وضعت الحركة الصهيونية فى قمة أولوياتها، فى صراعها مع العرب وبالذات بعد وعد بلفور ثلاثة «اعمدة لإقامة» الوطن القومى لليهود «هى أولاً العقلانية وثانياً العلم والتكنولوجيا وثالثاً الديموقراطية، وهى الأسباب الرئيسية التى ذكرها المفكر القومى قسطنطين زريق فى كتابه «معنى النكبة» الذى صدر بعد قيام إسرائيل والذى أكد فيه أن أسباب النكبة تعود إلى غياب هذه العناصر والأعمدة لدى العرب وحضورها لدى الحركة الصهيونية وإسرائيل. قامت الحركة الصهيونية بتأسيس الجامعة العبرية ومعهد التحتيون ومؤسسات علمية أخرى قبل نشأة إسرائيل، ومع قيام إسرائيل أصبح «وايزمان» رئيساً لها، وهو أحد علماء الكيمياء المنتمين إلى المدرسة العلمية الألمانية، ويقال إنه عندما هاجر إلى بريطانيا التحق بإحدى المؤسسات العلمية البريطانية وقام بحل إحدى مشكلات الذخيرة فى الجيش البريطانى وكان ذلك أحد الدوافع التى حفزت بريطانيا على إصدار وعد بلفور عام 1917، وقد أشرف ويزمان على المنظومة العلمية الإسرائيلية ووضع لبناتها الأولي. فى حرب عام 1948 تبدى واضحاً طبيعة الفجوات بين الإدارة الصهيونية والإسرائيلية للحرب وبين الإدارة العربية، فكان ثمة فجوة تنظيمية حيث قامت الحركة الصهيونية بتأسيس علاقات متينة دولية، وقامت بتنظيم الجاليات اليهودية وعمليات الدعاية والإعلان واستعانت بالكوادر العلمية والمهنية، فى حين أن العرب لم ينتبهوا إلى خطورة المشروع الصهيونى إلا مع صدور وعد بلفور. دخلت إسرائيل الحرب بإرادة موحدة واحدة، بينما دخل العرب الحرب بإرادات متفرقة، تنظيمياً دخلت إسرائيل الحرب بعد أن عبأت ما يقرب من 11% من سكانها فى القوات الإسرائيلية، حيث كان عدد اليهود آنذاك فى فلسطينالمحتلة 600 ألف يهودى، فى حين أن العرب حشدوا ما يقرب من 21 ألف مقاتل أى ما يقرب من نسبة 0.5% من السكان حيث كان عدد السكان العرب 50 مليون نسمة، أى أن العرب عبأوا للمعركة أقل من ثلث القوات الإسرائيلية. تجسمت الفجوات التنظيمية والعلمية وفجوة الإرادة والسيطرة بين الجانب الصهيونى والجانب العربى فى مجرى الحرب وسير العمليات، ففى حين كان لإسرائيل وقواتها هيئة أركان تقوم بالتنسيق والتوجيه والسيطرة على مجرى العمليات الحربية والجنود المنخرطين فى الحرب، لم يكن للعرب وقواتهم مثل هذه الهيئة، أما من ناحية التسليح والخبرة القتالية فكان عدد المعدات والآلات العسكرية من طائرات ودبابات ومدافع وذخيرة يفوق بكثير تلك المعدات العربية الضعيفة والمتهالكة، وتوافرت للقوات الإسرائيلية خبرة قتالية اكتسبها ما يسمى «بالفيلق اليهودي» الذى حارب إلى جانب الحلفاء فى الحرب العالمية الأولى والذى قدر عدد أفراده ب 20 ألف مقاتل. باختصار وضعت الإدارة الصهيونية والإسرائيلية فى حرب عام 1948 قواعد إدارة الصراع مع العرب فى المستقبل والتى تتلخص فى مبدأ الكثرة العددية وقوة الحشد العسكري، فى مقابل أقلية عددية عربية، وفى مقابل التسلح المتخلف وانعدام الخبرات القتالية، توافرت لإسرائيل معدات حديثة ومتطورة بمعايير هذه الفترة وخبرات قتالية ثم اكتسابها فى خضم معارك الحرب العالمية الأولي، دخلت إسرائيل الحرب بهدف استراتيجى واحد وإرادة موحدة، فى حين لم يكن الهدف واضحاً بما فيه الكفاية لدى العرب ولم تكن الإرادات موحدة. تعيد نكبة فلسطين فى عام 1948 إلى الأذهان ما حدث