حرصت الحركة الصهيونية منذ البداية ومن بعدها إسرائيل على إرساء معادلة تحكم مجرى الصراع مع العرب ومع الشعب الفلسطينى، وتمثلت هذه المعادلة فى «القوة مقابل الحق»، ورغم بساطة هذه المعادلة ظاهريا؛ إلا أنها فى حقيقة الأمر معادلة عميقة ومركبة تشمل كافة جوانب الصراع العسكرية والعلمية والتنظيمية والثقافية المختلفة لدى أطراف هذه المعادلة. ذلك أن «القوة» وهى الطرف الأول فى هذه المعادلة من وجهة النظر الصهيونية والإسرائيلية فيما بعد، كانت ولا تزال تعنى القوة الشاملة بمختلف مظاهرها المادية والمعنوية، أى العسكرية والعلمية والتنظيمية، أما جانبها المعنوى فقد عنى القوة الناعمة التى تتمثل فى الدعاية والإعلان ونسج العلاقات الدولية مع مختلف القوى الاستعمارية، وصناعة الأساطير والميثولوجيا وترويجها على نطاق عالمى واسع، وقادر على السيطرة على المخيلة الغربية ومخاطبة نوازعها العقلانية والإنسانية والعنصرية. كان الجانب الصهيونى يعلم أن الحق بمختلف معانية وتجلياته الحقوقية والتاريخية والسياسية، يقف إلى جانب الشعب الفلسطينى والدول العربية المحيطة، ويشهد بهذا الحق الوجود الفلسطينى المتواصل تاريخيا القديم منه والحديث، كما تشهد به الحفريات التى تقوم بها إسرائيل حاليا ومنذ فترة؛ للبحث عن الهيكل المزعوم فإذا بهذه الحفريات تنطق بالتاريخ الفلسطينى، وتشهد طبقات هذه الحفريات بالمعالم الأثرية الفلسطينية والعربية والإسلامية والمسيحية. فى مواجهة الحق الفلسطينى والعربى لم تكن تمتلك الصهيونية وإسرائيل فيما بعد، سوى الاستناد إلى منطق القوة والتفوق لإسكات الحق الفلسطينى وفرض الأمر الواقع، على أمل أن يفضى هذا الأمر الواقع إلى صياغة حق جديد ومصطنع على الأرض الفلسطينية، والمفارقة المهمة فى هذا السياق أن التعويل المبالغ فيه على القوة من جانب الصهيونية وإسرائيل، كان يعكس فى حد ذاته شكوكا عميقة لدى قادة الحركة الصهيونية فى امتلاك هذا الحق وصعوبة إثباته تاريخيا أو انثروبولوجيا. وقد وضح منذ البدايات الأولى للصراع على أرض فلسطين بين الحركة الصهيونية وبين الشعب الفلسطينى، كيف تم ترجمة هذه المعادلة، إذ تم الحصول على وعد بلفور عام 1917 والانتداب البريطانى على فلسطين، وسماح سلطات الانتداب، بل والتزامها بتسهيل هجرة اليهود إلى أرض فلسطين، وانحياز سلطات الانتداب البريطانى للحركة الصهيونية، على حساب السكان الأصليين، ثم ظهر ذلك أيضا فى تشكيل الفيلق اليهودى فى الحرب العالمية الأولى الذى كان يضم نحو 20 ألف مقاتل يهودى، تدربوا شاركوا فى الحرب العالمية الأولى إلى جانب الحلفاء؛ بهدف تشكيل قوة مدربة قتاليا وميدانيا استعدادا للمواجهة المقبلة مع العرب أو مع الشعب الفلسطينى. واستمرت الحركة الصهيونية فى ترجمة الطرف الأول من هذه المعادلة إلى واقع ووقائع ملموسة؛ حيث أدركت الحركة الصهيونية مبكرا أهمية العلم والبحث العلمى والتكنولوجى فى نشأة الدولة الإسرائيلية، وتعزيز تفوقها فى المحيط العربى، وقد أفضى ذلك إلى أن تعهد الحركة الصهيونية إلى «حاييم وايزمان» وهو أول رئيس لإسرائيل بهذه المهمة، وكان وايزمان أحد علماء الكيمياء اليهود، الذى يحمل الجنسية الألمانية، وكان ينتمى إلى المدرسة العلمية الألمانية وتقاليدها العريقة واضطر إلى الهجرة إلى المملكة المتحدة البريطانية. تولى وايزمان إنشاء البنية العلمية قبل نشأة الدولة، ولعب دورا مهما وأساسيا