مواقيت الصلاة اليوم الثلاثاء 9 ديسمبر 2025 في القاهرة والمحافظات    أسعار الأسماك والخضروات والدواجن اليوم 9 ديسمبر    وفاة السفير الروسي فى بيونج يانج وزعيم كوريا الشمالية يقدم التعازي ل"بوتين"    فلوريدا تصنف الإخوان وكير كمنظمتين إرهابيتين أجنبيتين    الليلة، الزمالك يستهل مشواره في كأس عاصمة مصر بمواجهة كهرباء الإسماعيلية    10 مدن تحت سيطرة الأمطار الرعدية والغزيرة اليوم    دعاء الفجر| اللهم ارزقنا نجاحًا في كل أمر    عوض تاج الدين: المتحور البريطاني الأطول مدة والأكثر شدة.. ولم ترصد وفيات بسبب الإنفلونزا    محمد أبو داوود: عبد الناصر من سمح بعرض «شيء من الخوف».. والفيلم لم يكن إسقاطا عليه    الرياضة عن واقعة الطفل يوسف: رئيس اتحاد السباحة قدم مستندات التزامه بالأكواد.. والوزير يملك صلاحية الحل والتجميد    حالة الطقس اليوم الثلاثاء 9 ديسمبر 2025: طقس بارد ليلًا وأمطار متفرقة على معظم الأنحاء    تعرف على عقوبة تزوير بطاقة ذوي الهمم وفقًا للقانون    أحمديات: مصر جميلة    من تجارة الخردة لتجارة السموم.. حكم مشدد بحق المتهم وإصابة طفل بري    مصدر بالسكك الحديد: الأمطار وراء خروج عربات قطار روسي عن مسارها    التعليم تُطلق أول اختبار تجريبي لطلاب أولى ثانوي في البرمجة والذكاء الاصطناعي عبر منصة QUREO    السفير صلاح حليمة: الموقف المصري يؤكد ضرورة الحفاظ على وحدة الأراضي الليبية    كرامة المعلم خط أحمر |ممر شرفى لمدرس عين شمس المعتدى عليه    بفستان مثير.. غادة عبدالرازق تخطف الأنظار.. شاهد    عمر مرموش ينشر صورا من حفل خطوبته    خيوط تحكى تاريخًا |كيف وثّق المصريون ثقافتهم وخصوصية بيئتهم بالحلى والأزياء؟    "محاربة الصحراء" يحقق نجاحًا جماهيريًا وينال استحسان النقاد في عرضه الأول بالشرق الأوسط    الصيدلانية المتمردة |مها تحصد جوائز بمنتجات طبية صديقة للبيئة    هل يجوز إعطاء المتطوعين لدى الجمعيات الخيرية وجبات غذائية من أموال الصدقات أوالزكاة؟    الأهلي والنعيمات.. تكليف الخطيب ونفي قطري يربك المشهد    المستشار القانوني للزمالك: سحب الأرض جاء قبل انتهاء موعد المدة الإضافية    مرموش ينشر صورا مع خطيبته جيلان الجباس من أسوان    حذف الأصفار.. إندونيسيا تطلق إصلاحا نقديا لتعزيز الكفاءة الاقتصادية    الصحة: جراحة نادرة بمستشفى دمياط العام تنقذ حياة رضيعة وتعالج نزيفا خطيرا بالمخ    إحالة أوراق قاتل زوجين بالمنوفية لفضيلة المفتي    طليقته مازلت في عصمته.. تطور جديد في واقعة مقتل الفنان سعيد مختار    الزراعة: الثروة الحيوانية آمنة.. وأنتجنا 4 ملايين لقاح ضد الحمى القلاعية بالمرحلة الأولى    لدعم الصناعة.. نائب محافظ دمياط تتفقد ورش النجارة ومعارض الأثاث    الأوقاف تنظم أسبوعًا ثقافيًا بمسجد الرضوان بسوهاج | صور    رئيسة القومي للمرأة تُشارك في فعاليات "المساهمة في بناء المستقبل للفتيات والنساء"    تقرير: برشلونة ينافس ليفربول على نجم أتالانتا    نائب وزير الإسكان يلتقي وفد مؤسسة اليابان للاستثمار الخارجي في البنية التحتية لبحث أوجه التعاون    حظك اليوم وتوقعات الأبراج.. الثلاثاء 9 ديسمبر 2025 مهنيًا وماليًا وعاطفيًا واجتماعيًا    وزير الاستثمار يبحث مع اتحاد المستثمرات العرب تعزيز التعاون المشترك لفتح آفاق استثمارية جديدة في إفريقيا والمنطقة العربية    رئيس مصلحة الجمارك: انتهى تماما زمن السلع الرديئة.. ونتأكد من خلو المنتجات الغذائية من المواد المسرطنة    تحذير من كارثة إنسانية فى غزة |إعلام إسرائيلى: خلاف كاتس وزامير يُفكك الجيش    جريمة مروعة بالسودان |مقتل 63 طفلاً على يد «الدعم السريع»    أفضل أطعمة بروتينية لصحة كبار السن    المنتخب السعودي يفقد لاعبه في كأس العرب للإصابة    علي الحبسي: محمد صلاح رفع اسم العرب عالميا.. والحضري أفضل حراس مصر    الدوري الإيطالي | بارما يخطف الفوز.. وجنوى يتألق خارج الديار.. وميلان يحسم قمة تورينو    مراد عمار الشريعي: والدى رفض إجراء عملية لاستعادة جزء من بصره    تحرير 97 محضر إشغال و88 إزالة فورية فى حملة مكبرة بالمنوفية    محافظ سوهاج بعد واقعة طلب التصالح المتوقف منذ 4 سنوات: لن نسمح بتعطيل مصالح المواطنين    مجلس الكنائس العالمي يصدر "إعلان جاكرتا 2025" تأكيدًا لالتزامه بالعدالة الجندرية    جوتيريش يدعو إلى ضبط النفس والعودة للحوار بعد تجدد الاشتباكات بين كمبوديا وتايلاند    وزير الاستثمار يبحث مع مجموعة "أبو غالي موتورز" خطط توطين صناعة الدراجات النارية في مصر    أفضل أطعمة تحسن الحالة النفسية في الأيام الباردة    كيف تحمي الباقيات الصالحات القلب من وساوس الشيطان؟.. دينا أبو الخير تجيب    إمام الجامع الأزهر محكمًا.. بورسعيد الدولية تختبر 73 متسابقة في حفظ القرآن للإناث الكبار    لليوم الثالث على التوالي.. استمرار فعاليات التصفيات النهائية للمسابقة العالمية للقرآن الكريم    إقبال الناخبين المصريين في الرياض على لجان التصويت بانتخابات الدوائر الملغاة    متحدث الصحة ل الشروق: الإنفلونزا تمثل 60% من الفيروسات التنفسية المنتشرة    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



