فى الأسبوع الماضى تم اكتشاف تماثيل محطمة من معابد أجدادنا الفراعنة فى منطقة المطرية والتى كانت تعرف ب «هليوبوليس القديمة» أو «مدينة الشمس» أو «مدينة أون»، وهى كانت مدينة علمية لاهوتية بها معابد ومكتبات زاخرة بالعلوم والفكر اللاهوتى لأجدادنا الفراعنة. وقد تزوج يوسف الصديق ابنة فوطيفارع كاهن أون كما يذكر هذا سفر التكوين من التوراة. كما أنها إحدى محطات رحلة العائلة المقدسة التى فيها جلست تحت شجرة احتمت فيها وهى المعروفة بشجرة مريم. وكان الاكتشاف لتماثيل محطمة من بقايا أحد المعابد التى كانت منتشرة فى هذه المنطقة، ونظرا للجدل الذى حدث فى طريقة انتشال التماثيل المحطمة خرج علينا أحد المتخصصين فى الآثار ليقول أمام الرأى العام إن هذه التماثيل كانت محطمة أصلا وقد حطمها الأقباط فى القرن الخامس. وقد اعتدنا على إلصاق التهم جزافا بالأقباط فهناك من يصفهم بالكفرة، وآخر من يرى أن الكنائس بها أسلحة، وآخر من يتهمهم بالعمالة للخارج. ولكن نتعجب كثيرا حين تخرج هذه الكلمات من متخصصين فى الآثار والتاريخ، وسنعود لمناقشة هذه الفكرة بكل جوانبها. أولاً: لا توجد فى العقيدة المسيحية تحريم التماثيل والصور، بل إن الأيقونات والصور من نسيج الطقوس الدينية المسيحية، فلا توجد كنيسة فى العالم ليست بها أيقونات أو صور.وفى الغرب التماثيل جزء أساسى من بناء الكنائس. بل حين حدثت ثورة فى أوروبا على الأيقونات والتماثيل فى القرن الثامن نتيجة اقتناع الإمبراطور ليو الثالث بأنها توحى باستمرار الوثنية رفضت الكنيسة هذا المفهوم وتمسكت بوجود الأيقونات فى الشرق والتماثيل فى الغرب، وعلمت أنها ليست للعبادة ولكنها نوع من أنواع الفن التعبيرى للأفكار المقدسة التى تجعل المصلى يعيش فى هذه الأحداث. ثانياً: تاريخ المسيحية فى مصر لم يخبرنا بأى هجوم على معابد الفراعنة، أو حتى الإقلال من شأن تاريخ الأجداد، أو احتقار أفكارهم.وبالرغم من العصور التى كانت الأغلبية فى مصر مسيحية وانتشار الكنائس فى كل ربوع مصر لم يحدث أن علمت الكنيسة بهدم معابد الفراعنة أو محو آثار وجودهم وأفكارهم المنتشرة فى كل أنحاء القطر المصري. وحين جاء القديس مرقس إلى الإسكندرية وكرز بالمسيحية لم يعلم أى تعليم ضد أفكار الفراعنة بل كما ذكرنا حين سمع عن الإله الواحد فى مصر قال إنه جاء ليخبرهم بالمسيحية التى تعلم بالإله الواحد، بل أنشأ مدرسة الإسكندرية اللاهوتية التى كانت تُعلم بجانب الديانة المسيحية الفلسفات والفلك والعلوم والطب والموسيقى والشعر. بل أكثر من هذا نجد فى المتحف القبطى جداريات من آثار إهناسيا ترجع تاريخها للقرنين الرابع والخامس كانت علامة «أونخ» الفرعونية (مفتاح الحياة) تزين الكنائس القديمة. وفى دير الأنبا شنودة بالصعيد نجد أيضا علامة «أونخ» بداخل الدير وهى من القرن الخامس. بل أكثر من ذلك أننا نجد فى معابد كثيرة للفراعنة يوجد مذبح مسيحى كانت تقام فيه الصلوات داخل المعبد، ففى الفرنين الرابع والخامس بعدما أصبحت مصر كلها مسيحية وأبطلت العبادة الفرعونية لم يهدم الأقباط تلك المعابد أو يكسروا التماثيل بل صنعوا مذبحا للصلاة داخل المعبد وأبقوا على عناصر المعبد كما هي. بل الأعمق من هذا أن المسيحية فى مصر أبقت على بعض العادات والطقوس الفرعونية التى تتماشى مع الفكر المسيحى مثل؛ صلاة الثالث والأربعين للمتوفى وهى إحدى العادات الفرعونية. بل أبقت على الاحتفال بالنيل وجعلته فى عيد الغطاس، والاحتفال بشم النسيم بكل عناصر طقوسه الشعبية التى كانت ترمز لأفكار فى الديانة الفرعونية ولكنها جعلته اليوم الذى يلى يوم عيد القيامة. ولعل السؤال الآن لماذا قيل إن الأقباط حطموا التماثيل فى القرن الخامس؟ وهذا يحتاج لتدقيق تاريخي، ففى القرن الخامس وتحديداً عام 385م. أصدر الإمبراطور الرومانى ثيؤدوسيوس قرارا بهدم كل معابد الأوثان فى أرجاء المسكونة وإبطال العبادة الوثنية فى كل العالم. ويجدر الذكر هنا أن شقيق الإمبراطور قد جاء إلى مصر وترهب بها وعاش فيها ناسكا متوحدا وصار قديسا كبيرا وهو القديس كاراس. وكانت مصر فى هذا الوقت تحت الاحتلال الرومانى وجاء القرار فهاج الوثنيون فى الإسكندرية التى كانت لا يزال بها عدد كبير منهم، وحدثت فتنة كبيرة إذ كانوا يختطفون المسيحيين من الشوارع ويقدمونهم ذبائح بشرية على مذبح سيرابيس بالسيرابيون. ووصل الأمر للإمبراطور فأرسل جنودا يهدمون مذابح الأوثان بالإسكندرية وفى كل مصر وحطمت التماثيل الوثنية فى ذلك الحين، وهذه الحادثة معروفة فى التاريخ فى العالم كله. ولكن حطمت التماثيل الوثنية الرومانية فقط التى كانت تستخدم للعبادة أما التماثيل التى كانت فى شوارع الإسكندرية فلم تتحطم. أما المعابد المحطمة فى المطرية وعين شمس أو هليوبوليس القديمة فلها حادثة شهيرة ذكرها المؤرخ هيرودوت، وهى فى عام 525 ق.م. طلب قمبيز أن يتزوج ابنة فرعون مصر أحمس الثانى فأرسل له فتاة أخري، وحين اكتشف ذلك قمبيز قرر احتلال مصر فجاء إلى مصر واحتلها، وكان أحمس الثانى قد مات فأمر بإخراج جثته وأخذ يضربها وحرقها. ثم دخل إلى معابد مدينة أون التى هى المطرية وعين شمس وضربها بالحديد والنار وحطمها تماماً. وهذه الحادثة معروفة تاريخيا أن الذى حطم تماثيل ومعابد هليوبوليس هو قمبيز الفارسي.وقد كان الاحتلال الفارسى دائماً يفعل هذا بآثار مصر فالاحتلال الثانى 621م. حين هزم كسرى ملك الفرس الرومان فى مصر دخلوا على الكنائس والأديرة والمعابد المصرية وحطموا أغلبها. وقد حدث أيضا تحطيم لآثار مصر نتيجة زلازل شهيرة مثل زلزل عام 27 ق.م. الذى تحطم على أثره بعض المعابد فى الجنوب. وزلزل عام 360 م. الذى حطم الآثار البطلمية والفرعونية فى الإسكندرية وغرق كثير من تلك الآثار فى البحر. هذا بجانب ما تحطم من آثار نتيجة الإهمال والجهل عبر التاريخ. وبعد هذا السرد التاريخى نتمنى أن من يتكلم عن الأقباط أو تاريخهم أن يبذل مجهودا فى البحث أو أن يسأل قبل أن يلصق التهم. فلم يوجد فى العالم كله مثل الأقباط حافظوا على هويتهم المصرية فلولا حفاظنا على اللغة القبطية التى حاول الكثيرون أن يمحوها لما اكتشف شامبليون مفردات اللغة المصرية القديمة. والذى يستمع إلى الألحان القبطية يستطيع أن يدرك أننا حافظنا على الروح المصرية. فالأقباط هم المصريون الذين أحبوا تراب وطنهم، وحافظوا على كل ما فيه من حضارة وإشراق وروحانية. وإلى الآن العالم كله يأتى إلى مصر ليرى هذا التناغم الحضارى الفريد من عصور قديمة وحديثة، ومن روحانية تتغلغل فى الأحجار والأيقونات لتخبرهم عن الهوية المصرية التى لن تموت. بل وحضارة معاشه فى أعياد تمتزج فيها تقاليد الماضى بالحاضر، وأياد تتكاتف بحب فى حماية هذا الوطن وتاريخه وآثاره. كاهن كنيسة المغارة الشهيرة بابى سرجة الاثرية لمزيد من مقالات القمص أنجيلوس جرجس