حلت فى الخامس عشر من مايو الماضى الذكرى السابعة والستون للنكبة وإعلان قيام دولة إسرائيل، وهذه الذكرى ينبغى ألا تمر مر الكرام، ذلك أن الغزاة كما يقول الراحل محمود درويش يخافون من الذكريات كخوف الطغاة من الأغنيات، والاحتفاء بذكرى النكبة ينبغى ألا يكون احتفاليا أو بروتوكوليا أو اجترارا لمآسى الماضى والبكاء على الأطلال، بل ينبغى أن يكون مناسبة لمراجعة ونقد وتقييم تجربة النضال الفلسطينى واستكشاف مسالك جديدة لإعادة بناء هيكلة المشروع الوطنى الفلسطينى على أسس ومقومات غير تلك التى تسببت فى تعثر هذا المشروع فى تحقيق أهدافه حتى الآن. والمؤكد أن مراجعة ونقد تجربة النضال الفلسطينى لا تعنى البتة تجاهل مسئولية الوضع العربى العام والدول العربية المعنية مباشرة بالصراع، كما لا يعنى تجاهل مسئولية المجتمع الدولى وهيئاته والفاعلين فى النظام الدولى الراهن، ذلك أن القضية الفلسطينية ونشأتها ارتبطت منذ البداية بالوضع الفلسطينى والعربى والدولى فى آن واحد، وظلت منذ نشأتها وخلال تطورها رهينة هذه الأبعاد الفلسطينية والإقليمية والعربية والدولية، وربما أمكن اعتبار أن حل هذه القضية فى المستقبل يرتبط بتطور كيفى ونوعى فى هذه الأبعاد لتبنى مواقف ورؤى جديدة تتخلى عن الركون إلى المألوف والمعتاد والارتكاز إلى أنصاف الحقائق بل وتجاهل الوقائع والتاريخ والتحصن وراء مقولات إدارة الصراع وليس حله. وإذا ما أخذنا الوضع الفلسطينى والعربى كمجال للنقد والتقييم لأمكننا بداية القول أن النكبة لم تكن حدثا تاريخيا انتهى وانقضى، بل هى حدث تاريخى مستمر بأشكال وتجليات مختلفة وتداعيات متباينة، ترتبط جميعها بهذا الحدث المركزى فى الذاكرة الفلسطينية والعربية، والنكبة بهذا المعنى هى حادث مؤسس وتأسيسى لما بعدها، حيث ارتبط بها وترتب عليها كل مفردات الهزائم العربية؛ النكسة الاستيطان المفاوضات أوسلو والاعتراف بإسرائيل وإقامة السلطة الفلسطينية والقبول بمشروع الدولة الفلسطينية فى 22% من أراضى فلسطين التاريخية، فهذه المفردات جميعها انتظمت فى مسلسل واحد هو النكبة وكل منها يحمل طابعها وجزءا من نتائجها. تفسير ذلك أن المعادلة التى حكمت مسار النكبة بقيت فى واقع الأمر دون تغيير إذا ما استثنينا حرب أكتوبر عام 1973 وحرب الاستنزاف والصفحات المضيئة فى تاريخ المقاومة الفلسطينية واللبنانية - وتتمثل هذه المعادلة فى فجوات التنظيم والإدارة والفجوة العلمية والفجوة الديمقراطية التى تفصل بيننا وبين إسرائيل فهذه الأخيرة تحصلت على العلم والتنظيم والديمقراطية بينما افتقد الجانب العربى والفلسطينى هذه العناصر. وبمرور الزمن اتسعت هذه الفجوات واختل ميزان القوى لغير صالحنا على الأقل فى عناصره المتغيرة. حفلت تجربة النضال الفلسطينى طيلة هذه العقود بتنوع هائل فى الأدوات والأساليب، وتمكنت من تطوير وابتداع أشكال نضالية ذاتية خاصة فى سبعينيات القرن العشرين مثل إنشاء المؤسسات والنقابات والاتحادات المهنية وتطوير العمل المدنى والمنظمات وحصلت على اعتراف الجمعية العامة للأمم المتحدة بالصهيونية كعقيدة عنصرية عام 1974 وبمنظمة التحرير الفلسطينية. وكذلك حفلت الانتفاضة الأولى بتنوع هائل فى أساليب المواجهة الشعبية مع المحتل وحصلت مطالب الانتفاضة الشعبية على تعاطف دولى بل وحتى إسرائيلى، حيث ابتدعت الانتفاضة أشكالا وطرقا نضالية جديدة تنهض بالإمكانات الذاتية للشعب الفلسطينى فى مواجهة المحتل ومقاطعة منتجاته وتعميق شبكات التضامن الاجتماعى بين المواطنين الفلسطينيين، وأجبرت قوات الاحتلال والمؤسسة السياسية والعسكرية الإسرائيلية على القبول بعجزها عن السيطرة وضرورة الحل السياسى وعدم كفاية القوة العسكرية للتعامل مع هذا الوضع، لم تكن الانتفاضة سلمية بالضرورة، حيث إن أى مواجهة مع العنف تولد عنفا بالضرورة ولكنها كانت شعبية لم يسيطر عليها الهاجس العسكرى كما كان حال الانتفاضة الثانية التى وجهت ضربات نوعية لجيش الاحتلال والمواقع العسكرية والمستوطنين ولكن انتهى الأمر بعسكرتها بالكامل فى ظل اختلال واضح لميزان القوى. تمثل حقبتا السبعينيات والثمانينيات أكثر صفحات النضال الفلسطينى إشراقا وتوهجا، لأنهما أكثر أصالة فى التوجهات وأكثر استقلالية عن أفكار ومفاهيم المستعمر وأكثر تعييرا عن المواجهة الشعبية للاحتلال بأجلى صورهما، ولأنهما باختصار انخرطا فى سيرورة استبدال الحالة الاستعمارية بحالة التحرر وهو الهدف الأسمى للمقاومة ومعيار تبنيها لاستراتيجية مستقلة وناجحة. ولا شك أن النضال الفلسطينى أحوج ما يكون فى هذه المرحلة إلى إعادة الحياة لهذا الميراث النضالى الفلسطينى ووضعه فى إطار استراتيجية جديدة تتوجه صوب الاستقلال والتحرر، وعلى ضوء ذلك يمكن لهذه الاستراتيجية الجديدة أن تبدأ بإعادة هيكلة المشروع الوطنى الفلسطينى كحركة تحرر وطنى وتبنى خطاب تحريرى بعيدا عن خطاب الدولة، ذلك أن خطاب الدولة ارتبط بالمساعدات الخارجية التى تهدف إلى تحييد المقاومة ودفع ثمن الاحتلال الذى تقوم به إسرائيل فضلا عن أنه حال دون تبنى استراتيجية الاعتماد على الذات واستنهاض الإمكانات الذاتية للشعب الفلسطينى فى الإنتاج وفلاحة الأرض وتأسيس مشروعات صغيرة ومتوسطة ذات صلة وطيدة بتنمية الاقتصاد الفلسطينى وإشباع حاجات السكان، من المفارقات ذات الدلالة أن ما حصلت عليه الزراعة الفلسطينية من دعم خلال بعض السنوات من المساعدات قدر ب 18 مليون دولار بينما حصلت حقوق الإنسان على دعم يقدر ب 70 مليون دولار. لمزيد من مقالات د. عبد العليم محمد