بعد ارتفاعها الأخير.. أسعار الدواجن والبيض اليوم الخميس 25 إبريل 2024 بالبورصة والأسواق    إيرادات آي بي إم تخالف توقعات المحللين وتسجل 14.5 مليار دولار في الربع الأول    واشنطن تعلن التصدي لصاروخ حوثي يستهدف على الأرجح سفينة ترفع العلم الأمريكي    أمريكا تضغط على إسرائيل على خلفية مزاعم بشأن قبور جماعية في مستشفيين بقطاع غزة    إيران وروسيا توقعان مذكرة تفاهم أمنية    بعثة الزمالك تسافر إلى غانا اليوم على متن طائرة خاصة استعدادًا لمباراة دريمز    بعد الصعود للمحترفين.. شمس المنصورة تشرق من جديد    فرج عامر يكشف كواليس «قرصة ودن» لاعبي سموحة قبل مباراة البلدية    عاجل.. أسطورة ليفربول ينتقد صلاح ويفجر مفاجأة حول مستقبله    «أتربة عالقة ورياح».. الأرصاد تحذر من حالة الطقس اليوم وتكشف أماكن سقوط الأمطار    اخماد حريق هائل داخل مخزن أجهزة كهربائية بالمنيا دون إصابات بشرية (صور)    السيناريست مدحت العدل يشيد بمسلسل "الحشاشين"    صندوق التنمية الحضرية يعلن بيع 27 محلا تجاريا في مزاد علني    أحمد موسى: مطار العريش أصبح قبلة للعالم وجاهز لاستقبال جميع الوفود    تحظى ب«احترام غير مبرر».. اتهام مباشر لواشنطن بالتغاضي عن انتهاكات إسرائيل    تخصيص 100 فدان في جنوب سيناء لإنشاء فرع جديد لجامعة السويس.. تفاصيل    عيار 21 الآن بعد الانخفاض الأخير.. أسعار الذهب اليوم الخميس 25 إبريل 2024 بالصاغة    الليلة.. أدهم سليمان يُحيي حفل جديد بساقية الصاوي    هل يجوز قضاء صلاة الفجر مع الظهر؟.. «الإفتاء» تحسم الجدل    حصول 5 وحدات طب أسرة جديدة على اعتماد «GAHAR» (تفاصيل)    رئيس قسم الطب النفسي بجامعة الأزهر: تخصصنا يحافظ على الشخص في وضعه الطبيعي    رئيس «الطب النفسي» بجامعة الإسكندرية: المريض يضع شروطا قبل بدء العلاج    بعد نوى البلح.. توجهات أمريكية لإنتاج القهوة من بذور الجوافة    "منافسات أوروبية".. جدول مباريات اليوم والقنوات الناقلة    كرة السلة، ترتيب مجموعة الأهلي في تصفيات ال bal 4    منسق مبادرة مقاطعة الأسماك في بورسعيد: الحملة امتدت لمحافظات أخرى بعد نجاحها..فيديو    الاحتلال يعتقل فلسطينيًا من بيت فوريك ويقتحم بيت دجن    تيك توك تتعهد بالطعن في قانون أمريكي يُهدد بحظرها    بعد اختناق أطفال بحمام السباحة.. التحفظ على 4 مسؤولين بنادي الترسانة    "مربوط بحبل في جنش المروحة".. عامل ينهي حياته في منطقة أوسيم    الهلال الأحمر: تم الحفاظ على الميزانية الخاصة للطائرات التى تقل المساعدات لغزة    الرئيس الموريتاني يُعلن ترشّحه لولاية ثانية    ريهام عبد الغفور عن والدها الراحل: وعدته أكون موجودة في تكريمه ونفذت    30 صورة وفيديو من حفل زفاف سلمى ابنة بدرية طلبة بحضور نجوم الفن    مش بيصرف عليه ورفض يعالجه.. محامي طليقة مطرب مهرجانات شهير يكشف مفاجأة    محافظ شمال سيناء: الانتهاء من صرف التعويضات لأهالي الشيخ زويد بنسبة 85%    كيف أعرف من يحسدني؟.. الحاسد له 3 علامات وعليه 5 عقوبات دنيوية    دعاء في جوف الليل: اللهم أخرجنا من الظلمات إلى النور واهدنا سواء السبيل    محافظ شمال سيناء: منظومة الطرق في الشيخ زويد تشهد طفرة حقيقية    توجيهات الرئيس.. محافظ شمال سيناء: أولوية الإقامة في رفح الجديدة لأهالي المدينة    التطبيق خلال ساعات.. طريقة تغيير الساعة على نظام التوقيت الصيفي (بعد إلغاء الشتوي)    اسكواش - ثلاثي مصري جديد إلى نصف نهائي الجونة الدولية    وزيرة التضامن: المدارس المجتمعية تمثل فرصة ثانية لاستكمال التعليم    فريد زهران: نسعى لوضع الكتاب المصري في مكانة أفضل بكثير |فيديو    حظك اليوم برج الميزان الخميس 25-4-2024 على الصعيدين المهني والعاطفي    إصابة أم وأطفالها الثلاثة في انفجار أسطوانة غاز ب الدقهلية    تأجيل بيع محطتي سيمنز .. البنوك الألمانية" أو أزمة الغاز الطبيعي وراء وقف الصفقة ؟    