فى صياغة النظام العلمى والأكاديمى الإسرائيلى، ووضع الاستراتيجية العلمية التى تسترشد بنموذج العلم الألمانى، فأنشاء معهد «التخنيون» للعلوم التطبيقية ومجالات الهندسة والعلوم عام 1924، وبعدها الجامعة العبرية فى القدس عام 1925 وتوالى بعد ذلك إنشاء الجامعات الإسرائيلية فى بار إيلان وتل أبيب وحيفا، وكذلك العديد من محطات الأبحاث والمختبرات والمعاهد البحثية المختلفة. إثر احتدام الصراع على أرض فلسطين بين الحركة الصهيونية والشعب الفلسطينى أصبحت الجمعية العامة للأمم المتحدة طرفا فى الصراع، وعينت لجنة لبحث قضية فلسطين وعرض مقترحاتها على الجمعية العامة، وهى اللجنة التى تشكلت آنذاك من أحد عشر عضوا ينتمون للدول الأعضاء فى الأممالمتحدة، وانقسمت هذه اللجنة إلى فريقين الأول والأكثر عددا اقترح تقسيم فلسطين، أما الثانى والأقل عددا، فاقترح قيام دولة اتحادية ورفض التقسيم على أساس مخالفته لروح وميثاق الأممالمتحدة ورسالة الانتداب والوصاية وتناقض التقسيم مع مبادئ العدل وتقرير المصير. المهم فى هذا السياق هو الطريقة التى تعاملت بها الحركة الصهيونية آنذاك، مع أعضاء هذه اللجنة التى قدمت توصية بقرار التقسيم فى 29 نوفمبر 1947، والتى عرفت بعد اعتمادها من الجمعية العامة للأمم المتحدة بالقرار 181 لعام 1947، قامت الحركة الصهيونية أثناء قيام هذه اللجنة بالعمل الموكول لها، بتعيين مرافق لكل عضو من أعضائها، يتكلم لغة العضو ويحمل ذات الجنسية والثقافة التى ينتمى إليها كل عضو، يرافقه ليل نهار كظله، وذلك بالطبع بالإضافة إلى الهدايا التى تمثلت آنذاك فى معاطف من الفرو الطبيعى والألماس، وهى الهدية التى رفضها مندوب كوبا فى الجمعية العامة للأمم المتحدة قبل التصويت على هذه التوصية بالتقسيم. التطبيق فى المواجهة العربية – الإسرائيلية: فى المواجهات العربية – الإسرائيلية التى أعقبت نشأة الدولة الإسرائيلية، فى 1948 أو 1956 أو 1967، حكمت هذه المعادلة مسار هذه المواجهات ونتائجها وتداعياتها، وطبقت إسرائيل هذه المعادلة على نحو يتلاءم ومستوى التطور العلمى والتسليحى والتنظيمى فى كل من هذه المواجهات على حدة، ففى جميع هذه المواجهات كانت القوات الإسرائيلية تفوق عددا وعدة وعتادا الجيوش العربية التى واجهتها، إن من حيث الكم أو من حيث الكيف، مستفيدة فى ذلك من الدعم الغربى والأمريكى خاصة فى مجال التسليح والتكنولوجيا المتقدمة والدعم الدبلوماسى والسياسى فى المحافل الدولية. وبرزت فى جميع هذه الحروب والمواجهات الفجوة العلمية والتنظيمية وفجوة الإرادة بين الجانب العربى والإسرائيلى ففى مقابل التخلف العلمى والتقنى العربى الناجم عن سيادة عقلية ما قبل الحداثة التقليدية، بدت إسرائيل مستوعبة لمنجزات الحداثة وتقنيتها العلمية والعقلية والثقافية، لأنها تشربت ومنذ بداية المشروع الصهيونى بنتاج وإنتاج الحضارة الحديثة، واستخدمت التخطيط والإرادة الموحدة لتحقيق الهدف، وتأكيده فى مقابل إرادات عربية متفرقة وعقليات عربية، لم تستوعب منجزات الحداثة العقلية واعتمدت التهوين من شأن الخصم بالخطابة الإنشائية والبلاغية ونحت العلم والتخطيط جانبا. الاستيعاب العربى للمعادلة ومحاولة تغييرها: ورغم اكتشاف النخبة العربية القومية واليسارية المبكر لطبيعة هذه المعادلة إن بعد النكبة فى عام 1948 (انظر قسطنطين زريق، معنى النكبة، 1948) وإن بعد النكسة فى عام 1967 (انظر