من المشروع النهضوى المجهض إلى الإصلاح الدينى المحتوم.. مسارات الإسلام السياسى فى حركة التاريخ العربى
نشر في الأهرام اليومي يوم 19 - 06 - 2015

تنتظم الأفكار الكبرى (التأسيسية) فى حركة سير التاريخ الإنسانى مثل عربات قطار تتتالى مرورا على محطة التأثير (الفعالية)، بحيث تبلغ كل فكرة كبرى ذروة تحققها فى عصر ما دون غيره،
فتستحيل مرجعا يقاس به وإليه حركة الفاعلين فى عالم هذا الزمان، قبل أن ترثها فكرة كبرى أخرى أقدر منها، على حمل أعباء عصر جديد يكون التاريخ فيه قد ارتقى، وبلغ درجة أكبر من التعقيد، وهكذا. ومن ثم كانت الأفكار القادرة على صوغ العالم هى دائما الأكثر ارتباطا بعصرها، وقدرة على تلبية متطلباته. ففى مرحلة تاريخية ما كان الدور الرئيسى لأفكار خرافية مثل السحر والحسد، وفى مرحلة تالية ارتبط هذا الدور بأفكار مثل العرق والنبالة الأرستقراطية والبطولة الشخصية، وفى مرحلة أكثر نضجا تشغل (العصر المحورى) الذى يمتد تقريبا فى القرون الستة السابقة على ميلاد السيد المسيح ونظيرتها التالية له، احتكر الدين هذا الدور فيما لعبت الأفكار الأخرى أدوارا هامشية. أما الحقبة الحديثة فشهدت بزوغ أفكار جديدة محفزة للتاريخ سواء كانت فلسفية كالحرية والفردية، أو سياسية كالدولة القومية والعلمانية والديمقراطية، أو علمية حيث التكنولوجيا هى رافعة الحياة المعاصرة، فيما أصبحت الأفكار والأبنية الأخرى تابعة لها فى قيادة حركة العصر. وهكذا نجد أن الأفكار الكبرى جميعها قد لعبت دورها فى التاريخ، ولكن ليس بالقدر نفسه فى الوقت ذاته، بل بأقدار مختلفة فى مراحل مختلفة، عبر تتابع محكوم ببنية تاريخية متطورة تنزع عموما إلى الارتقاء والعقلانية.
وبالطبع ثمة فارق أساسى بين الأفكار الدينية، والوضعية؛ فالدين ظاهرة إنسانية كبرى تتوزع على مستويين: أولى يتمثل فى خبرة الاتصال العاطفى مع المبدأ الإلهي/ القدسي، حيث لا يمكن الحديث عن تاريخية الفكرة الدينية، فهى خالدة بقدر ما هى متسامية، تظل قادرة على إلهام معتنقيها طالما ظلوا مؤمنين بها. وثانوى يتم فيه تجسيد هذه الخبرة وتنظيمها فى طقوس وشعائر، ما يجعل منها معرفة وتقاليد، تدور حول نصوص ونُقول.. وعلى هذا المستوى تكون (التاريخية) هى قدر الفكرة، والتغير هو مصيرها الحتمى، وهو ما يخضعها للمبدأ العام للحركة التاريخية، فيكون عليها الانسحاب من بؤرة الفعل إلى هامشه، حيث التخلى عن الإدعاء بالقدرة على التنظيم السياسى للمجتمعات، أو على قيادة تطورها العلمى.. الخ.
غير أن ثمة مشكلة قد تثور حال فقدت الفكرة المحفزة قدرتها على التحكم بعالمها، ذلك أن فشلها فى تحقيق السيادة، لا يعنى موتها أو انسحابها من التاريخ، بل فقط انزياحها من بؤرته إلى هامشه، لتلعب أدوارا فرعية فى مجريات هذا العصر أو ذاك على نحو يسير فى أحد اتجاهين:
الاتجاه الأول هو الإسهام (الجزئى) فى حركة العصر إذا ما انصاعت الفكرة لمنطق التاريخ وأحسنت التكيف معه. فالدين، مثلا، يمكن أن ينزاح من المجال العام السياسى الذى كان هيمن عليه فى عصر التقليد إلى المجال العام الإجتماعى، ممارسا دوره الأخلاقى، أو حتى إلى المجال الخاص حيث الضمير الفردى، ممارسا دوره الروحى الهائل، إذ يمنح للمؤمن ملكة الصبر على مآسيه، والثقة فى مستقبله، والقدرة على تجاوز مشاعر الخواء والعبث الناجمة عن ضغوط الحياة المحيطة به، وهنا نكون إزاء علمانية سياسية معتدلة.
أما الاتجاه الثانى فهو مشاكسة حركة التاريخ، وذلك عندما تحاول الفكرة الكبرى المتقادمة تحدى منطق العصر السائد بإعاقة الفكرة الكبرى الجديدة، وقطع طريق سيرها الآمن، فالأغلب آنذاك أن يتولد عنها طاقة سلبية، تعمل ضد حركة عقارب الساعة، على منوال ما تقوم به الأصوليات الدينية فى عالمنا الحديث، عندما تدعى قدرتها على التحكم بحركته، وليس فقط إلهام مسيرته، وعلى صوغ نظمه السياسية وليس فقط قيمه الأخلاقية، إذ يصبح الدين السياسى عبئا على التقدم التاريخى. وهو ما يتجلى بالذات فى الأصولية الإسلامية التى تتنكر لجل الأفكار الحديثة عن الدولة الوطنية والمجتمع المدنى، ولكل محاولات التجديد التى انطوى عليها المشروع النهضوى العربى منذ القرن التاسع عشر، والتى بلغت ذروتها فى مشروع الإصلاح الدينى لدى الإمام محمد عبده.


الإسلام السياسى يوتوبيا رديئة، تستبدل أوهام العالم المثالى بأساطير عن زمن تاريخى، تتسم بالوثوقية الساذجة
طالما عبر الإنسان عن أشواق دفينة ورغبات عميقة فى الخلاص من قيود واقع تاريخى ما بالهروب إلى الأمام، نحو واقع تاريخى جديد، يتوقف فيه الشر وتموت نزعة العدوان فينتهى التوحش وتسود المساواة ويتحرر الإنسان من قيود الحاجة وموجبات العنف، ما يعنى جوهريا نهاية التاريخ، شرط أن نفهم تلك النهاية لا على أنها نهاية لتيار الزمن بالمطلق، بل نهاية لمفهوم الصراع كما تجلى فى التاريخ الحافل بالانقسامات الجذرية بين البشر. وهكذا امتد تيار الفكر اليوتوبى (الباحث عن عوالم مثالية ومدن فاضلة لا مكان لها على الأرض)، عبر مراحل تاريخية متباينة وتجلى فى بنيات فكرية متعددة: فلسفية تجلت قديما فى جمهورية أفلاطون، ودينية قروسطوية تجلت فى مدينة الله لدى القديس أوغسطين، وإيديولوجية حديثة وجدت أبرز تمثلاتها فى الشيوعية السوفيتية.