من أرض الفيروز.. رسالة وزير العمل بمناسبة ذكرى تحرير سيناء    الزكاة على أموال وثائق التأمين.. الإفتاء توضح أحكامها ومتى تجب    «زى النهارده».. عيد تحرير سيناء 25 إبريل 1982    غادة البدوي: تحرير سيناء يمثل نموذجًا حقيقيًا للشجاعة والتضحية والتفاني في سبيل الوطن    ميدو: لاعبو الزمالك تسببوا في أزمة لمجلس الإدارة.. والجماهير لن ترحمهم    رئيس تحرير «أكتوبر»: الإعلام أحد الأسلحة الهامة في الحروب    الصحة تفحص مليون و413 ألف طالب ضمن المبادرة الرئاسية للكشف المبكر عن فيروس سى    مدير تعليم القاهرة: مراعاة مواعيد الامتحانات طبقا للتوقيت الصيفي    صور.. الطرق الصوفية تحتفل برجبية السيد البدوي بطنطا    بالفيديو.. أمين الفتوى: موجات الحر من تنفيس نار جهنم على الدنيا    10 توصيات لأول مؤتمر عن الذكاء الاصطناعي وانتهاك الملكية الفكرية لوزارة العدل    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



في البحث عن معنى للنكبة / عزمي بشارة
نشر في محيط يوم 05 - 06 - 2008


في البحث عن معنى للنكبة
عزمي بشارة
خلافا للانطباع السائد، ليس هنالك جديد في احتفال اسرائيل المكثف بما يسمى استقلالها. وهي تفعل ذلك بحسب التقويم العبري. ويعتبر ما يسمى ب«يوم الاستقلال» أحد الاعياد المدنية الذي تدور حوله الديانة الوطنية الاسرائيلية الجديدة، المدنية الدينية. ويتميز هذا اليوم بشعائر واحتفالات تفوق احتفالات أي من دول العالم الأخرى بتأسيسها.
وهي تفوق بالتأكيد كثيرا احتفالات الشعوب العربية باستقلال دولها. وربما لهذه المقارنة أكثر من مغزى حول شرعية الكيانات في نظر الشعوب. فطابع الاحتفالات شعبي، وليس رسميا فحسب. والأهل يصطحبون أبناءهم للاحتفالات المحلية والمهرجانات وغيرها.
وتبث وسائل الاعلام برامج وأفلاما وأناشيد لا تنتهي، ما يساهم في خلق ذاكرة اسرائيلية جماعية حول ما يسمى ب«حرب التحرير» عام .1948 ويزورون في اليوم ذاته وحدات الجيش في المعسكرات، والمتاحف العسكرية، اضافة الى النزهات المنظمة في الطبيعة. هذه شعائر باتت تقاليد ممأسسة تتكرر كل عام.
ويبرز من بينها وقوف الشعب كله دقيقة مع اطلاق صفارة الانذار على روح الضحايا، قبل الاحتفالات بيوم.
أما من ناحية العرب، فلم يُحيِ العرب ذكرى النكبة، كما فعلوا في عامها الستين. وقد ساهم الاعلام الفضائي في تكثيف الانطباع. لكن اضافة الى ذلك، لا بد من ان نذكر ان الاحياء الشعبي الفلسطيني والعربي قد تضمن نوعا من الرد على التقاطر غير المسبوق من قبل زعماء غربيين وغير غربيين، وفي مقدمتهم رئيس الولايات المتحدة الأميركية، الى القدس للاحتفال بما يسمى «استقلال اسرائيل».
ولم يؤثر الخلاف الفلسطيني الفلسطيني الخطير في اصرار العرب والفلسطينيين في هذه المناسبة على حق العودة. فقد ارتبطت النكبة بحق العودة. وهو الحق الذي اعترف به العالم قبل ان تنشأ حتى منظمة التحرير الفلسطينية وفتح، فضلا عن حماس، والخلاف بينهما.