ياسين الحافظ، الهزيمة والأيديولوجيا المهزومة 1979) وغيرهم كثيرون؛ إلا أن الصحوة العربية فى مواجهة إسرائيل لم تتبلور إلا بعد وقوع النكسة بسنوات، إذ أنه فى حين أن احتلال إسرائيل بقية فلسطين والجولان وسيناء، اعتبر من وجهة نظر بعض المعلقين الإسرائيليين بداية ما سموه جمهورية إسرائيل الثانية، فإنه أيضا أى الاحتلال أعلن ميلاد جمهورية فلسطين الأولى، حيث كانت قد تشكلت حركة المقاومة الفلسطينية وبدأت أولى عملياتها فى 1965 وتوجت بمعركة الكرامة فى عام 1968، وتشكلت منظمة التحرير الفلسطينية وهى الوعاء الذى احتضن الكيانية الفلسطينية والهوية الفلسطينية، وتشكلت عقب ذلك الاتحادات والنقابات المهنية والطلابية وتدعم الانتماء للحركة الوطنية الفلسطينية، ومنظمة التحرير، من قبل عمد الضفة الغربية والناشطين من السياسيين المناهضين لقوات الاحتلال، وتمكن هؤلاء بدعم من المنظمة من إفشال كافة المشاريع الإسرائيلية لاحتواء أهالى الضفة الغربية، مثل روابط القرى أو دعاوى الاحتلال الليبرالى، وتدعمت من ثم لحمة النضال الوطنى الفلسطينى بأشكاله العسكرية والسياسية. من ناحية أخرى أفضت النكسة فى مصر إلى إعادة هيكلة القوات المسلحة المصرية، وتشكيل هيئة أركان جديدة وتنحية القيادات العسكرية المسئولة عن النكسة، بل ومحاكمة بعضهم، واستعادت القوات المسلحة المصرية روحها القتالية والتنظيمية، ودخلت فى مجموعة من العمليات القتالية فى رأس العش وإغراق المدمرة إيلات واستعدت لخوض حرب استنزاف استمرت طيلة عامين وأكثر، وهى الحرب التى كبدت إسرائيل خسائر كبيرة فى الأرواح والمعدات، وهى الحرب التى اعتمدت على تشكيلات مقاتلة صغيرة تكلف بعمليات خلف خطوط العدو على الضفة الشرقية للقناة وتعود لقواعدها ولم تتوقف هذه الحرب إلا بقبول مبادرة روجرز آنذاك. كانت حرب الاستنزاف بمثابة مدرسة عسكرية قائمة بذاتها، تتم فيها المزاوجة بين التدريب والممارسة القتالية العملية، بهدف تقويض صورة العدو، والتعرف على نقاط ضعفه ومكامن قوته، وتطوير القدرة على اختراقها، وإفقاده الثقة فى قوته، وصورته واستعادة ثقة المقاتل المصرى فى قدرته على التعامل مع العدو ومواجهته عن قرب، ولاشك أن حصاد هذه المواجهات التى استمرت زهاء العامين، قد أفضى إلى خوض حرب أكتوبر والاستعداد العلمى والسياسى والعسكرى لها على مدار هذه الأعوام، من خلال التدريب والمناورة والخداع الاستراتيجى وتلاحم الجيش والشعب وإعداد الدولة للحرب والتمهيد الدبلوماسى والسياسى لخوض هذه المعركة واستعادت القوات المسلحة المصرية زمام المبادأة بعد استكمال جميع أشكال التنسيق والخداع الاستراتيجى وجميع التجهيزات الضرورية لتحقيق الأهداف المحددة. كانت حرب أكتوبر عام 1973 نقطة تحول فى المواجهة العربية – الإسرائيلية، على الصعيد الاستراتيجى والسياسى، حيث تمكنت الجيوش العربية (الجيشان المصرى والسورى) والدعم الرمزى من بعض الدول العربية الأخرى، من كسر نظرية «الأمن الإسرائيلي»، ونظرية «الجيش الذى لا يقهر»، وفضلا عن ذلك فقد كشفت حرب أكتوبر ليس فقط عن استيعاب مصر والعرب لطبيعة المعادلة التى فرضتها إسرائيل طيلة العقود التى أعقبت إنشائها، بل وكسر هذه المعادلة عمليا من خلال تملك أسباب القوة العسكرية والتنظيمية والعلمية والتخطيط الاستراتيجى وإتقان فن الحروب الحديثة، وتحقيق التكامل بين السيطرة والتحكم والمواجهة فى مسرح العمليات، لقد أدرك