والمفارقة أن الأفكار اليوتوبية، رغم نبلها، لم تكن دوما فاعلة فى التاريخ الإنسانى، إذ لم يستطع المؤمنون بها أن يحققوها على الأرض، وعندما حاولت الفعل فقد مارست الإفساد، حيث استخدمت، كالأديان أحيانا، ركيزة لفرض الهيمنة السياسية والقهر الإنسانى، بدلا من أن تلعب دورها الأصلى، كمصدر إلهام للضمير البشرى، يسهم فى حصار نزعات الشر والقبح فى التاريخ البشرى الطويل. ويبقى السؤال: هل كانت الشيوعية هى اليوتوبيا الأخيرة أم أن التاريخ لا يزال حاملا لأوهام أخرى قد يقذف بها فى وجوهنا يوما ما؟.
نتصور هنا أن التصورات الاختزالية التى يستبطنها الإسلام السياسي، عن العالم وعن كيفية التأثير فيه ليست إلا نوعا مستحدثا من اليوتوبيا، يستبدل النزعة الغائمة لدى الفكر اليوتويى التقليدى عن عالم مثالى فى مكان ما، بنوع من الحنين الأبدى إلى عالم آخر مثالى ولكنه ينتمى إلى مكان معروف، وزمن مثالى يتسم بالقدسية لدرجة يعلو بها على المساءلة، ولما لا؟ وهو الماضى التليد الذى يتجاوز موقعه فى الزمن كى يحلق دوما فوق كل العصور والأزمنة. وهكذا يمثل الإسلام السياسى نوعا من اليوتوبيا الرديئة، الأكثر اغترابا عن حركة التاريخ، إذ يحمل كل عيوب الفكر اليوتوبى الوضعى، ويزيد عليها تلك الوثوقية الكاملة (الساذجة) الناجمة عن وجود حقيقى لحقبة تاريخية إيجابية فى عمومها، ولكن يتم رفعها إلى مرتبة التقديس، وهو ما يجعله أسيرا لاغتراب مزدوج ينتج تطرفا وإرهابا ويمارس عنفا عدميا يخرج به عن إطار المعقولية وربما الإنسانية.
نتحدث هنا عن (الإسلام السياسى) بالمجمل، من دون تمييز جرى عليه العرف بين تيار معتدل، وآخر متشدد، أو حتى بينه وبين وريثه (الإسلام الجهادى). وليس هذا تجاهلا لوجود هذا التباين واقعيا إذا ما ألقينا على الظاهرة نظرة (استاتيكية)، أى أفقية ومسطحة، حيث نطالع فروقات بين أنماط السلوك. فإذا ما أمعنا البصر، وألقينا نظرة ديناميكية، أى رأسية وتاريخية، أدركنا كيف أن تلك الفروق مرحلية فقط، وأن تلك الأنماط ليست سوى الظاهرة نفسها ولكن فى مراحل مختلفة من تحولها.. فالظاهرة برمتها تنهض على المنطق اليوتوبى نفسه، وهو أن ثمة إمكانية لأن يشرف المقدس (مباشرة)، أى بنفسه على تفاصيل حركة (الدنيوى)، ولا يكتفى بتقديم التوجيهات وإلهام الغايات فقط، وأن يبقى فى الوقت نفسه مستقلا عن هذا الدنيوى، فلا يصير (مدنسا). غير أن صيرورة التاريخ لم تقل بذلك قط، وأظنها لن تفعل أبدا، فما إن يهبط المقدس على سطح الدنيوى وتبدأ تروس الواقع فى إدارة عجلة الزمن، إلا وتتولد الإحتكاكات التى غالبا ما تكون سلسة ناعمة فى البدء، هينة محتملة فى المنتصف، عاصفة رعديدة فى المنتهى، حيث تقع الصدامات وتتوالى الانفجارات، بغض النظر عن إصرار أرباب الظاهرة على قدسيتها أو إنكارهم لدنيويتها، فالقدسية ليست ممكنة فى عالم الشهادة نفسه، إلا إذا استمرت محلقة فوق الأفق، وصار الشعور بها أقرب إلى شعور راكب الطائرة بحركتها الناعمة الملساء فى الفضاء الأعلى، منه إلى شعور راكب السيارة على هذه الأرض، حيث وعورة الطريق، بفعل خشونة سطح التربة أو حركة كثبان الرمل الرجراجة.
وهكذا لا يكون عجيبا أن تقود أكثر الأفكار نبلا وطهارة، فى لحظة معينة، إلى أقبح الأفعال وأكثرها دناءة فى لحظة أخرى تالية، فباسم الله، نور السموات والأرض، يتم قتل الأطفال بلا معنى أو ذنب وهم أحباب الله، ويجرى التنكيل بالنساء وهم رعايا الله، والتمثيل بالجنود القائمين على الحدود وهم المجاهدون حقا وفعلا فى سبيل الله. والأعجب من ذلك أن يقع ذلك بيدى شخص يدعى أنه أكثر إسلاما من العوام، وأكثر حرصا على طاعة الله. والكارثة أنه قد يكون صادقا حقا فيما يعتقد عندما استبطن اعتقاده هذا، غير أن المسافة الزمنية الفاصلة بين انبثاق الفكرة فى ضميره وتحركها نحو ذراعه، عبر قنوات إرادته وتربيته وتثقيفه، قد امتلأت بشتى أنواع الآفات، وكل أشكال المدنس من كهانة بادية لدى أمير، ومصالح دنيا تحولت إلى شر مستطير، ومصاعب واقع وآلام حياة ورغبات بشر وأهواء حكام تصوغ شبكة معقدة تتوه فيها الحقيقة، وتنطمس الروح، ويتحول معها الحب المفترض أنه من روح الله، إلى الحقد الذى هو نفسه الشيطان. ومن حركة الروح على الطريق من الحب المقدس إلى الحقد المدنس، تتصاعد المواقف وتتطرف الأفكار وصولا إلى لحظات الانفجار. معضلة الإسلام السياسي، بكل تياراته، تكمن إذن فى حضوره اللاتاريخى، والذى يؤسسه على عدة مفاهيم إطلاقية (أسطورية) يراها صحيحة وجوهرية ونراها زائفة وهامشية، نتوقف هنا عند أربعة منها لعلها الأكثر أساسية من بينها:
أما الأسطورة الأولى (الخلافة الشرعية) فتتأسس على مسلمة أساسية وهى أن الإمامة، قضية عقدية، لا يصح الدين دون إقامتها. ولأن دولة الإسلام الأولى التى قامت بعد وفاة الرسول الكريم (ص) قامت على هيئة (الخلافة) فقد ترتب على ذلك أن صارت الخلافة هى فقط الدولة الإسلامية (الشرعية)، وما عداها ليس إلا تنازلا عن الحاكمية الإلهية (الربانية) لصالح حاكمية إنسانية (دنيوية).
