أطلقت موسكو منذ العقد الماضى عدة منتديات مهمة لتعزيز الحوار بين روسيا والعالم فى مختلف المجالات منها «منتدى بطرسبرج الاقتصادى الدولي»، و«منتدى الجيش»، و«منتدى فلاديفستوك للاقتصاد الشرقي»، ويعتبر «منتدى فالداي» أبرز هذه المنتديات على الصعيد السياسى والاستراتيجي. واستهل المنتدى أعماله لأول مرة عام 2004على ضفاف بحيرة «فالداي» شمال غربى موسكو، ومن هنا جاء الاسم، وشارك فيه على مدار السنوات الماضية ما يزيد على 1000 من رجال السياسة والأكاديميين والخبراء من كبرى الجامعات ومراكز البحوث العالمية فى 63 دولة. ويهدف المنتدى إلى إتاحة فرص الحوار بين الأطراف المتناقضة وربما المتصارعة، وتبادل الرؤى وعرض وجهات النظر المختلفة حول القضايا الدولية والإقليمية بموضوعية وحرية لا نظير لها فى منتديات دولية أخري، بغية الوصول إلى توافق يُخرج الجميع للنور، فى إطار ما يعرف ب «روح فالداي» الداعمة للتوافق والاستقرار والمستقبل الأفضل للجميع. وقد ركز منتدى هذا العام على مستقبل الشرق الأوسط تحت عنوان «متى يأتى الغد؟»، وعكست المناقشات على مدى يومين 27 و28 فبراير، والتى شارك فيها 140 من الساسة والخبراء والشخصيات العامة من 30 دولة،عمق وخطورة الصراعات التى تعتصر المنطقة على ثلاثة محاور أساسية هي: الصراع ضد الارهاب ومحاولة القضاء عليه فى دول عدة يأتى فى مقدمتها سوريا والعراق، والصراع السنى الشيعى الذى يحتدم فى ضوء الاستقطاب السعودى الإيراني، وميل اسرائيل لأن تضع نفسها فى «المركب السني»، على حد تعبير البعض، فى مواجهة ما تعتبره «خطرا إيرانيا»، والصراع الإسرائيلى - الفلسطينى الممتد لما يقرب من قرن من الزمان،هذا إلى جانب الانقسامات والصراعات الداخلية المسلحة التى تبلغ الذروة فى حالة سوريا واليمن وليبيا. فى هذا السياق، بلورت حوارات المؤتمر عدة توجهات عند التفكير فى مستقبل المنطقة، أولها، أن هذه الصراعات رغم اختلافها إلا إنها مرتبطة ببعضها البعض والعمل على تسويتها يجب أن يكون بشكل متواز، صحيح أن مواجهة الارهاب تبدو الأكثر إلحاحاً، إلا إن التعاطى بفاعلية مع الصراعات الأخرى أمر ضرورى لتحقيق الاستقرار والنجاح فى مواجهة الارهاب حيث إن تداعى مؤسسات الدولة يوجد فراغا تملؤه قوى الظلام الارهابية. ثانيها، ان الأطراف المختلفة وصلت إلى قناعة بأن كل هذه النزاعات لا يمكن حسمها بالقوة العسكرية، وأن طاولة المفاوضات هى المخرج الوحيد الممكن من الدائرة المفرغة التى يدور فيها الجميع لسنوات، وكان لتصاعد المشكلات والضغوطات الداخلية خاصة الاقتصادية على جميع الدول الفاعلة فى قضايا المنطقة دور رئيسى فى تعزيز الاتجاه للمصالحة والتوافق وامكانية عقد «صفقات» للتخفيف من العبء الملقى على عاتقها نتيجة استمرار هذه النزاعات. وتم التأكيد على أن التسوية المأمولة يتعين أن تكون على أساس وحدة وسلامة الدولة فى سوريا والعراق واليمن واستبعاد سيناريو التقسيم،مع الحفاظ على حقوق وحريات الأقليات وفى مقدمتهم الأكراد، والتمسك بحل الدولتين فى الحالة الفلسطينية، وضرورة اتمام المصالحة بين فتح وحماس كمتطلب ضرورى خاصة فى هذا المرحلة الحرجة التى تمر بها القضية الفلسطينية. ثالثها، أن هناك حاجة ماسة لإقامة نظام أمن إقليمى فى المنطقة لا يستثنى إيرانوتركيا واسرائيل، واتخاذ اجراءات جادة لبناء الثقة بين الأطراف المختلفة والتخفيف من حدة الاتهامات المتبادلة بشأن التنافس بين المشروع الإيرانى القائم على نموذج الدولة الإسلامية وإحياء الامبراطورية الفارسية على أساس شيعي، وامتداد نفوذ طهران من حزب الله فى لبنان وحركة حماس فى فلسطينوسوريا والعراق حتى اليمن جنوباً مروراً بالأقليات الشيعية فى دول الخليج والتى تمثل تهديداً للتماسك المجتمعى فى هذه الدول خاصة فى الحالة البحرينية. ومشروع الاخوان المسلمين السنى بقيادة تركيا، والنزعة نحو توسيع النفوذ التركى فى المنطقة العربية باعتبارها العمق الاستراتيجى لإسطنبول فى إطار دعاوى إحياء «الخلافة الاسلامية» فى المنطقة أو ما عُرف «بالعثمانية الجديدة» من خلال القوة الناعمة التركية والتى تحولت لقوة صلبة فى الحالة السورية. رابعها، ان التنسيق بين الأطراف الدولية الفاعلة أمر حيوى لتحقيق التوافقات المرجوة لتسوية الصراعات فى المنطقة والقضاء على الارهاب. «إن الغد سيأتى على أى حال، والمهم هو أن يأتى الغد الذى نريده»، حاملاً معه الأمن والاستقرار والسلام والرخاء للمنطقة بأسرها. لمزيد من مقالات د. نورهان الشيخ