لا تعدو مسيرة التقدم أن تكون صيرورة علمنة متعددة المستويات، فثمة علمنة للطبيعة نزعت السحر تدريجيا عن ظواهرها ما أفسح الطريق إلى نمو التفسير العلمى وصولا إلى المنهج التجريبى. وثمة علمنة للسلطة السياسية اقتنصتها من ادعاءات الحق الإلهي المقدس وقبضة الكهانة الدينية، ودفعت بها على طريق الأصول المدنية نحو الديمقراطية السياسية. وعلى عكس الإيجابية الكبرى لعلمنة الطبيعة والسلطة، ثمة صيرورة أخرى سلبية تتمثل فى علمنة الإنسان نفسه، انبثت فى سياقهما، وأفضت تدريجيا إلى التعاطى مع الكائن الإنسانى المركب باعتباره كيانا مسطحا لا أعماق له، تنزع عنه ليس فقط سحر الألوهية الذى منحته إياه قصة الخلق التوحيدية، بل أيضا سحر الذاتية والروحية الذى أضفته عليه الفلسفة الحديثة منذ الكوجيتو الديكارتى، وحتى التعالى الترانسندتالي الذى أسبغه عليه كانط. إن جوهر الدين هو الإيمان بقوة قدسيته، تنفخ فى الكون روحا سامية، وتمنح للإنسان قيمة متعالية؛ كونه المستخلف من الله على الأرض. هذه النفخة الروحية هى الأصل الذى نبعت منه وتشكلت على أساسه النزعة الإنسانية الحديثة داخل التاريخ الغربى منذ حركة الإصلاح الدينى. وهكذا يصبح الانتصار للإنسان كقيمة فى ذاته أمرا دينيا يمكن نسبته إلى الله وغاياته فى الوجود، بالقدر ذاته الذى يمكن نسبته إلى العقل، الذى ادعت فلسفة التنوير مركزيته فى الكون. وفى المقابل يمكن أن نعتبر النيل من قيمة الإنسان بإهدار حياته أو التنكيل بجسده أو نزع كرامته أو تقيد حريته، أمرا شائنا فى الفكر الدينى الصحيح كما فى الفكر العلمانى المعتدل. فى الأول باعتباره إثما دينيا يعاقب عليه الله دفاعا عن خليفته، قد يفضى بمرتكبه إلى الجحيم الأخروى. وفى الثانى باعتباره آفة أخلاقية ينكرها العقل، توصم بالوحشية وقد تفضى إلى التخلف، أى الجحيم الدنيوى. فى الأول يأخذ الهدر عللا طائفية أو مذهبية متسربلا فى ثياب تطرفات لا نهائية. وفى الثانى يأخذ الهدر شكل ادعاءات تفوق عرقى أو أخلاقى، تستخدم العنصر أساسا لتمايز كاذب وخيرية مدعاة. الذى لا شك فيه أن علمنة الإنسان، فى جزء أساسى منها، عملية وظيفية أنتجتها صيرورة تقسيم العمل الإنسانى، وتمايز أنماط الإنتاج وارتقاء أشكال الحياة، ومن ثم لا يمكن ردها أو توقيفها من دون معارضة لمسيرة التقدم أو مساءلة لمفهومه، لكن ما لا يمكن إنكاره هو أن جزءا يعتد به من تلك العلمنة يرجع إلى تغول غير مبرر على الروح الإنساني، سواء بدافع استلاب دينى يبالغ فى نفى مركزيته لصالح المركزية الإلهية وصولا إلى الإرهاب الدينى، أو بدافع تطرف مادى يحيل الإنسان إلى سطح دون عمق عبر القضاء على تنوعاته وتبايناته بهدف رسم مسارات حتمية لحركته، وإحكام السيطرة على مصيره، فعلى السطح حيث تتشابه الأجساد يمكن بناء تصورات حتمية عن الإنسان. أما فى العمق، حيث تتباين الأفكار والمشاعر، فيبدو الإنسان عصيا على التقولب، متمردا على طلاب السيطرة ودعاة القهر. فإذا ما اتفقنا على أن معيار العلمنة هو مدى إهدار الجوهر الإنسانى عبر الفتك بالجسد أو تعطيل الإرادة أو العدوان على الضمير، وجدنا أن الإرهاب الداعشى قرينا للعنف النازى، على سبيل المثال، فى ممارسة نوع فائق أو فج من العلمنة. فكلاهما يلهو بالإنسان باسم معتقد دينى أو فكرة بيولوجية، مضادين للروح الإنسانى بقدر ما إنهما مضادان للقصد الإلهى. قد تسعى الداعشية إلى قسر الضمير على معتقد/ مذهب ما، كما سعت النازية إلى قسر التفوق على عنصر ما، وكلا الأمرين قهر مؤكد لحق الإنسان فى الاختلاف والاختيار، اختيار الإيمان والهوية والمصير. هذا القهر المزدوج، والذى نعتبره هنا بمثابة نزع الإنسانية عن الإنسان، هو ما ندعوه بالعلمنة الفائقة، كونه لا يرى فى الإنسان شيئا ساميا يستعصى على الانتهاك، بل يتصوره محض سلعة مادية أو رقم غائم فى سلسلة عددية، أى حلقة فى عملية توال لا تنتهى يكتسب من خلالها مغزاه وسياقه، من دون انطواء على قيمة ذاتية أو مركزية خاصة، تحوز المعنى وتمنح المغزى بحد ذاتها. هنا تتساوى الشيوعية الستالينية بمقولاتها عن المادية الجدلية مع النازية بمقولاتها عن الاستعلائية التى مثلت نقطة ذروة كارثية فى سلسلة ادعاءات أوسع بالتفوق الدينى واللغوى والعقلى، انطوت عليها المركزية الغربية، وأيضا مع الداعشية وأسلافها من أرباب الوعى الماضوى، والعقل الاختزالي الذى يصدر عن ادعاءات تفوق دينى وطهرانية أخلاقية، فجميعها تسعى إلى قهر الإنسان، سواء روحيا بقسره على دين واحد يرونه خير الأديان أو على مذهب واحد يرونه أصح المذاهب. أو عقليا بقسره على إيديولوجيا سياسة ما أو عرقيا بادعاء دونيته طالما لم ينتم إلى جنس بذاته. وإذ ينتهج هؤلاء جميعا كافة أشكال العنف الرمزى والمادى المتاحة لهم فى كل عصر وسياق، فإنما يفتكون بالإنسان/ الخليفة الأرضى، وينتهكون كرامته بقوة شيطانية تكاد تعادل قوة إبليس التى أخرجته من جنة عدن الأولى، خصوصا عندما يهدرون حريته بإجباره على السير فى طريق واحد محتوم يعتقدون أنه الأنسب للوصول إلى الغاية النهائية ولو كانت تلك الغاية هى الإيمان أو العدالة أو التقدم. تختلف تلك التيارات، ولا شك، على أشياء كثيرة بقدر ما تنبع من سياقات متعددة وثقافات مختلفة ولكن جميعها تتفق على أمر أساسي هو نزع السحر عن الإنسان، والمشكلة الكبرى هنا أن السحر ليس أمرا خارجيا كما فى حالة الطبيعة أو السلطة بل أمر جوهرى يلتصق بروح الإنسانى وينطوى على ماهيته، ومن ثم كانت صيرورة نزعه بمثابة عملية قتل للإنسان واغتيال للإنسانية. [email protected] لمزيد من مقالات صلاح سالم;