هذا التيار، إذ تهيمن عليه أوهام الخلافة، إنما يستعلى على الوطن فلا يعطيه تقديرنا ولا يمنحه احترامنا، لأنه لا ينظر إليه كما ننظر باعتباره (حاضنة لنا) بل باعتباره اختراعا حديثا، محض بدعة، ومن ثم ضلالة، لا تمت إلى الله بصلة. ولأن كل ضلالة فى النار فمن المفترض فى المؤمن الكيس الابتعاد عنها طلبا للسلامة. ورغم أن كثيرا من مفردات القرآن الكريم فضلا عن روحه تتحدث عن حب العشيرة، وأهمية الانتماء لجماعة، من دون تعارض مع حب المؤمنين جميعا، والإنتماء لرسالة الإسلام الكونية، يتجاهل هذا التيار ذاك المغزى وما يرتبة من قيمة للوطن، معيرا كل جهده لشراكة الإيمان وحدها باعتبارها الرابطة الوحيدة (المقطوع بها نصا) لصوغ جماعة المؤمنين وإن تمددت من الشرق إلى الغرب، ومن الشمال إلى الجنوب، وإن تغير الزمن وتمايزت الأحوال على نحو يستحيل معه حصرها، والتحكم فى تنظيمها، بينما يصير الوطن، الذى نعيش على أرضه ونتمتع بحمايته، أمرا عابرا، ربما فرضه الواقع باعتباره الحقيقة الكبرى، ولكنه يبقى الحقيقة (المرة) التى يقبلونها على مضض.
وإذا كان الوطن الغالى عندهم هو (الحقيقة المرة) فليس المواطن العادى لديهم سوى ذلك الكائن الغريب، الذين أجبروا على التعامل معه، أما المواطن الحقيقى فليس هو زميل العمل، أو صديق النادى أو حتى رفيق الحرب ضد الأعداء، بل هو فقط الشريك فى العقيدة الدينية، الأخ فى الله، الذى قد يبتعد كثيرا فى الأرض وصولا إلى أقصى الشرق فى باكستان وماليزيا وربما الصين والهند، وإلى أقصى الغرب فى قلب أمريكا الفاجرة حيث كانت الغزوة الناجحة، وروسيا الملحدة حيث الشيشان الصامدة، وأوروبا الصليبية حيث البوسنة الشامخة، فجميع هؤلاء إخوان حقا، مواطنون فعلا، شركاء فى وطن متخيل، ولكن حضوره يفوق الوطن الواقعى.. إنه الوطن الذى يُشتاق إليه فلا يزدرى علمه أحد، ولا يتجاهل نشيده أحد، ولا يملك أيا من كان أن يقول له (طظ)..
لا يحتفى هذا التيار حقيقة بالوطن، كونه من عمل الإنسان وهو لا يحتفى أصلا بالإنسان، وكونه نتاجا للعقل وهو لا يحتفى أصلا بالعقل، وكونه خلاصة للتجربة التاريخية وهو لا يحترم لا التجربة ولا التاريخ باعتبارهما ليس إلا تجسيدا لل (مدنس)، فيما لا يقدر هو سوى الإلهى ال (مقدس)، متجاهلا حقيقة أن العقل أيضا، وليس فقط النص، يمثل عطاءا إلهيا، وأن اجتهاداتنا عبر التاريخ ليست إلا استثمارا لذلك العطاء واحتفاء به، ولذا كان احترامنا للوطن، محض احترام لجوهرنا العقلانى الذى خلقه الله فينا، أصلا وضمانا لرسالة استخلافنا على الأرض، تلك التى لا تكون ولا تقوم من دون بناء الأوطان، مدخلا لترقية الحضارة واعترافا بقيمة الإنسان.
والأسطورة الثانية (الهوية المغلقة) تقوم على مسلمة نراها زائفة، وهى أن نقاء العقيدة الدينية يقتضى أو يفترض نقاء الهوية الحضارية، الأمر الذى يقود إلى اعتبار كل تفاعل ثقافى أو تداخل حضارى بين الحضارة العربية وغيرها من الحضارات إنما يمثل تشويها للإسلام، وانتقاصا من خيرية المسلمين.. هذه المسلمة تتأسسس على مقدمة خاصة بها وتقود فى الوقت ذاته إلى نتيجة مميزة لها:
المقدمة هى عدم الثقة بالعقل الإنسانى وقدرته على صنع تاريخه، ومن ثم ضرورة الارتهان الكامل للنص الدينى/ النقل/ الوحى، حيث التوجيه الإلهى الكامل لحركة التاريخ والقصور شبه الكامل للعقل الإنسانى. هذه الرؤية تقود إلى اعتبار أن كل حضارة هى فقط الدين الذى تقوم عليه أو يقع فى المركز منها، فالحضارة الأسيوية مثلا هى الهندوسية والبوذية والكونفوشية، أما الحضارة الغريية فهى المسيحية فقط، ولا قيمة هنا لعصور النهضة والتنوير والصناعة والحداثة، والتى مثلت نوعا من القطيعة التاريخية مع الموروث المسيحى الأرثوذكسي، ومن ثم فلا اكتراث مثلا بالنقد الرفيع للكتاب المقدس، ولا قيمة لعمل وجهد الفلاسفة الكبار خصوصا ليبينتز وسبينوزا وكانط، ولا حتى للفلاسفة اللاهوتيين الكبار أمثال كارل بارت وباول تيليش وجاك ماريتان، ونيقولا بيرديائيف، فرغم كل ما جرى عبر القرون الخمسة الماضية يبقى الغرب هو المسيحية، وأوروبا هى الصليب. ومن ثم فإنجاز كل حضارة إنسانية يبقى، حتى الآن، نتاجا للدين، ما يعنى أنه إنجاز لصيق بها بنفس درجة التصاق المؤمن بدينه، وهنا تصير الحضارة، كالدين، مسألة تقع فى صميم الخصوصية الإنسانية/ الثقافية، وليست إرثا عاما للبشرية، أو تراثا مشتركا للإنسانية برمتها، أخذا وعطاء.
أما النتيجة التى تترتب على تلك المقدمة فهى الانفصال الكامل عن تيار الحضارة الإنسانية حفاظا على نقاء الهوية (الإسلامية)، وما يفرضه ذلك من تصور سلفى للتاريخ يعتقد أن عودة الجماعة المسلمة إلى أصالة الماضى كفيلة وحدها، أو بشكل رئيسى بإقالة الأمة من عثرتها دونما حاجة إلى النقل عن الآخرين أو الاقتباس منهم. الأمر الذى يخلق انشغالا عبثيا بقضية الهوية بديلا عن الانفتاح على العالم، والنزعة العدوانية إزاء الغير بديلا عن التعاطى الإيجابى معه، والرغبة فى التعلم منه.