وربّ سائل يسأل عن معنى هذا التمسك بذكرى النكبة واحيائها في أسبوع لقي فيه الآلاف حتفهم في زلزال في الصين، وفيما يذكّرنا العراق بالنكبات غير الطبيعية من صنع البشر. نكبة العراق نكبة بلد عربي تفوق فلسطين في عدد الضحايا. وليس الشعب الفلسطيني «شعب الله المختار» كي تميز نكبته وتحظى باهتمام أكبر.
بالعكس تماما، فإنه من عوامل خصوصية الشعب الفلسطيني هو أولا، انه ليس شعب الله المختار، بل ضحية من يعتبر نفسه «شعب الله المختار»، وثانيا ان قضيته طالت بما يتجاوز كثيرا المسألة الاستعمارية برمتها، وثالثا انها آخر قضية استعمارية غير محلولة...
ولأنها تحظى باجماع الشعوب المستعمرة سابقا، وخاصة العربية منها، فقد تحولت الى قناة للتعبير عن معاناتهم بشكل عام. فحُمِّلت القضية الفلسطينية قدرا من الرمزية لا يحمله البشر العاديون دون ان يتقمصوا هذه الرمزية، فساهم فعلا في افساد جيل كامل من قيادة الشعب الفلسطيني.
ولا شك في ان حجم المعاناة الانسانية التي مرّ بها أبناء وبنات الشعب الفلسطيني باحتلال وسرقة وطنهم، وفي اللجوء، ثم الاحتلال المجدد، هي أبعاد هامة من أبعاد النكبة... خاصة انها مستمرة دون حل في الأفق. ولكن أهميتها السياسية التاريخية واسقاطاتها على الشعوب العربية كانت وما زالت أكبر من ذلك بكثير.
فاحتلال فلسطين وقيام اسرائيل هما عقدة في التاريخ العربي، وجرح مفتوح ملتهب لا يفتأ يزوّد الساحة العربية بكافة أنواع الذرائع للأيديولوجيات المتطرفة من جهة، وللاستسلام من جهة أخرى. لا يمكن فهم هذا الوعي الملتهب دون نكبة فلسطين ومكانها في الوعي العربي. وهي قبل كل شيء أهم تجسيد للتشظّي والتنافر وإعاقة الوحدة العربية في المشرق العربي وبين المشرق والمغرب.
ويذكّر الانشغال ب«معنى النكبة» وسؤال: «لماذا وقعت؟» بسؤال التنوير العربي، الذي لا جواب له: «لماذا تقدّم الغرب وتخلّف المسلمون؟». فالأسباب التاريخية الممكنة غير متناهية. وسؤال: «لماذا؟» التاريخي، لا اجابة عنه شافية. ومن الأفضل التركيز على أسئلة من مثل: ماذا علينا ان نفعل؟ وكيف نتقدم نحو الهدف المحدد؟ أما سؤال: «لماذا؟» فهو سؤال فلسفي وأخلاقي.
بحثنا عن الخيار القومي العربي ليس لذاته، بل كأداة في مواجهة كارثة النكبة، وبحثنا عن الخيار الديموقراطي ليس لذاته، بل لمواجهة تحدّي النكسة. وحتى الخيار الديني لم يسلم من اعتبار ذاته؛ الطريق الوحيد لمواجهة سلسلة النكبات والنكسات. لقد اعتبر الموضوع مسألة تحد وكرامة، ولذلك طرحت الخيارات السياسية والثقافية كأنها مجرد أدوات في مواجهة تحدي القضية الفلسطينية.
وتغيّرت تفسيرات «معنى النكبة» بموجب القوى التي طرحت نفسها كبديل، لكن التحدي بقي هو ذاته لا يتغير، ثابتا قدريا أزليا وهازئا من اختلاف الأدوات التي باتت تُهزم في إدارة مجتمعاتها ذاتها قبل ان تُجرَّب على هذا التحدي.
لم يخطر بالبال ان اسرائيل لم تطوّر خيارها القومي كأسلوب في مواجهة العرب، بل من أجل ذاتها، لأنه الطريق الوحيد لتنظيم الدولة الحديثة. لقد كان الخيار القومي هدفا بالنسبة الى الحركة الصهيونية. وغاب عن البال ان اسرائيل لم تعتمد قواعد اللعبة الديموقراطية وسيادة القانون داخليا، لأنها أفضل الأدوات في مواجهة العرب، بل من أجل ذاتها. فالديموقراطية، كخيار سياسي ثقافي، وكعلاقة بين الفرد والمجتمع والدولة، هي قرار وطريق تختاره النخبة السياسية الثقافية لنوع الانسان الذي تريده، والمجتمع الذي تبغيه، في دولتها هي، دولة اليهود، لا من أجل العرب ولا ضدهم.
