تلهمنا حكمة التاريخ أن الأفكار الكبري المؤسسة لحركة سيره والملهمة لوقع خطواته لا تبلغ ذروة تحققها في الآن ذاته, ولا تستنفذ كل طاقاتها في اللحظة نفسها, بل تبلغ كل فكرة منها ذروة تحققها في عصر دون غيره, بحيث تستحيل مرجعا يقاس به وإليه حركة الفاعلين فيه, قبل أن ترثها فكرة كبري أخري أقدر منها علي حمل أعباء عصر جديد يكون التاريخ فيه قد ارتقي, وبلغ درجة أكبر من التعقيد, وهكذا. ومن ثم كانت الأفكار القادرة علي صوغ العالم هي دائما الأكثر حداثة والأقدر علي تلبية متطلبات عصرها. ففي مرحلة تاريخية كان الدور الرئيسي للدين أيا كانت العقائد التي تمثله, فيما لعبت الأفكار الأخري أدوارا مساعدة أو هامشية, سواء فلسفية, أو سياسية أو علمية. وفي مرحلة أخري كان الدور الأساسي لفكرة سياسية كالدولة القومية وبناتها الثلاث العلمانية والفردية والديمقراطية, فيما احتلت الأفكار الأخري مواقع هامشية في صوغ الواقع وصنع التاريخ. وفي مرحلة ثالثة كان العلم سيد الموقف, حيث التكنولوجية هي رافعة الحياة, وموجهة التاريخ, فيما الأفكار الأخري تابعة لها محكومة بها. وهكذا نجد أن جميع الأفكار المؤسسة لعبت أدوارا كبري في التاريخ, ولكن بأقدار مختلفة في مراحل مختلفة, عبر تتابع محكوم ببنية تاريخية متطورة تنزع عموما إلي الإرتقاء والعقلانية. وقد ترتب علي ذلك وحدة عميقة في الحضارة الإنسانية علي الرغم من تباين ثقافاتها المؤسسة, فكانت هناك دوما حضارة سائدة ينضوي تحت رايتها الجميع, تفرض منطقها علي الزمان, وتمد سيطرتها علي المكان, والفارق فقط بين أبناء الثقافة المؤسسة, وبين أبناء الثقافات الأخري المعاصرة لها هو الفارق بين الرائد والتابع, المؤثر والمتأثر, الصانع والمستخدم. هكذا كانت حضارتنا سائدة في عصر والغرب تابع, ثم تغير الحال وتبدلت المواقع الآن, من دون أن يستطيع أيا من الثقافتين أو المجتمعين الهروب من زمانه أو تحدي منطق عصره. غير أن ثمة مشكلة قد تثور حال فقدت الفكرة المحفزة قدرتها علي التحكم بعالمها, ذلك أن فشلها في تحقيق السيادة, لا يعني موتها أو انسحابها من التاريخ, بل فقط انزياحها من بؤرته إلي هامشة, لتعلب أدوارا فرعية في مجريات هذا العصر أو ذاك علي نحو يسير في أحد اتجاهين: الاتجاه لأول هو الإسهام الايجابي في حركة العصر إذا ما انصاعت الفكرة لمنطق التاريخ فأحسنت التكيف معه والإندراج في سياقه كفكرة ملهمة أو مساعدة, فالدين مثلا يمكن أن ينزاح من المجال العام إلي ضمير الفرد المؤمن, ممارسا دورا روحيا هائلا, إذ يقدم له الصبر علي مآسيه, ويعطيه التعزيه علي نحو يحقق له توازنه النفسي, أو يلهمه الأمل في تجاوز مصاعب عيشه, ويمنحه الثقة في أن المستقبل أفضل, ما يساعده علي النجاح فعلا, وهكذا. والاتجاه الثاني هو مشاكسة حركة هذا العصر إذا ما حاولت الفكرة المحفزة تحدي منطق التاريخ وسعت إلي إعاقة الفكرة الكبري المؤسسة له, وقطع طريق سيرها الأمن. فعلي الرغم من أهمية الفكرة وقيمتها في ذاتها, فإن محاولتها تصدر مشهد الزمن في غير أوانها, غالبا ما يولد