم بقانون من ثماني عشرة مادة أصدره رئيس دولة الإمارات خليفة بن زايد ودعا إليه محمد بن راشد ولى العهد ورئيس الوزراء... هذا قانون ملهم فيما ينص عليه من اعتبار القراءة حقاً للجميع، ونشر المكتبات العامة فى كل مناحى الإمارات بما فى ذلك مواقع العمل ومواقع الترفيه مثل المقاهى وغيرها... وتخصيص صندوق وطنى لدعم القراءة والمكتبات العامة وما يخدم البحث العلمى والإبداع. والواقع أننى أتابع منذ فترة مسيرة الإمارات والتقدم الذى حققته فى مختلف المجالات، وألاحظ على سبيل المثال أنها قد حققت موقعاً متقدماً فى دليل البحث العلمى الذى نشرته أخيرا المنظمة العالمية للملكية الفكرية... فهى مع كل من قبرص وإسرائيل تحتل المرتبة الأولى فى المنطقة فى مجال البحث العلمى والاختراع... عندما أدعو اليوم إلى بناء ألف مكتبة فإن ذلك لن يكون إلا خطوة أولى لأنها ستعنى أن تكون هناك مكتبة لكل مائة ألف مواطن أخذاً فى الاعتبار أن مصر ستكون مائة مليون مواطن بعد ثلاثة أعوام هذا بينما هناك دول توجد فيها مكتبة عامة لكل ألفى مواطن أو أربعة آلاف أو ستة آلاف، فأن يكون لدينا مكتبة لكل مائة ألف، فإن ذلك لا ينبغى إلا أن يكون سوى خطوة أولى... حتى نصل مثلاً إلى مستوى الهند التى يوجد بها مكتبة عامة لكل ثمانية وعشرين ألف مواطن هندى. ليست الهند وحدها هى التى تسبقنا بل يسبقنا غيرها كثيرون.. إننى أناشد الرئيس السيسي أن يدعم مبادرة الألف مكتبة فى مصر وأن يصدر قانوناً يجعل القراءة حقاً لكل مواطن والمكتبة العامة حقاً لكل تجمع بشرى ... ليس كثيراً على مصر أن تستهدف الوصول إلى المستوى الذى وصلت إليه الهند فى مجال المكتبات العامة... وفى اعتقادى أنه ليس فقط بالكثير بل إنه أيضاً ليس بالعسير..