علينا ان نسأل إذاً عن معنى الخيار القومي، وعن معنى الديموقراطية وسيادة القانون، وعن معنى كرامة الانسان والمواطن. علينا ان نسأل عن معنى القبلية والعائلية السياسية والفساد، وتناقضها جميعا مع الحداثة والتحديث، ومع الإدارة الحديثة للدول وبناء المؤسسات، ومبدأ الانسان المناسب في المكان المناسب، ومع عملية اتخاذ القرار بناء على اعتبارات في الموضوع، وليس خارج الموضوع علينا ان نسأل هذه الأسئلة، ليس كاشتقاقات من الصراع مع اسرائيل او كأسباب للنكبة، بل نسألها لذاتها ولذاتها حتى لو كانت هنالك علاقة تاريخية بين الموضوعين فيجب الفصل بينهما بنيويا كي تتغير العلاقة الأدائية مع هذه المواضيع.
يذكِّر سؤال المنكوبين عن معنى لنكبتهم بتساؤل أصدقاء المتوفى المذهولين، وقد تحلقوا في بيت العزاء، عن معنى وفاته، ولماذا هو بالذات، ولماذا لم يستمع للنصحية ويقلع عن التدخين، مثلا؟ الى ان تأتيهم ملاحظة أحد المتذاكين عادة في مثل هذه المناسبات، عن صديق له يدخّن ولم يمت حتى اليوم، مفتتحا لذلك سلسلة من التفسيرات لمعنى الموت لا تنتهي الا باعلانات مثل «تعددت الأسباب والموت واحد»، و«هذا قدر الله لا رادّ له». عندها يصبح التفسير ندباً.
لم تكن نكبة فلسطين موتا او قدرا محتوما بالطبع، لكن لا معنى لاشتقاق مهمات المجتمع العربي من معناها المزعوم، فنحن لا نعيش كي نواجه الموت، بل نعيش لأننا نفترض ان للحياة معنى، وإذا كان للموت من معنى فهو مشتق من فقدان معنى الحياة.
وكما ان مهمات المجتمع العربي الحديث غير مشتقة من النكبة، كذلك فإن فهم سبب النكبة لا يحتاج الى كل هذا التحليل عن فجوة الحداثة وفجوة المؤسسات بين الصهيونية والمجتمعات والشعوب العربية. ويُسأل السؤال: ألم يكن بامكان الدول والشعوب العربية بوضعها المجتمعي الذي كان ان تحارب أفضل عام 1948 وعام 1967 لو توفرت الإرادة؟ أليست هي الشعوب نفسها التي حاربت أفضل في الأعوام 1968 و1973 و2000 و2006؟
لقد حارب العرب أفضل دون ان يأخذوا اقتراحات المحللين العرب حول العوائق البنيوية بعين الاعتبار. لم تتوفر الإرادة السياسية عام ,1948 ولم تتح لهم فرصة القتال عام .1967 وعندما دخلت الأنظمة الحرب عام 1948 فإنما دخلتها ضد بعضها البعض، وليس ضد الدولة اليهودية.
النكبة كسر في التاريخ الفلسطيني الحديث. ولا يوجد تاريخ فلسطيني سياسي غير حديث. لقد اقتلع المجتمع الفلسطيني من الساحل الفلسطيني، وهدمت المدينة الفلسطينية، وهدم معها حلم الحداثة ما بين الحربين العالميتين، حلم النخب العربية والطبقات الوسطى ببناء الوطن العربي المستقل واللحاق بالحداثة. وفقد الفلاح الفلسطيني الذي كان يصارع طبيعة البلاد بمعوله من خلال الانسجام معها، فقد هذا الصراع مع الطبيعة.
وبعدما كانت أحلامه الصغيرة مغزولة بعبق المكان ورياحينه، وبتسكع الزمان المتثاقل كناعورة تديرها الطقوس الموسمية، باتت أحلامه سياسية ومرهونة بإرادة السياسيين وموازين القوى والقرارات الدولية. واصبحت طقوسه مؤتمرات موسمية تدعو الى العودة، وراديو «ترانزستور» يعده بالتحرير، واختزل عبق المكان الى حنين فلاحين ونوستالجيا.
