يكاد الإيمان الروحى يختفى من عالمنا، مرة بفعل التطرف الوضعى النازع إلى فصم عرى العلاقة بين الله والإنسان، بالإفراط فى المركزية الإنسانية على حساب المركزية الإلهية، حيث جرى تقديس العقل وتمجيد الإرادة، إلى حد الإدعاء ب «موت الله» على مذبح الإنسان «السوبرمان». ومرة أخرى بفعل الإرهاب العدمى، الذى يمعن فى القسوة والإيذاء ويسعى إلى تعميم الكراهية واستباحة الدماء، وغير ذلك من مسالك عدمية تعكس ردة فعل هوجاء على التطرف الوضعى. فإذا كانت الحداثة المادية / المتطرفة بالغت فى نفى الوجود الإلهي تأكيدا للحضور الإنسانى، فقد بالغت الأصولية الدينية فى نفى الحضور الإنساني كطريق لاستعادة الوجود الإلهى، وهكذا اختلت العلاقة التوازنية بين الأرض والسماء، المقدس والدنيوى. فى السياق الغربى، الذى نتوقف عنده اليوم، ثمة فائض عقلانية حفز نوعا من الغرور الوضعى المتعالى على الإيمان، حيث تجاذبت مقولتان أساسيتان حول مستقبل الدين: الأولى هى مقولة نهاية الدين، التى مثلت حد الادعاء الأقصى للنقد التنويرى المادى، والتى تعايشت، بعد طول صراع، مع علمنة السياسة. أما الثانية فهى خصخصة الدين، التى تعكس تجسد منطق مجتمعات الما بعد (الصناعة، الحداثة.. إلخ)، وتُفضى ذروتها إلى علمنة الوجود. الأولى بلغت ذروتها فى الثلث الأخير من القرن التاسع عشر وتحدثت عن موت الله أو رحيله عن عالمنا، حيث يقبع الإلحاد الكامل، قبل أن تهدأ موجتها وتتواضع طموحاتها وتكتفى بإحالة الدين إلى أمر شخصي، قد تنفذ بعض إشعاعاته إلى المجال العام الاجتماعى. أما الثانية فبدأت فى الثلث الأخير للقرن العشرين، ولا تقول نظريا بنهاية الدين، ولكنها تقود عمليا إلى تفكيك المقدس والتعاطى معه كأمر دنيوى / عادى ينتمى إلى عالم ال (مدنس). انطلقت المقولة الأولى (نهاية الدين) من اعتقاد متعجل باستحالة وجود أديان كبرى تقبل بالعلمنة السياسية، وتتعايش مع الحرية الفردية، ومن ثم توقعت نشوب معركة صفرية بينهما لابد أن تنتهي بهزيمة الدين والخلاص منه عبر صيرورة يسطع فيها الإنسان ويختفى الله، تنمو فيها الحداثة ويموت التقليد، تزدهر فيها العلمنة ويتجه الدين نحو الأفول. وفى الحقيقة لم تكن هذه المقولة مجرد طرح نظري برىء بل كانت أقرب إلى برنامج سياسي نهضت به بعض الحركات الاجتماعية والأحزاب السياسية، وتمت ممارسته بفاعلية أو بشكل قسرى من أعلى كما كان الأمر فى فرنسا حيث سادت الصيغة اليعقوبية للتنوير، وفى تركيا الكمالية (المسلمة) حيث مورست العلمانية، بروح متطرفة تكاد توصف بالأصولية. هذه المقولة هزمت تاريخيا بالفعل، فالعلمانية الفرنسية تنازلت عن جزء يعتد به من غطرستها وأحاديتها وجذريتها، مثلما تراجعت تركيا عن علمانيتها الراديكالية. واليوم، بعد قرن وربع القرن تقريبا من الإعلان النيتشوى عن «موت الله»! نجد أنه لا يزال حيا يملأ الآفاق، فلم تنته الكاثوليكية فى فرنسا، ولم يمت الإسلام فى