طاقة سلبية, غير بناءة, تعمل ضد حركة عقارب الساعة, تعطل الطاقة الإيجابية للفكرة المؤسسة, الأكثر قدرة علي الحفز والتشييد والبناء, وذلك علي النحو الذي يمثله أرباب الإسلام السياسي عندما يتصورون أن نماذج حكم معينة تنتمي لعصر مضي, وتستند إلي تأويل ديني نفعي ضيق الأفق, تستطيع أن تحكم زمن حاضر أو مستقبل آت لمجرد إنها تحمل شعارا جذابا, أو تستند إلي عقيده حية, تبقي ملهمة, لضمائر المؤمنين ولكن عاجزة عن صنع عالمهم علي النحو الذي تمثله قيم الحداثة السياسية منذ أربعة قرون علي الأقل, فلا الروح الوطنية يمكن وأدها في هذا الزمان, ولا العلمانية السياسية يمكن التنكر لأهميتها في هذا العصر, ولا النزعة الفردية يمكن الخلاص منها في تلك الثقافة, ولا الديمقراطية يمكن تجاهلها باعتبارها الثمرة الجميلة لهذه المتوالية. إنها أبجديات الحياة الجماعية والتنظيم السياسي في عالمنا, وكل محاولة لإهدارها غير مثمرة لأنها تضاد طبيعة الأشياء ومنطق التاريخ, بل وهوي الناس, ليس فقط أولئك الواعين بها, بل وأيضا أولئك الذي يجهلونها نظريا ويعيشونها واقعيا, فثمة شخص قد لا يعرف أصول النزعة الفردية, ولكنه يعيش تجلياتها. فإذا ما حاول أحد أن يكسر نمط حياته تصدي له بقوة, إنه يدافع عن ذاتيته كإنسان. قد يكون عاملا فقيرا أو حتي متبطلا ولكنه يقول للآخر: أنا حر, ليس في سياق سياسي, وليس أمام صندوق انتخابي, بل في أي موقف حياتي يشعر فيه ان كرامته كإنسان موضع امتهان من أحد يسعي للتحكم فيه أو نزع إرادته. وقد خرج الكثير من المصريين في الثلاثين من يونيو ضد الحكم الإخواني, عتراضا ليس فقط علي أوضاع حياتية صعبة ولكن دفاعا عن نمط حياة معتاد ومألوف بعد أن وجدوا جماعات الأمر بالمعروف تقتل الناس باسم الدين, وتحاصرهم مؤسساتهم باسم الإسلام, وتفتك بمقومات دولتهم بزعم مشروع إسلامي لم يلمسوه أبدا. فعلوا ذلك من دون إدراك لمفاهيم الدولة الوطنية والعلمانية, بل أنهم طالما اعترضوا علي بعض هذه المفاهيم خصوصا العلمانية عندما كانوا يسمعون عنها من دعاتها, خشية علي الدين الذي أوهمهم البعض أنها تجافيه, ولم يدركوا الحقيقة, إلا عبر تجربة حياتية معيشة. وهنا يمكن القول بأن عاما من حكم الإخوان ربما يفضي إلي استئناف عصر النهضة الذي كان أجهض بفعل الجماعة نفسها, التي لعبت منذ نشأتها في عشرينات القرن الماضي دورا معطلا لتطور الثقافة المصرية باتجاه عقلانية نقدية كانت تتشكل في الربع الأول من القرن العشرين, علي قاعدة فكر إصلاحي موروث من القرن التاسع عشر, راكمته جهود كثيرون, لعل أبرزهم الإمام محمد عبده, وذلك عبر حركتين ارتجاعيتين: الأولي تمثلت في رشيد رضا, تلميذ عبده, الذي أعاد بث الحيوية في النزعة الأكثر محافظة والتزاما بالإسلام التقليدي. والثانية تمثلت في حسن البنا, تلميذ رضا, الذي أنشأ الجماعة عام1928 كأول وأخطر تجسيد سياسي/ حركي لهذه النزعة التقليدية في الثقافة العربية المعاصرة, فهل هو دهاء التاريخ, الذي يفرض علي من أغلق الباب أن يفتحه دون أن يدري؟. لمزيد من مقالات صلاح سالم