والنكبة كسرت في التاريخ العربي الحديث، لأنه بات بعد النكبة تداعيات من ردود الفعل عليها، احتلت فيها جدلية العلاقة مع الخصم، مع العدو، مكان جدليته الداخلية. صعق العرب بما حصل ولكن الانصعاق المشترك كان بداية العروبة الحديثة، عروبة الأنظمة، خلافا لعروبة الفكر والحركة في نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين، واعتبروا ما حصل معهم زلّة وهفوة من هفوات الزمان، وكذبة مزعومة على وزن دولة اسرائيل المزعومة.
انسحب الفلسطينيون من المكان الى الزمان العربي المأمول. هُجّروا وشُرّدوا من أربعمئة وثمانية عشر مكانا، كانت قبل الشتات منشغلة في توحيد أزمنتها الريفية المختلفة في زمان قومي واحد يعكس في مرآة الانتداب. هُجّروا وشُرّدوا الى مدن غريبة لم تستوعبهم، لأنها لم تستوعب ذاتها بعد، فشكّلوا أحزمة من الخيام تحوّلت الى أحزمة من أحياء الفقر المشتركة لهم وللمهاجرين من الريف.
ولأن الأماكن العربية الجديدة لم تتوحّد في زمان قومي واحد، سرعان ما عاد الوافد الفلسطيني المرحّب به، غريبا في المكان، مرفوضا، كما تُرفض المغتصبة في المجتمع المتخلّف، رغم الظلم الذي لحق بها، لأن الشعور الرجولي بالعار أقوى من الشعور بالشفقة. لكن الفلسطيني بقي ضيفا مرحبا به في الأيديولوجيا، وما لبث ان فهم ذلك، فاستوطنها حصنا منيعا، ولو كان الثمن المشاركة في تزييف وتقنيع الواقع المرّ.
الأيديولوجيا ملاذ أمين عند أنظمة عربية، إذا عادت نظاما آخر راحت تعادي مواطنيه، كأنهم رهائن، وكيف تعادي مواطني البلد العربي غير المرغوبين؟ بالأساليب البائسة المتوفرة في جعبتها، ب«البهدلة» على الحدود. الحالة الفلسطينية بعد النكبة هي حالة جيل كامل «تبهدل» على الحدود العربية.
انه جيل كان يستخدم كلمة «النكبة» عندما تنفق بقرة او يموت حصان، فيقولون: «فلان انتكب» لأن بقرته ماتت. هذا الجيل اضطر الى ان يستوعب فجأة نكبة جماعية حقيقية لم يحلم بها، نكبة فقدان الوطن او البلاد. كان ذلك بمفهوم القرية الضيق او مفهوم الوطن السياسي، نكبة الغربة والسير على الأقدام في البحث عن مأوى الى ان تنجلي العاصفة، كما وعدوه.
لا يمكن نسيان النكبة لأنها حوّلت التاريخ العربي وتاريخ العربي عن مساره. ونجد أنفسنا بعد ستين عاما من المأساة الفلسطينية المستمرة والتأسي العربي، نحذّر من اعتبار النكبة حالة من فقدان الذكورية العربية، تقمع ذاكرتها وتكنس الى اللاوعي، متحوّلة الى هستيريا جماعية، تارة مع الفلسطينيين، وطورا ضدهم، مرّة باعتبارهم سبب البلاء (1948)، ومرة باعتبارهم أعادوا للأمة كرامتها بالعمل الفدائي (بعد 1967).
ولذلك نجدنا نحذّر من قلب ذاكرة النكبة الى علاج نفسي جماعي يبحث في لاوعي الأمة. تفقد الذاكرة في مثل هذه الحالة دورها ووظيفتها في مواجهة ما حلّ بالعرب من تعثّر في مسيرة حداثتهم. لا يمكن نسيان النكبة لأنها حوّلت القومية من خيار متصالح مع ذاته يسعى الى توحيد أبناء ذات اللغة وذات التاريخ وذات الحلم الحديث بالسيادة في دولة عربية الى خيار أيديولوجي متشنّج، يزيد الأيديولوجيا تطرفا، كلما ازداد القصور في الواقع.
ليست ذكرى النكبة إحياء لفردوس مفقود موهوم كان قبل النكبة، هذه ذاكرة ميثولوجية تجعل من النكبة انتصارا فجائيا للشر في صراعه مع الخير، وكارثة طبيعية حلّت كلعنة على هذا الفردوس. كانت فلسطين، مثلما كانت كل بلاد الشام وبلاد العرب، تستيقظ على الحداثة وتتعرف على أولياتها بواسطة المستعمر ومؤسساته والتعليم الحديث وبعض التكنولوجيا الواردة.