للعرب فى الأندلس، حيث لم يتمكن ملوك الطوائف فى الأندلس من إدارة صراعهم مع الفرنجة، بل استعان بعضهم بهؤلاء الأخيرين لتصفية حساباته مع الآخرين، وانهارت الدولة العربية الإسلامية فى الأندلس بعد ما يقرب من ثمانية قرون على نشأتها. ولا شك أن القواعد والمبادئ التى وضعتها ونفذتها الحركة الصهيونية وإسرائيل فى حرب 1948 ظلت سارية فيما بعد فى المواجهات العربية الإسرائيلية المختلفة، باستثناء حرب عام 1973 وما سبقها من حرب الاستنزاف، حيث تمكن العرب ولأول مرة فى تاريخهم من استيعاب دروس المواجهة العربية الإسرائيلية والاستعانة بالتخطيط العلمى والنفسى والاستراتيجى للحرب وبلورة إجماع شعبى ورسمى حول الأهداف المنشودة، وتجاوز لفجوات العلم والتخطيط والتنظيم والإرادة؛ حيث حظيت الحرب بدعم عربى واسع ومشاركة شعبية وحملت عنصر المفاجأة الاستراتيجية وتمكنت من رد الاعتبار الوطنى والقومي. ولعله من الملاحظ أنه بعد حرب 1973 يمكن القول إن المؤسسة العسكرية الإسرائيلية قد انكسرت هيبتها ولم تعد قادرة على تحقيق الأهداف بذات الكفاءة السابقة لحرب 1973 وذلك كما شهدنا فى حرب لبنان عام 1982، وظهور نمط الحروب غير النظامية مع المقاومة الوطنية اللبنانية ومقاومة حزب الله والمقاومة الفلسطينية، حيث شهدت هذه الحقبة تغير البيئة الاستراتيجية المحيطة بإسرائيل، حيث تواجه نمطا للحروب غير النظامية من ناحية، ولم تعد إسرائيل بعيدة عن خطوط المواجهة، أى عجزت إسرائيل عن حصر المعارك فى أرض العدو من ناحية أخرى بل عرف سكان إسرائيل فى الشمال والجنوب الملاجئ والمخابئ وصفارات الإنذار وتعطل المطار، وما دون ذلك من تداعيات هذه الحروب غير النظامية. فى مرحلة المفاوضات لم يكن العرب أحسن حالاً من حالة الحرب فقد قدموا تنازلات مجانية وسابقة لأوانها كالاعتراف بإسرائيل، وقبول دولة فلسطينية فى الضفة الغربية وغزة، على ما يوازى 22% من مساحة فلسطين التاريخية، كما تجاهل العرب آثار حرب 1948، وهو ما يعنى بقاء إسرائيل على ما هى عليه مع ضمانات عربية بإنهاء الصراع والاعتراف. وفى حين قدم العرب والفلسطينيون تنازلات مبدئية لا يمكن التراجع عنها قدمت إسرائيل تنازلات تكتيكية يمكن التراجع عنها، فلم تقر مبدأ الانسحاب من الأراضى الفلسطينيةالمحتلة، بل قبلت إعادة انتشار هذه القوات، وكذلك تجاهلت المفاوضات المرجعيات القانونية الدولية باستثناء قرارى 242، 338، وكما دخل العرب الحرب بإرادات وأهداف متباينة دخلوا مرحلة المفاوضات كذلك منقسمين فى مواجهة استراتيجية إسرائيلية موحدة وواضحة وتحظى بإجماع وطني، كذلك استدرج المفاوض العربى والفلسطينى إلى التفاصيل والجزئيات والإغراق فيها على حساب المبادئ الموجهة للتفاوض والحل وقبول بعض المفاهيم المغلوطة والتنازل التدريجى بدعوى الواقعية وخلل موازين القوي. والحال أن العرب بحاجة إلى استراتيجية قومية موحدة تحدد الهدف والوسائل والتخطيط تخاطب العالم وقابلة للتجديد والتعديل وفق الظروف والمعطيات الدولية والإقليمية وتغلب القومى والمصالح القومية على القطري، هذه الاستراتيجية يشترط أن تكون قادرة على سد الفجوات التنظيمية والعلمية بيننا وبين إسرائيل كشرط لتجاوز الوضعية الراهنة وبعث الديناميكيات الكفيلة باستنهاض الذات وعدم الخضوع والاستسلام لمنطق الأمر الواقع. لمزيد من مقالات د. عبد العليم محمد