ثمة مفارقة كبرى تتبدى فى دنيا الإسلام، فالكثير من المنتمين للفكر التقليدي/ السلفى المؤسس لعقل الإسلام السياسي، يعرفون كيف يموتون فى سبيل الله، بحثا عن (الشهادة)، حيث تقول أحد أدبياتهم مفاخرة: (نحن طلاب موت) على نحو تستحيل معه الحياة حولنا دما ودمارا. لكنهم، فى المقابل، لا يعرفون كيف يحيون فى سبيل الإسلام، ولا يدركون المعنى الحقيقى لرسالة الاستخلاف، أى ذلك العهد بين الله وبين الإنسان والذى بمقتضاه أوكل الله إلى الإنسان مهمته الكبرى فى ترسيخ العمران، وترقية الحياة وتحقيق التقدم، حيث تدهور مفهوم الجهاد عبر التاريخ بتأثير الفقه القروسطوي، فقه الجمود السياسى والهزيمة العسكرية، من كونه جهادا حضاريا شاملا تنصهر فى بوتقته الروح والعقل مع الجسد إلى كونه جهادا عسكريا ونزوعا قتاليا ينهض فقط على قوة الجسد. تفسير ذلك هو الشعور اللاتاريخى لدى هذا التيار، الذى لا يزال يعتقد فى أن قيمة التضحية بالنفس تظل، هى الآلية الوحيدة الممكنة لبناء نهضة الأمة واستعادة كبريائها فى مواجهة أعدائها. وهنا فلا أهمية تذكر للقيم الكبرى المؤسسة لروح العصر كالعلم والحرية، ولا أهمية أصلا للأبنية الحديثة، الحاضنة لهذه القيم والمنظمة لعملها.. نعم يمكن القول إن الشجاعة النفسية والرغبة فى التضحية تمثلان جذرا مؤسسا لمفهوم الحرية نفسه، وبعض فلاسفة الحداثة يقول بذلك على منوال شوبنهور الذى يمنح الإرادة أولوية على المعرفة، غير أن الأمر يتعلق هنا بطريقة عمل الإرادة التى لا يمكن لها أن تعمل فى الفراغ بل من خلال وسائط ووسائل تزداد تركيبا بفعل حركة التقدم، التى لا يمكن فهمها إلا باعتبارها صيرورة تنمية وتعقيد تلك الوسائط والوسائل التى يتعامل الإنسان من خلالها مع العالم، كونهما القادرتين على تنظيم عمل الإرادة بما لا يجعل من مخرجاتها مجرد أفعال فردية طائشة يحركها الهوي، بل أفعال إنسانية ناضجة تتأسس على قواعد، وتحتضنها مؤسسات تضمن استمرارها واستقلالها. وهكذا نكون أمام طريقين متناقضين لحركة الإرادة فى التاريخ: فى الطريق الأول يتصور المؤمن أن تقواه العميقة تمكنه من هزيمة الدبابة بالسيف أو إسقاط الطائرة من فوق حصان، وهو ما لم يحدث ولن يحدث، فإذا ما انهزم المؤمن بدى وكأن الإيمان نفسه قد هُزم، ولأنه لا يريد الاعتراف بهزيمة الإيمان فهو يفضل الموت على مثل هذا الاعتراف، ولذا استحال الجهاد إلى عمليات انتحار عبثى ونزعات تدمير عدمى تنال من وجود المسلم وتشوه الإسلام وفى الطريق الثانى يعتقد المؤمن فى أن إيمانه يدفعه إلى أعلى درجات المعرفة والعقلانية طاعة لربه الذى اختاره خليفة فى الأرض، فإذا به أعلم العلماء. كما يفرض عليه استخدام معارفه ونتاجاتها بأقصى درجات الشجاعة التى توفرها له العناية الربانية، ويضمنها الشعور بالثقة فى الحقيقة الإلهية، فإذا به أشجع الشجعان. على الطريق الأول ثمة تناقض بين الإرادة والعقل، بين الحرية والمعرفة، بين التاريخ والعصر، لا ينتج عن ارتطاماته سوى العنف والإرهاب. وعلى الطريق الثانى ثمة تكامل بينهما، يجعل المؤمن منتصرا بقوة