وكانت فلسطين تشيد مدينتها الواعدة في حيفا ويافا وغيرهما. لكن سوادها الأعظم كان ريفيا بسيطا معدما يفتقر الى التواصل مع بعضه. بعد النكبة انسجمت القيادة المدينية الفلسطينية الصاعدة في الوطن العربي، مع عالمها الطبيعي، وذلك إما في المشروع القومي او في الأنظمة العربية القائمة.
وساهمت نخبها مساهمة حقيقية في بناء المدينة العربية من الكويت وحتى بيروت، مرورا بعمان. ولم يجر تقييم فعلي موضوعي لمساهمة الفلسطينيين الاقتصادية والاجتماعية والمهنية في بناء الحواضر العربية، خاصة في دول تعتمد فيها القوى المحافظة عنصرية محلية ضيّقة، ولا تحب الاعتراف بمساهمة «الوافدين» «اللاجئين» التي لا تقدّر بثمن. لم يكن اللاجئون الفلسطينيون عالة على أحد، بل كانوا مجتمعا نشيطا ومنتجا وعاملا، وقد ساهموا مساهمة نوعية في بناء دول عربية في بداية طريقها.
ما كان بوسع حالة ما قبل النكبة ان تبدأ بفهم النكبة، ناهيك بأسبابها الأوروبية والدولية. ومن الظلم تقويم رفض فلسطين او قبولها لقرار التقسيم في حينه. وعندما حلّت النكبة، أي عندما أعلن قادة «اليشوف» اليهودي استقلال اسرائيل، وباشروا باحتلال أجزاء فلسطين التي خصصت للدولة العربية، كانت القدرة الفلسطينية على المقاومة قد استنزفت تماما في انتفاضة 1936 .1939 ومع ذلك، فقد قاوم الفلسطينيون بما أوتوا من عدد وعدة.
لكن لا هم فهموا ولا الأنظمة العربية المحيطة فهمت او أرادت ان تفهم حجم وقوة المشروع الصهيوني الذي دفع الى المعركة بقوة أكبر من المقاتلين، لا من حيث العدة فحسب، بل من حيث العدد أيضا. وأقصد قوة أكبر من مختلف «الجيوش» العربية التي دخلت فلسطين عام .1948
لقد هزت الأنظمة لأنها لم تشارك فعلا، او شاركت محكومة بصراعاتها (ومؤامراتها). وهزم الفلسطينيون لأنهم أساؤوا التقدير والتوقيت. وانتصرت اسرائيل لأسباب نختارها من قائمة لانهائية من أسباب الظاهرة التاريخية:
1 قلنا السبب الأول هو أن العرب لم يحاربوا اسرائيل فعلا.
2 لأن المشروع الصهيوني ارتبط بالمشروع الاستعماري، وتم تبنيه من بين مهمات الانتداب البريطاني على فلسطين.
3 لأن موجات العداء للسامية اتخذت في أوروبا شكلا لا سابق له، هو شكل المحرقة النازية، والإبادة الجماعية.
4 لأن القيادة الصهيونية نجحت في بناء المؤسسات السياسية والاقتصادية والعسكرية في ظل الانتداب، ولأنها كانت قيادة براغماتية وعقلانية تحسن التوقيت، والتقدير للقوة الذاتية، ولقوة الخصم.
لقد بدأت الذاكرة العربية للنكبة بإنكار هذه الأسباب واستنكارها بدلا من مواجهتها، هكذا تراوح التفنيد الأول بين الادعاء ان بريطانيا لم تفهم مصلحتها الحقيقية، وبين الادعاء ان النكبة هي مجرد نتاج مؤامرة بريطانية صهيونية رجعية عربية.
وتخبّطت العلاقة مع السبب الثالث، أي العداء للسامية في أوروبا، بين إنكاره واعتباره افتراء صهيونيا، وبين التقليل من حجم وأهمية المحرقة النازية، ومقارنتها غير المبررة وغير المفهومة بالنكبة الفلسطينية. وذهب بعضنا في ساعة غضب الى الهذر بأن اليهود يستحقون ما يحل بهم أينما حلّوا.
لقد تخبط العرب في التعامل مع وصمة عار في جبين أوروبا والحضارة الغربية، لا ناقة لهم فيها ولا بعير. ولم يكن الاعتراف بالواقع في أوروبا ليضيرهم بشيء، فهذا الواقع لا يبرر أخلاقيا اقتلاع شعب آخر خارج أوروبا، وإنكاره لا يمنع من إضافته سببا الى أسباب النكبة، لأن الصهيونية أحسنت استخدامه واستخدام الارتباك العربي في التعامل معه.