بل ويصل الأمر أحيانا إلى تحويل الفهم الخاص للدين (التدين) إلى (إطار ثقافى) مغلق على نفسه داخل الحضارة نفسها، فلا يمتنع مثلا، مجرد التفاعل مع الآخر الحضارى/ الغربى حرصا على نقاء الدين، بل وكذلك التفاعل مع مختلف التيارات الفكرية التى تزخر بها مجتمعاتنا العربية حرصا على نقاء (المذهب) أو حتى نقاء (التدين)، حيث يكون الليبراليون غريبى الأطوار، والعلمانيون زنادقة وربما ملحدين، أما اليساريون خصوصا الشيوعيين فملاحدة ماديون على وجه اليقين، ناهيك طبعا عن الشيعة الذين هم فى الأقل منافقون وفى الأكثر خارجون على الملة.
والأسطورة الثالثة (المؤامرة الغربية) ترتبط ارتباطا وثيقا بالأسطورة السابقة، فلعلها تمثل الاستخلاص النهائى لها أو المرحلة النهائية منها. فطالما كان الآخر غريبا على الذات بالضرورة، يتوجب التمايز الأبدى عنه، فإن كل محاولاته للتداخل مع الذات أو التأثير فيها لابد وأن يكون عملا معاديا، يهدف إلى إيذاء الذات والنيل منها، ومن ثم مؤامرة عليها. وإذ لا يسعى إلى التأثير ولا يقدر عليه سوى الأقوياء، القابعين فى قلب مراكز التأثير والنفوذ العالمى، يصبح العالم الغربى المسيحى، الذى احتل موقعا مركزيا فى الجغرافيا السياسية والحضارية للعالم الحديث، هو المتآمر الأبدى، والكائن الشيطانى المعادى بإطلاق للعالم العربى الإسلامي، حتى احتل منه الموقع نفسه الذى يحتله إبليس من الإنسان فى عقيدة الخلق التوحيدية.
لا يمثل مفهوم المؤامرة نظرية علمية على وجه الدقة، بل هو أقرب إلى أن يكون (عقدة حضارية)، ترتكز من ناحية إلى قرائن تاريخية وثقافية وسياسية تشى بالتحيز الغربى، ولكن جرى تأويلها، من ناحية أخرى، على نحو يخرجها من سياقها الموضوعى (الإستراتيجى) إلى سياق آخر أسطوري، يستحيل معه الغرب (المسيحى) كائن شيطان لا معنى لوجوده سوى التآمر ضد عالم الإسلام الواسع. إنه اعتقاد ساذج، ليس لأنه كاذب تماما ولكن لأنه تبسيطى، ناجم عن غياب العقلانية السياسية، وهو ما نفسره بغياب العقلانية العلمية عن المجال الثقافى العربى.. نعم توجد علوم تدرس كمحتوى، ولكن لا يوجد منهج للنظر ينتج عنها ليسود فى المجال العام، ويصبغه برؤية منطقية وتفكير سببى، وهو ما نرجعه إلى غياب مفهوم السببية عن الفلسفة العربية الوسيطة، وممانعة التيار السلفى للعقلانية العلمية الحديثة، واستسلام النظام التعليمى العربى، فى عمومه، لمنطق تلقينى، يقوم على مقدمات صورية وعمليات استنباط منطقى، تستهلك نفسها بنفسها. وإزاء غياب التفكير السببى سادت رؤية سحرية للعالم، وهى رؤية طفولية تكاد تشبه تصور الصغار عن الجان والعفاريت، تلك الكائنات التى لا هم لها سوى العدوان عليهم خصوصا فى عتمة الليل.
وأخيرا تأتى الأسطورة الرابعة (الجهاد العسكرى الأبدى) والتى تتأسس على فهم لاتاريخى لمفهوم الجهاد الإسلامي، يمنح للكفاح الجسدى والشجاعة النفسية الدور المركزى فى صنع التاريخ، ويعتقد أن قيمة التضحية بالنفس لدى الأوائل تظل هى الآلية الوحيدة الممكنة لاستعادة نهضة الأمة وكبريائها فى مواجهة أعدائها. وهنا فلا أهمية تذكر للقيم الكبرى المؤسسة لروح العصر كالعلم والحرية، ولا أهمية أصلا للأبنية الحديثة، الحاضنة لهذه القيم والمنظمة لعملها.. نعم يمكن القول إن الشجاعة النفسية والرغبة فى التضحية تمثلان جذرا مؤسسا لمفهوم الحرية نفسه، وبعض فلاسفة الحداثة يقول بذلك على منوال شوبنهور الذى يمنح للإرادة الأولوية على المعرفة، غير أن الأمر يتعلق هنا بطريقة عمل الإرادة التى لا تُمارس فى الفراغ بل من خلال وسائط تزداد تركيبا بفعل حركة التقدم، التى لا يمكن فهمها إلا باعتبارها صيرورة تنظيم وتطوير هذه الوسائط التى يتعامل الإنسان من خلالها مع العالم، بما لا يجعل من سلوكياته مجرد صرعات طائشة يحركها الهوى، بل أفعال إنسانية ناضجة تتأسس على قواعد، وتحتضنها مؤسسات تضمن استمرارها واستقلالها. وهكذا نكون أمام طريقين متناقضين لحركة الإرادة فى التاريخ:
فى الطريق الأول يتصور المؤمن أن تقواه العميقة تمكنه من هزيمة الدبابة بالسيف أو إسقاط الطائرة من فوق حصان، وهو ما لم يحدث ولن يحدث، فإذا ما انهزم المؤمن بدا وكأن الإيمان نفسه قد هُزم، ولأنه لا يريد الاعتراف بهزيمة الإيمان فهو يفضل الموت على مثل هذا الاعتراف، ولذا استحال الجهاد إلى عمليات انتحار عبثى ونزعات تدمير عدمى تنال من وجود المسلم وتشوه الإسلام فى آن.
وفى الطريق الثانى يعتقد المؤمن أن إيمانه يدفعه إلى أعلى درجات المعرفة والعقلانية طاعة لربه الذى اختاره خليفة فى الأرض، فإذا به أعلم العلماء. كما يفرض عليه استخدام معارفه ونتاجاتها بأقصى درجات الشجاعة التى توفرها له العناية الإلهية، ويضمنها الشعور بالثقة فى الحقيقة الإلهية، فإذا به أشجع الشجعان.
على الطريق الأول ثمة تناقض بين الإرادة والعقل، بين الحرية والمعرفة، بين التاريخ والعصر، لا ينتج عن ارتطاماته سوى العنف والإرهاب. وعلى الطريق الثانى ثمة تكامل بينهما، يجعل المؤمن منتصرا بقوة العلم وشجاعة الإيمان معا، لا فى الحروب فقط بحسب الفهم القاصر للجهاد بل فى كل سباق نحو التمدن والتحضر والتقدم والعمران.