تركيا. لقد هُزمت تلك المقولة تاريخيا، رغم انتصار العلمانية سياسيا، بل ربما بفعل هذا الانتصار، خصوصا بعد اعتراف الكنيسة الكاثوليكية بها فى المجمع الفاتيكانى الثانى (1962 1965) اعترافا نظريا وليس فقط واقعيا، حيث صارت حرية العقيدة راسخة ومتجذرة فى مفهوم «الكرامة المقدسة للكائن البشرى». ورغم استمرار هيبة الكنيسة بعد هذا المجمع، فإنها لم تقبل فقط الاعتراف الدستورى بالفصل بينها وبين الدولة، وبمبدأ الحرية الدينية، بل تخلت أيضا عن أى محاولة لإنشاء أو رعاية أحزاب كاثوليكية، بغرض الدفاع عن حظوظها فى السلطة، أو عن امتيازاتها الدنيوية، وظلت تعمل ضمن أطر المجتمع المدنى وحده، الأمر الذى أفضى إلى نتائج عدة إيجابية تمثلت فى تحرير الدين من الدولة، وتحرير الدولة من الدين، وتحرير الشخص الإنسانى كذات فردية، من هيمنة كليهما معا، فامتلك حريته السياسية إزاء الدولة، وحريته العقدية إزاء الكنيسة، فكان انسحاب الدين من المجال العام وفك قبضته عن رقبة الدولة بمنزلة انفراجة كبيرة قدمت له الحماية وسمحت باستمراره فى قلب المجتمع. وعلى العكس لم تنطلق المقولة الثانية (خصخصة الدين) من مبدأ نظرى، بقدر ما عكست صيرورة واقعية، تبدو مستقلة عن القوانين التى تصكها الدولة، وتنطق بها الدساتير، تشق طريقها على نحو لا مرئى فى قلب مجتمعات الما بعد، استنادا إلى بنيتها المادية الفائقة، وإلى هيمنة قوانين السوق، وسطوة المجتمع الاستهلاكى ونزوعه إلي رفض الاحتكام الأخلاقى لأية مرجعيات خارجة عنه، وذلك باسم ذات فردية تتقوى باستمرار، وتمركز حول الإنسان يزداد باطراد، حتى أصبح النزوع إلى أنسنة الدين أو حتى صوغ أديان بديلة (مدنية) بمثابة السمة الأكثر أساسية فى المجتمعات الغربية المعاصرة. هذه المقولة تبدو منتصرة واقعيا من دون إعلان تاريخى، فمن دون قواعد تقننها، أو دساتير تتضمنها، تبدو العلمنة الوجودية زاحفة بقوة فى قلب المجتمعات، حتى تلك التى تتستر خلف لافتات دينية، حيث تسود نزعات دنيوية فجة، وممارسات مادية متطرفة أحالت الدين إلى (رأسمال دينى) أخذت تتعاطى معه كسلعة رائجة، يتم نقلها بأدوات تداول السلع والخدمات الاستهلاكية نفسها، وبطريقة الدليفرى، أو حسب قانون العرض والطلب، ولذا فإن التحدى الذى يواجه عالمنا اليوم ليس هو موت الله كما ذهب نيتشه، ولا نهاية الدين مثلما تصور التيار المادى فى فلسفة التنوير، بل موت الإنسان نفسه، على مذبح السوق الرأسمالى والمجتمع الاستهلاكى، لا عبر قتل الجسد فالجسد فى هذا العالم مكمن آليات العرض والطلب، بل عبر تفكيك الروح التى هى جوهر الإنسان، ومنبع تساميه، ولعل هذا هو سر أزمة المعنى التى أصابت عالمنا حتى تكاد تفتك به، وأحاطت بالإنسان وتكاد تفقده السيطرة على مصيره، فما كانت الدول القومية فشلت فيه رغم قدرتها على القمع، ها هو السوق الرأسمالى ينجح فيه بقدرته على الإغواء. [email protected] لمزيد من مقالات صلاح سالم