ما أسعد أوروبا بإزاحة عبء الضمير والشعور بالذنب عن كاهلها وإلقائه على كاهل العرب. اسرائيل تتواطأ مع أوروبا، فتريحها من التعامل بجدية مع ماضيها وحاضرها، فإسرائيل تساعدها على الفصل بين المسألة اليهودية في حينه ومسألة العنصرية الأوروبية ضد «الأجانب» في حيننا، وأوروبا تتواطأ مع اسرائيل في القاء عبء العداء لليهود على العرب، وتشاركها الاحتفالات بالاستقلال كأنها احتفالات عالمية بتأسيس الأمم المتحدة.
والفلسطينيون الذين لا يرون هذا السياق، يمارسونه من دون ان يروه، إذ يحسبون الاهتمام الدولي بهم اهتماما بهم حقا. وهو في الواقع اهتمام بإسرائيل وبالمسألة اليهودية... تتحول القضية الفلسطينية الى صناعة عالمية من الندوات والمؤتمرات والأبحاث داخل الهوية اليهودية، وفي العلاقة اليهودية الغربية، ويلعب فيها الفلسطيني دور ال«كومبارس» المرافق من دون ان يدري.
لكن هذه الصناعة باتت تستوعب نخبا عربية وفلسطينية كبيرة نسبيا تعتاش على «القضية». الاهتمام الدولي بقضية فلسطين، ليس عنصر قوة، بل عنصر ضعف، لأنه يعكس اهتماما بالمسألة اليهودية. عنصر القوة هو الاهتمام العربي، إذا تحوّل الى فعل حقيقي على الساحتين الاقليمية والدولية، وإذا تحوّل الى إرادة فعلية لهزيمة اسرائيل.
وليس مصير رابع الأسباب بأفضل من سابقيه، إذ يتم إنكاره إنكارا تاما، كأن الصهيونية لم تكن إلا كذبة اخترعها الاستعمار لتكون رأس حربة امبريالية في المنطقة. وما الديموقراطية اليهودية والمؤسسات إلا كذبة دعائية حول واحة الديموقراطية في الشرق الأوسط. هنا ينتقل العربي الذي يريد ان «يفهم» النكبة فجأة الى اعتبار المؤسسة الصهيونية عجيبة سماوية حقيقية لا بد من الانسحاق أمامها وإلغاء الذات.
وإذا ما أحرج العربي الراغب بالفهم قليلا، أكد لك انه يريد السلام مع اسرائيل حتى دون تحقيق العدالة للفلسطينيين وللعرب، ليس بسبب اعجابه بإسرائيل، بل لأن ما يوحّد اسرائيل هو الحرب، ولأن السلام، حتى لو لم يكن عادلا، لن يمهل هذه الوحدة طويلا، إذ ان اسرائيل سوف تنهار تحت وطأة خلافاتها الداخلية وتناقضاتها.
لقد تحولت مقولة زوال اسرائيل الحتمي هكذا، إما بسبب السلام او إذا هزت مرة واحدة فقط، الى مخدّر حقيقي للجماهير، والى بديل من الإرادة، ومن استراتيجية النضال والقتال واستغلال التناقضات الاسرائيلية الداخلية.
لم تكن التعددية في إطار الوحدة الصهيونية دليل ضعف، بل دليل قوة. وتدلّ قدرة هذه التعددية على تنظيم ذاتها، على أساس قواعد لعبة ديموقراطية، على وجود ثوابت اجماع قومي. والطامة الكبرى ان أولئك الناس الذين وفدوا الى بلادنا لم يتحدّروا من قومية واحدة او من ثقافة ديموقراطية في دولهم، لكنهم نجحوا في تشكيل رابطة قومية تصلح أساسا لتثبيت قواعد لعبة ديموقراطية أهلية لليهود. في حين لا تزال شعوب الأمة العربية، بعد ستين عاما على النكبة، تخشى احترام قواعد لعبة ديموقراطية مخافة ان يؤدي ذلك الى الانحلال الى فرق وشيع وقبائل وعشائر.
لن تفلح ذاكرة النكبة في اقامة نظام مؤسسات وديموقراطية في الوطن العربي، ولا في تحقيق وحدة عربية، فالذاكرة التاريخية أيديولوجيا تصوغها المصالح المختلفة والأنظمة وكتب التدريس. وتعيد انتاجها على شكلها وصورتها.