العلم وشجاعة الإيمان معا، لا فى الحروب فقط بحسب الفهم المقصور للجهاد بل فى كل سباق نحو التمدن والتحضر والتقدم والعمران. لقد شهدت العقود الأخيرة تحولا كبيرا، أو لنقل نكوصا تاريخيا لمفهوم الجهاد من الطريق الثانى إلى الطريق الأول، حتى بات بمثابة الوسيلة الوحيدة للرد على الأزمة الحضارية الشاملة التى تعيشها الحضارة الإسلامية، حيث ارتبط مثلا بأزمة الشرعية السياسية والتى صارت تتشكل فى قالب الصراع بين مفهوم الخلافة الشرعية والإدعاء بالحاكمية السياسية ومتلازماتها السلبية من جهة، وبين الدولة المدنية الحديثة الوطنية أو القومية من جهة أخري، وما أدى إليه ذلك الصراع من تطرف وإرهاب ضد كل نظم الحكم القائمة بدعوى أنها جاهلية، وضد كل القيم المؤسسة للحرية بدعوى إنها بدعة. كما ارتبط بأزمة الهوية التى تصورها هوية أقنومية، أى مغلقة ومكتملة ونهائية، باعتبار أن الشروط الثلاثة المحققة لأقنوميتها ضرورية لتأكيد أصالتها، وبذريعة أن الانفتاح على الآخر يمثل، ليس فقط انسحاقا حضاريا بل ودينيا ينال من الإسلام، ولا سبيل إلى تجاوزه إلا بالانغلاق على الذات، والعودة إلى الماضى القدسي، الذى يستحيل هنا إلى قبلة سرمدية تتبعثر معها أبعاد الزمن وتضطرب ديناميكية الحركة التاريخية. وارتبط خصوصا وأخيرا بصدمة الحداثة التى لم بفق منها بعد، وبأزمة العلاقة مع الغرب التى تصير إلى عقدة حضارية كاملة تحمل اسم المؤامرة الغربية، حيث العالم الغربى ( المسيحي)! يحتل من العالم الإسلامى ذلك الموقف الذى احتله الشيطان من الإنسان فى قصة الخلق التوحيدية، وهو الموقف الذى يختزل فى آليتى الإغواء والإفساد الدائمين. وهكذا يكون الجهاد، باعتباره ذلك السلوك الاحتجاجى العنيف، الملتحف بالقداسة، والملتبس بالإسلام، والمتجسد فى أشكال كالتطرف والإرهاب، بمثابة آلية الرد الأقنومية على كل الأزمات المحيطة بالواقع والعقل والحضارة العربية الإسلامية، ولذا فهو يسعى إلى تأميم المساحة الواسعة التى كان يتوجب على العقل العربى أن يشغلها، كى يشغلها هو بنفسه وبمعاركه التى لا تنتهي، ومن ثم فهو يسعى حقيقة إلى تأميم حياة المسلم المعاصر، وسد الطريق على حركة الإسلام فى العصر. إننا هنا أمام مفهوم عملاق (ذكوري). وكذلك أمام خطاب (قتالي) ذى بنية معقدة ومن ثم يحتاج إلى تفكيك شديد سواء من داخله حيث تجرى مساءلته بروح النص القرآنى الشامخ الذى يعكس رؤية إنسانية متفتحة للوجود الإنساني، أو من خارجه حيث يمكن مساءلته بمعايير التاريخ الإنسانى ومقتضيات النزعة التاريخية، نفيا لتصوراته الاختزالية، ونقدا لمقولاته الاطلاقية، وردا على ادعاءاته بالخلود والأبدية (الأقنومية)، وصولا إلى الإعلان الصريح، وعلى مسئوليتنا، ب (نسخ الجهاد العسكري) خارج إطار الحرب الدفاعية، سواء بفعل شيوعية الأفكار فى الفضاءات الإنسانية الجديدة والمفتوحة على نحو يقوض أركان الكهانة الدينية، أو بفعل ذبول حق الفتح العسكرى أمام حقوق السيادة القومية، وكلاهما معطيات أتاحتها لنا عصور الحداثة وحركة التقدم. لمزيد من مقالات صلاح سالم