فى هذا السياق تتبدى المفارقة الكبرى فى دنيا الإسلام، فالمتشددون من المنتمين للفكر التقليدى المؤسس لعقل الإسلام السياسي، يعرفون كيف يموتون فى سبيل الإسلام، بحثا عن (الشهادة)، حيث تقول أحد أدبياتهم مفاخرة: (نحن طلاب موت). ولكنهم، فى المقابل، لا يعرفون كيف يحيون فى سبيله، إذ لا يدركون المعنى الحقيقى لرسالة الاستخلاف، التى تطالبنا بتحقيق التقدم وترسيخ العمران.. وهنا تحول الجهاد إلى ظاهرة دموية، ووسيلة وحيدة للرد على الأزمة الحضارية الشاملة التى يعيشها العالم العربى الإسلامى، حيث ارتبط مفهوم الجهاد بالخلافة الشرعية عبر الإدعاء بالحاكمية السياسية ومتلازماتها السلبية من تطرف وإرهاب ضد كل نظم الحكم القائمة بدعوى أنها جاهلية، وضد كل القيم المؤسسة للحرية بدعوى إنها بدعة. كما ارتبط مفهوم الجهاد بمفهوم الهوية المغلقة، تحت ذريعة أن الانفتاح على الآخر يمثل، ليس فقط انسحاقا حضاريا بل ودينيا ينال من الإسلام، ولا سبيل إلى تجاوزه إلا بالانغلاق على الذات، والعودة إلى الماضى القدسي، الذى يستحيل هنا إلى قبلة سرمدية تتبعثر معها أبعاد الزمن وتضطرب ديناميكية الحركة التاريخية. وارتبط أخيرا بأقنوم المؤامرة الغربية، حيث العالم المسيحى! يحتل من العالم الإسلامى ذلك الموقف الذى احتله الشيطان من الإنسان فى عقيدة الخلق التوحيدية، وهو الموقف الذى يُختزل فى آليتى الإغواء والإفساد الدائمين.
وهكذا يمثل الجهاد، باعتباره ذلك السلوك الاحتجاجى العنيف، الملتحف بالقداسة، والملتبس بالإسلام، آلية الرد (الأسطورية) على الأساطير الثلاثة الأولى، فجميعها تقود إليه؛ ولأن ثلاثتها تنطوى على معظم المساحة المتاحة لفعالية الإنسان المعاصر؛ ولأنه، أى الفهم السائد للجهاد، يسعى إلى تأميم هذه المساحة ليشغلها هو بنفسه وبمعاركه التى لا تنتهى، فهو يسعى حقيقة إلى تأميم حياة المسلم المعاصر، وسد الطريق على حركة الإسلام فى العصر.

الجهاد المعاصر وما يفرزه من عنف وإرهاب يعكس اغترابا نفسيا وانسدادا تاريخيا يجب الإفلات منه
إنه الانسداد النابع من تصور يوتوبى مأفون، بأن نماذج حكم معينة تنتمى لعصر مضى، وتستند إلى تأويل دينى ضيق الأفق، تستطيع أن تحكم زمنا حاضرا أو مستقبلا آتيا لمجرد إنها تحمل شعارا جذابا، لا يستطيع الصمود فعليا فى مواجهة قيم الحداثة السياسية المتنامية منذ ثلاثة قرون على الأقل، فلا الروح الوطنية يمكن وأدها فى هذا الزمان، ولا العلمانية السياسية يمكن التنكر لأهميتها فى هذا العصر، ولا النزعة الفردية يمكن الخلاص منها فى تلك الثقافة، ولا الديمقراطية يمكن تجاهلها باعتبارها الثمرة الجميلة لهذه المتوالية. إنها أبجديات الحياة المتمدينة والتنظيم السياسى فى عالمنا، وكل محاولة لإهدارها غير مثمرة لأنها تضاد منطق التاريخ، وهوى الناس، حتى أولئك الذى يجهلون تلك المبادئ الفلسفية والمفاهيم النظرية. فثمة شخص، قد لا يعرف معنى النزعة الفردية، ولكنه يعيش تجلياتها، فإذا ما حاول أحد أن يكسر نمط حياته تصدى له بقوة، إنه يدافع عن ذاتيته كإنسان.. قد يكون عاملا فقيرا أو حتى متبطلا ولكنه يقول للآخر: أنا حر، ليس فى سياق سياسي، أو أمام صندوق انتخابي، بل فى أى موقف حياتى يشعر فيه أن كرامته كإنسان صارت موضع امتهان من أحد يسعى للتحكم فيه أو نزع إرادته.
وهو الانسداد نفسه الذى حاول المصريون الانفلات من براثنه بخروجهم الكثيف فى الثلاثين من يونيو ضد جماعة الإخوان، اعتراضا، ليس فقط على أوضاع حياتية صعبة، ولكن دفاعا عن نمط حياة مألوف بعد أن وجدوا جماعات الأمر بالمعروف تفتك بمقومات اجتماعهم المتمدين، ودولتهم الوطنية، بزعم مشروع إسلامى لم يلمسوه أبدا. فعلوا ذلك من دون إدراك لمفاهيم الدولة الوطنية والعلمانية، بل إنهم طالما اعترضوا على بعض هذه المفاهيم خصوصا الأخير، خشية على الدين الذى أوهمهم البعض أنه يجافيه، ولم يدركوا الحقيقة، إلا عبر تجربة حياة واقعية استمرت عاما واحدا، لعله كان ضائعا من عمر مصر على الصعيد السياسي، ولكنه كان مفصليا على الصعيد الثقافى، إذ وضعها على طريق إصلاح دينى تأخر كثيرا قياسا إلى حركة التاريخ العام، وعانى انقطاعا ناهز القرن، قياسا إلى تاريخ مصر نفسها الذى عطلته الجماعة المحظورة منذ عشرينات القرن الماضى، بانقلابها على المشروع النهضوى العربى الذى صاغته طوال القرن التاسع عشر جهود رواد كثر، ربما كان أولهم رفاعة الطهطاوى الذى حاول تحقيق النهضة من خلال نقل الأعمال الكبرى فى الثقافة الغربية الحديثة إلى الثقافة العربية عبر مدرسة الألسن للترجمة التى أنشأها خصيصا لذلك الغرض برعاية محمد على باشا مؤسس الدولة المصرية الحديثة. ثم "خير الدين التونسى" الذى طرح على نفسه سؤالا أساسيا: لماذا تخلف المسلمون، وكيف يستعيدون تقدمهم؟ ومن خلال تجربة عمل مباشرة بالسياسة، مع تحصيل نظرى واسع للمعرفة دعى الى منهجية عقلية تنزرع جذورها فى التربة الإسلامية لاستنبات رجال دين يعرفون الدنيا كما يعرفون الشريعة، كطريق لإحياء الحضارة العربية. ثم "الألوسى" الذى أكد على ضرورة النهضة من خلال إصلاح شامل تتكامل فيه مناهج إصلاح العقيدة، والشريعة، والفكر، والأدب، واللغة. ثم الثائر جمال الدين الأفغانى، داعية التحرر من التشرزم السياسي، والهيمنة الغربية عبر الوحدة "الجامعة الإسلامية"، ومن التخلف والتقليد باستعادة العقلانية الإسلامية فى مواجهة اتهامات مفكرى الغرب، خصوصا الدهريين، للإسلام وعلى رأسهم الفرنسى "أرنست رينان" الذى جادله كثيرا فى مناظرات معروفة. وصولا إلى الإمام محمد عبده، الذى صاغ تلك المحاولات منهجيا بدعوته إلى "عقلانية إسلامية" يمكن اكتسابها من خلال التربية، وإلى إصلاح الفكر الدينى، على المنوال الذى كان مارتن لوثر قد نسج عليه فى الفكر المسيحى الغربى مطلع القرن السادس عشر.