العرب فى هذه الحرب أن الحق حتى لو كان جليا ناصعا بحاجة إلى استحقاق؛ أى تملك الأدوات والوسائل والتجهيزات التى تكفل عودة الحقوق لأصحابها وهذه الرسالة هى الدرس الحقيقى الذى أسفرت عنه الحرب وأصبحت مرجعية للنضال الوطنى الفلسطينى العربى الشعبى فى مواجهة إسرائيل. ذلك أنه من الملاحظ أن العسكرية الإسرائيلية منذ حرب أكتوبر دخلت رغم تفوقها الساحق، فى منحنى هابط ولم تحرز على أى نحو انتصار كالذى حققته فى عام 1967، ففى حرب لبنان عام 1982 ورغم الاستعراض العسكرى الإسرائيلى وخروج المقاومة الفلسطينية من لبنان؛ إلا أن إسرائيل تكبدت خسائر فادحة من جراء المقاومة الوطنية الفلسطينيةواللبنانية وأضطرت تحت الضغط الدولى والداخلى للتراجع والانسحاب، واحتفاظها بالشريط الحدودى فى جنوبلبنان كلفها خسائر متلاحقة من خلال المقاومة الإسلامية لحزب الله والمقاومة الوطنية اللبنانية، واستمرت هذه المقاومة طيلة الثمانية عشر عاما، واضطرت إسرائيل إلى تطبيق القرار رقم 425 الصادر عن الأممالمتحدة والانسحاب دون قيد أو شرط عام 2000. بيئة استراتيجية مختلفة: واجهت إسرائيل خلال العقود الأخيرة بيئة استراتيجية مختلفة، حيث توارت المواجهات النظامية، أى من قبل الجيوش العربية، وأصبحت تواجه أنماطا جديدة من المقاومات الشعبية المسلحة والمقاومات ذات الطابع السياسى والمدنى الممتدة، الأولى تمثلت فى حروب إسرائيل ضد حزب الله عام 2006 وحروب إسرائيل ضد حماس وغزة فى أعوام 2008-2009 و2012، و2014، وبالرغم من الدمار الهائل الذى الحقته إسرائيل بالبنية التحتية اللبنانية والمدنيين، وكذلك بالبنية التحتية والمدنيين الفلسطينيين فى غزة، إلا أنها لم تحقق أهدافها السياسية من هذه الحروب، ولم تستطع أن تكسر إرادة المقاومة والتحدى لدى الشعب الفلسطينى، كما أن عمقها فى عديد من المناطق يتعرض للفزع واللجوء إلى المخابئ، من جراء تساقط الصواريخ، ولم تفلح شبكة القبة الحديدية التى حظيت بالدعاية الكبيرة فى وقف تساقط هذه الصواريخ. أما على صعيد المقاومة السياسية والمدنية، فقد واجهت إسرائيل فى عام 1987 انتفاضة الحجارة التى استمرت زهاء ثلاثة أعوام، واكتشفت إسرائيل أن الحل العسكرى له حدود، وغير قادر على إنهاء هذه المقاومة، واضطرت تحت ضغوط بقبول الدخول فى بحث الحلول السلمية فى مدريد وأوسلو، ولأنها لم تكن لديها نية حقيقية فى السلام أو توجه استراتيجى نحو التسوية، فإنها حاولت تقويض وتجميد الاتفاقات المبرمة بينها وبين ممثلى الشعب الفلسطينى، وعمدت إلى تسريع وتيرة الاستيطان لفرض الأمر الواقع والتنصل تدريجيا من استحقاقات عملية السلام، واستمر ذلك حتى كامب دافيد الثانية والتى اعقبها بدء انتفاضة الأقصى التى زاوجت بين المقاومة المسلحة العسكرية والمقاومة المدنية والسياسية. ولاشك أن استمرار معادلة القوة فى مواجهة الحق الفلسطينى والعربى طيلة هذه العقود لم يعن على الإطلاق أن الشعب الفلسطينى والشعوب العربية لم تتحصل طيلة هذه الفترة على مظاهر للقوة وجوانب منها لكسر هذه المعادلة، حتى وإن كانت دون المستوى المطلوب لمواجهة تحدى القوة والتفوق الإسرائيلى، من بين هذه المظاهر صلابة الشعب الفلسطينى وصموده فى مواجهة الاحتلال والعنصرية، والتضامن الدولى بأشكالة المختلفة الرسمية والشعبية، واكتشاف أساليب وأدوات قتالية جديدة لمواجهة القوة الإسرائيلية، والإبقاء على القضية الفلسطينية على