لن تندرج هذه المهمات ضمن مواجهة النكبة او النكسة، وإنما ضمن مواجهة الدكتاتورية وانعدام سياسة القانون وشخصنة الحياة السياسية. ولن يتم حل هذه المسائل إلا إذا تحوّلت الى اهداف في حد ذاتها.
لكن ذاكرة النكبة ضرورية ضرورة الماء والهواء لهذه الأمة، إذ لا توجد هوية قومية دون ذاكرة قومية جماعية. والنكبة مثل سايكس بيكو، وحرب حزيران/يونيو، محطات في تشكيل الهوية العربية الجماعية مقابل نقيضها. وتبقى النكبة هي المحطة الأكثر أهمية في تشكيل الهوية الفلسطينية الحديثة بايجابياتها وسلبياتها.
ولذاكرة النكبة بعد سياسي قلما يتم تناوله والتحدث عنه في مرحلة «العملية السلمية» القائمة على ان القضية الفلسطينية قضية أراض محتلة عام ,1967 وذلك على رغم انه البعد الأهم للعملية السياسية ذاتها. فحتى بمنطق التسوية وخطابها الخشبي لا يمكن اعتبار الدولة الفلسطينية في الضفة الغربية وقطاع غزة، إذا كانت كاملة السيادة، لا يمكن اعتبارها حلا وسطا، إلا إذا اعترف بأن المأساة الفلسطينية لم تبدأ في العام ,1967 وإنما في العام .1948 وحتى الدولة الثنائية القومية هي حلّ وسط بهذا المنظور، إذ يسبقها الاعتراف بأن هذه البلاد كانت عربية قبل ان تتعرض لعملية سطو مسلح في وضح نهار القرن العشرين.
البدء بالتأريخ ل«القضية» باحتلال عام 1967 هو إنكار لوجود قضية فلسطين. والاعتراف بالنكبة، أي الاعتراف بالغبن التاريخي الذي لحق بالشعب الفلسطيني عام ,1948 هو شرط البحث عن تحقيق العدالة النسبية لهذا الشعب. والعدالة النسبية (نسبة الى ما حلّ بهذا الشعب عام 1948) هي مبدأ غير خاضع للتفاوض، وتصبح مهمة المفاوضات ان تترجمه الى نتائج عملية على الأرض.
وإذا غاب المبدأ المشترك الذي تقوم عليه المفاوضات تبقى هذه فريسة موازين القوى التي تفرض حلا اسرائيليا. هكذا ترى اسرائيل المفاوضات، وهكذا رأتها دائما، ومن لا يقبل حلا اسرائيليا لا تعتبره شريكا.
وذاكرة النكبة ضرورية لأن أهم افرازاتها، مسالة اللاجئين، التي لا تزال حيّة الى يومنا تنتظر حلا. وهناك من يحاول اسقاطها من جدول الأعمال الدولي والقومي والوطني، على رغم انها بدأت مسألة دولية حاز فيها الفلسطينيون قرارات دولية في صالحهم كلاجئين قبل ان يعترف المجتمع الدولي بهم شعبا صاحب حق في تقرير المصير.
واللاجئون الفلسطينيون ليسوا حالة نفسية تمارس في الفنادق الفاخرة، كما يبدو لبعض الشعراء والأدباء. اللاجئون الفلسطينيون حالة قائمة من فقدان الوطن والمواطنة، وفقدان الحقوق الأساسية، وفقدان الأمل. واللاجئون الفلسطينيون حالة حقيقية من التناسي والنسيان لدى بعض النخب الفلسطينية التي فقدت الأمل بالنصر، فعكفت على حلّ مشاكلها الخاصة عبر السياسة.
وفي بعض الأقطار العربية، يتم تعليل معاملة اللاجئين الفلسطينيين معاملة غير انسانية بذاكرة النكبة ذاتها، كي لا ينسوا انهم لاجئون. والحقيقة ان هذه المعاملة ليست تذكيرا بالنكبة، بل استمرار لها. انها النكبة ذاتها. لا يستجدي الفلسطينيون مواطنة او توطينا في هذا البلد العربي او ذاك، لكنهم ليسوا بحاجة الى الاضطهاد والتنكيل ليتذكّروا قراهم ومدنهم، إذ انهم لا يزالون يتوارثون الأسماء ومفاتيح البيوت المهجورة وحالة الانتظار والأمل واليأس.
نشر في صحيفة " المستقبل العربي " ونقل من صحيفة " السفير اللبنانية "
5/6/2008


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.