سعى المصلح البروتستانتى إلى تحرير المسيحى من سلطة الكنيسة، ومن هيمنة أعمال وكتابات كبار باباواتها وقديسيها، مؤكدا على محورية الإنجيل وإتاحة قراءته لكل مسيحى، كفرد حر، خصوصا بعد أن قام بترجمته من اللاتينية إلى الألمانية. أما الإمام المسلم فقد طمح إلى تجديد رسالة التوحيد نفسها، إذ رأى فى النص القرآنى معانى ثورية لمفهوم الألوهية، ومغزى الإنسانية، كانت طُمست تحت وطأة تراث الاستبداد والقهر والخرافة، يكفى استدعاؤها لتوفير ممكنات أصيلة للاستنارة والحرية، حيث تستحيل العبودية لله طاقة تحرر (وجودية)، تدعم جهود المسلم فى مواجهة السياقات المجتمعية والسياسية التى طالما أمعنت فى التسلط على عقله وإرادته بسلطة النص التراثى، والتى تشكلت بمساعدتها، جل هياكل القهر التى سطرت تاريخنا المديد. ومن ثم قدم صياغته الرائقة والثورية للعلاقة بين العقل والنص، معطيا الأولولية للعقل، مؤكدا على أن النص لايمكنه أن يتناقض مع العقل، فإذا ما تبدى تناقضا كان بالضرورة (ظاهريا)، يفرض تحكيم العقل فيه، ليس لأن ثمة خطأ فى النص ولكن لأن فهمه قد استغلق على الذهن، ومن ثم وجب التأويل بحسب قواعد اللغة العربية، حتى لا نقع فى آفة التلوين. وهكذا لا تبدو مركزية العقل استعلاء على النص أو رفضا له، بل وسيلة فهم يتم من خلالها تجاوز ظاهره إلى باطنه، والولوج إلى قلب الحكمة منه.

كان محمد عبده أكثر جذرية من مارتن لوثر، لكن المصلح البروتستانتى انتصر بالفلاسفة الذين أتوا بعده بينما هُزم الإمام المسلم أمام السلفية التى أعادت تأويله
أزعم هنا أن المنطلقات الإصلاحية لدى الإمام كانت أكثر جذرية من لوثر، رغم استمرارية وإثمار دعوة الإصلاح لدى الأخير، وانتكاسها لدى محمد عبده، إذ لم ينتصر لوثر إلا بمن جاءوا بعده ليكملوا مسيرته، فحلمه الأول والبسيط فى قهر الباباوية، سرعان ما أنتج دولا قومية وأولد علمانية سياسية، قبل أن يفضى إلى تنوير روحى أحيانا ومادى أحيانا أخرى، بفعل ديناميكية السياق التاريخى الأوروبى الحاضن لدعوته، بينما أدى الجمود المهيمن على السياق التاريخى العربى إلى هزيمة مشروع محمد عبده، وذلك عبر حلقتين متتابعتين: فى الأولى أعاد محمد رشيد رضا تأويل الإمام على نحو سلفى قضى على جرعته العقلانية ومبدأه (التنويرى) القائل بأولوية العقل على النص. وفى الثانية قام حسن البنا، تلميذ رضا، بتحويل سلفيته العلمية إلى حركية، بإنشاء جماعة دينية تصورها تربوية، أو روج لكونها كذلك، وهى إما سياسية منذ المبتدأ أو أنها استحالت كذلك بحسب طبيعة الأشياء، كونها جماعة مغلقة تقوم على تمييز نفسها فى مواجهة الآخرين، ومن ثم على ثنائية (الذات العالم)، حيث لا تتبلور هوية الجماعة إلا فى مواجهة الآخرين من عموم المصريين/ المسلمين، بحسب المنطق الأرسطى، المحكوم بمبدأ عدم التناقض الذاتى، فما دمت أنا أنا، وما دمت أنت أنت، فلن يكون أنا هو أنت، أو تكون أنت هو أنا، فأنا أنا فى مواجهتك، وأنت كذلك فى مواجهتى. ولعل هذا هو سر اغتراب الجماعة، وتطرف ما انبثق عنها، فكريا وليس بالضرورة تنظيميا، من حركات بدأت بحزب التحرير ولن تنتهى بداعش.
لقد اختصرت مصر عبر حكم الجماعة وسقوطها المدوى بعد عام واحد، عقودا طويلة كانت مطلوبة حتى تكتسب هذه العملية زخمها الحقيقى، لو أن الجماعة ظلت فى موقع المعارضة كما كانت طوال العقود الثمانى الماضية، أو أنها شاركت فى الحكم بنصيب محدود لا يعرضها للانكشاف الذى جرى لها أو وقعت هى فيه، بتأثير رغبتها فى الاستحواذ السياسى السريع، حيث أدى انفرادها بالحكم، إلى وضع كل الشعارات التى رفعتها: الإسلام هو الحل، القرآن دستورنا، فى آتون واقع صعب على مرأى ومسمع من جمهور يتلقى بتحفز ردود أفعالها على أسئلة الحياة اليومية، الأمر الذى أذاب أساطيرها تحت شمس الواقع، ونزع عنها قوة السحر التى غلفتها، ووضعها تحت مقصلة الحقيقة.