أجندة المجتمع الدولى، واهتزاز صورة إسرائيل الأخلاقية وزعزعة مكانة «الضحية» الذى شغلته إسرائيل منذ قيامها، وبداية العزلة الدولية والإجراءات المتخذة أوروبيا إزاء منتجات المستوطنات الإسرائيلية. الخروج من الحلقة المفرغة: وتبقى فى المحصلة النهائية أن معادلة القوة الصهيونية والإسرائيلية فى مواجهة الحق الفلسطينى والعربى، ليست معطى سرمديا وأبديا أو تكوينيا؛ أى أن القوة لا تلازم الأداء الصهيونى والإسرائيلى كمعطى قدرى أو بيولوجى، اختصت به جماعة عرقية أو دينية، أو أن الحق وافتقاد القوة هو قدر الشعب الفلسطينى والشعوب العربية، ذلك أن القوة معطى مكتسب وقابل للاكتساب، إذا ما توافرت النية على ذلك؛ أى طرق أبواب الحصول على القوة بمختلف مظاهرها الناعمة وغير الناعمة واستيعاب العقل العربى لضرورات ومتطلبات استنباث وتبيئة القوة فى واقعنا وإعادة الاعتبار للعلم والتكنولوجيا والتنظيم، واستيعاب منجزات الحضارة الحديثة الثقافية والفكرية وعدم الوقوف عند الماضى بل التطلع للمستقبل واكتشاف أسباب نهضة الأمم. ولاشك أن إدراك هذه الجوانب يتطلب بعض الشروط فى الواقع والوعى على حد سواء، أولها هو استيعاب طبيعة الخطر الإسرائيلى والصهيونى العنصرى فى أرض فلسطين، وتطلع إسرائيل إلى الهيمنة على مقدرات المنطقة ومخاطر تملكها للسلاح النووى فى الشرق الأوسط، وثانى هذه الشروط إدراك طبيعة الصراع مع إسرائيل فهو صراع حضارى ممتد شامل، وهو ما يعنى ضرورة التلاؤم مع متطلبات هذا الصراع أى إقامة نظم ديموقراطية ودعم الحريات العلمية والفكرية واستيعاب منجزات العصر وتملك القدرة على بناء نموذج حضارى تتوفر له المقومات العلمية والتكنولوجية والبناء الاقتصادى القادر على المنافسة وتحرير العقول من الأوهام والاعتراف بالقصور فى المعادلات التى حكمت تطورنا خلال هذه القرون واستبدالها بمعادلات جديدة مبتكرة وجريئة لحفز العقول على الابتكار والتفكير. فى هذا السياق فإن مقاومة الإرهاب وتجفيف منابعه المادية واللوجستية واستعادة قوام الدولة الوطنية الديمقراطية المدنية والتوزيع العادل للثروة الوطنية وترسيخ قيم المواطنة وحكم القانون وترسيخ البنى العلمية وإرساء قيم العقلانية والرشادة، هى أهداف وإن بدت بعيدة ظاهريا عن المواجهة العربية – الإسرائيلية إلا أنها فى واقع الأمر لا تنفصل بحال من الأحوال عن متطلبات هذه المواجهة، بل تمثل عمقها الحقيقى، ذلك أن القوة لاتنحصر فى المجال العسكرى فحسب بل ينبغى أن تشمل جميع العمليات الانتاجية والصناعية والعلمية والفكرية، فالمجتمعات القوية فى أسس ومقومات بنائها قادرة على كسب المعركة فى المواجهة. القوة إذا ما تجردت من الطابع الأخلاقى والإنسانى وارتكزت فحسب على العنصرية والاستعلاء والتنكر لحقوق الغير ستفقد فاعليتها وتأثيرها، وقد تخلق مضاعفات وآثارا لا تصب بالضرورة فى مصلحة صاحبها، كما أنها قد تخلق مقاومات وتحديات وتستثير استجابات نوعية تعاكس مفعولها، وهو ما تجسده حالة القوة الإسرائيلية الراهنة، فرغم مضى تسعة وستين عاما على إنشاء إسرائيل، فلاتزال حتى الآن تبحث عن الأمن وتفتقد لحدود واضحة كدولة وتعتبر نفسها فى حالة حرب دائمة واستعداد دائم للدفاع عن وجودها. فى الحالة العربية الفلسطينية اكتساب القوة يعزز الحق ولا ينفصل عن مضمون الرسالة الإنسانية والأخلاقية ولن تستخدم للعدوان أو لترسيخ العنصرية بل لتحقيق السلام والاستقرار.