وفى هذا السياق تتبدى لنا طبيعة المأزق الذى يواجه الإسلام السياسى اليوم، بعد أن ارتكبت تياراته الأساسية باسم الإسلام وتحت رايته كل الأفعال المدنسة وهم بصدد النزوع إلى احتكاره وتوظيفه فى خدمة غرائز نفعية، ومصالح دنيوية، حتى إنهم لم يتورعوا عن قتل الآخرين على مذبحه، قبل أن يغسلوا أيديهم من الدماء بنصوصه وتأويلاته. إنه التناقض الذى تبدى باكرا فى سياق التاريخ الإسلامى، سواء فى الفتنة بين الخليفتين (الراشدين) عثمان وعلى رضى الله عنهما. أو بين على ومعاوية، ثم بين الحسن ويزيد، قبل أن يتحول إلى قاعدة أساسية ومنوال سائد طالما أنتج شروخا فى جدران الأمة، مكرسا لمذاهب كالشيعة، ومحفزا لفرق كالخوارج، لا تزال فاعلة حتى اليوم وإن تغيرت المسميات بحسب العصور، ومنتجا لأجيال متعاقبة من الزنادقة والشكاك الذين توفرت لهم شجاعة طرح الأسئلة المرة على حساسيتهم الشخصية (العقلانية). واليوم، كأن زمنا طويلا لم يمر وقرونا عديدة لم تنقضى، فالخوارج الجدد لا يزالون يتورطون فى أعمال عنف يريدون بها إثبات أنهم لا يزالون أقوياء وقادرون، من دون إدراك لحقيقة أنهم كلما أمعنوا فى العنف أبرزوا ضعفهم لا قوتهم، وكشفوا عن حجم تباينهم مع طبائع الأمور ومدى تناقضهم مع حاجات الناس وأفقدوا الجماهير مخزون التعاطف النفسى معهم. ومن ثم فإن تجاوز المأزق الوجودى الذى تعيشه مجتمعاتنا إنما يفرض على هؤلاء مراجعات فكرية كبرى، على طريق الاعتراف الثقافى الشجاع بحقيقة أن الدين لا يمتلك الحقيقة التاريخية كاملة، ولا يستطيع السيطرة على الواقع، ولا التصدى لأسئلته العملية، وأن ما ينفرد به من إجابات يتعلق فقط بأسئلة المعنى والمصير، ما يفرض على الإسلام السياسى الخروج من شرنقته والدخول فى صيرورة تحول تلج به إلى أفق جديد تجعل منه تجسيدا لإسلام مدنى محافظ أخلاقيا فقط، وليس إسلاما راديكاليا ذى بنية إيديولوجية مغلقة أو متعالية على التاريخ، ما يعنى القبول ب (العلمانية السياسية) كضرورة أولية لأى دولة مدنية حديثة ناهيك عن أن تكون ديمقراطية، الدور الأساسى للدين فيها هو إضفاء الشعور بالأمن النفسى والتكافل الاجتماعى، عبر التكريس الأخلاقى والإلهام الروحى.

عندما تتوقف زلازل السياسية وتهدأ براكين الدم سينفتح التاريخ العربى على صيرورة حتمية للإصلاح الدينى
وهنا بالضبط تكمن الممكنات الكبيرة للإصلاح الدينى العربى، رغم الواقع المعقد، والملابسات الدامية. ففى الأعوام الأربعة الماضية قام كثيرون فى مصر، وتونس، ومجتمعات عربية عدة، بطرح أسئلة عميقة بدرجات مختلفة حول الدين وعلاقته بالواقع، وتبادلوا الرأى حول شرعية تمثيل الإسلام السياسى لقيمه ومثله. كما تناقشوا حول الدستور وقيمته، والدولة المدنية ومعناها، ومبادئ الشريعة وأحكامها.. ربما تخلى كثيرون من المنغمسين فى هذا الحوار عن بعض قناعاتهم القديمة المتشددة، وصاغوا فى المقابل قناعات أكثر تحررا، وربما عجزوا عن ذلك.. سوف يتشاجرون كثيرا ويتفقون قليلا، وسيعلوا صياحهم بالرفض أو التأييد، ولكنهم جميعا سيدخلون ورشة عمل ثقافية مفتوحة، وسيبذلون جهدا مضنيا للفهم.. وفى المقابل ستدور حركة الواقع بكل قسوتها على الجميع، سوف تكذب ما يمكن تكذيبه، وتنتصر لما يجب أن تنتصر له من مقولات وطروحات.. سوف تبشر وتنفر.. تُفرح وتُؤلم، تصدم وتدفع.. ولكنها فى النهاية سوف تلهم وتعلم.. تضبط حركة الكثيرين، إذ تلفت أعناقهم وتوجه مساراتهم.
سينتاب الجميع لحظات شك يشتاقون فيها إلى اليقين، حيث يتمزق الناس حول فهم الدين عندما يستمعون إلى تفسيراته المتعددة.. ستزيغ عقول وعيون كثيرين، وتخور أرواحهم إزاء صعوبة الحقيقة واستعصائها على الإدراك السهل والبسيط.. سيدير الناس أعناقهم إلى مراجعهم الكبرى منصتين ومراقبين، وربما يطفر آنذاك إلى مقدمة الصفوف مثقف عربى علمانى، يصلح بطلا للإنسانية العربية الجديدة، ينصت إليه الناس مدركين إنه لم يكن كافرا، وأن ثمة إيمان مختلف عن ذلك الإيمان الذى عرفوه فى الزوايا الصغيرة، والكتب الصفراء.. كما يتراجع فى حضوره أئمة الزوايا والمساجد الشرعية من ذوى العمامات والجلابيب، وأئمة الفتوى الفضائية من ذوى البدل العصرية..
وبمرور الزمن، سوف يفرض المنطق العقلانى نفسه على الجميع، سوف يتحكم بالواقع، وعندها يدرك الناس أن الدنيا هى الدنيا، والإنسان هو الإنسان، وعندها يسود العقل من خلال التجربة، فتتسع الكتلة الحديثة باستمرار وتستقطع من الكتلة السلفية باستمرار حتى تفقد الأخيرة حضورها المتكافئ وتتحول إلى حضور نحيف لا يعوق تدفق الأولى فى مجرى التاريخ العربى، ولا يعوقها قيادة المشروع النهضوى العربى، تجاوزا لمأزق دولة عصر التحرر القومى، الذى كشفت عنه العقود الست الماضية. وربما انصاعت قواعد الإسلام السياسى الراهن إلى الحقيقة، وعندها يكون التغيير أسرع وأسلس، ويظل لهم حضورهم النحيف فيه. وربما رفضوها، إنكارا لحركة الزمن، وإغفالا لمنطق التاريخ، وعندها سيسقطون من الحساب، سيتجاوزهم الزمن وينساهم الناس.. لقد دخل المصريون، وبعض العرب، ورشة ثقافية كبرى، استمروا فيها شهورا طويلة، ولا أظنهم قادرين على نسيان هذه التجربة، أو تجاهل تلك الخبرة، خصوصا أنها خبرة معمدة بألم الممارسة الواقعية، ومرارة الأزمات اليومية، ما يعضدها بعملية تغذية استرجاعية هائلة وربما نادرة اختصرت عقودا كانت لازمة لانبعاث مثل هذا الإصلاح الدينى المؤجل، واستئناف مسار النهضة العربية المعطل.

[email protected]


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.