هذه الرؤية لن تستقيم إلا مع رؤية أخرى أشمل وهى رؤية مستقبلية لهذا القرن، وهى رؤية محكومة بأربعة مكونات: المكون الأول هو الكونية وأقصد بها إمكان تكوين رؤية علمية عن الكون استناداً إلى الثورة العلمية والتكنولوجية. فقد أصبح من الممكن أن يرى الانسان الكون من خلال الكون وذلك بفضل غزو الفضاء. وكان من قبل يرى الكون من خلال الأرض. والمكون الثانى لازم من المكون الأول وهو الكوكبية وأعنى بها أن الانسان أصبح فى إمكانه رؤية كوكب الأرض من خلال الكون فيبدو وكأنه وحدة بلا تقسيمات، والمكون الثالث لازم من المكون الثانى وهو الاعتماد المتبادل بين الأمم والشعوب الأمر الذى يمتنع معه القول بالاستقلال التام. والمكون الرابع هو الابداع وهو لازم من المكونات الثلاثة التى تنطوى على تناقضات ورفعها لن يتم إلا بالابداع للكشف عن حلول جديدة. وأنا أنتقى من هذه المكونات المكون الرابع وهو الابداع وأدخله فى التعليم. والسؤال اذن: كيف يكون التعليم بالابداع؟ أجيب بسؤال: ما الابداع؟ بحسب تعريفى الابداع هو قدرة العقل على تكوين علاقات جديدة من أجل تغيير الوضع القائم. وهذا التعريف ينطوى على عنصرين: الجدة والتغيير، وهما عنصران يمارسهما العقل، وهذا على الضد من الرأى الشائع بأن العقل لا يعنيه سوى البحث عن الحقيقة. إلا أن الحقيقة مع التغيير تصاب بأزمة وهى أنها لن تكون ثابتة. وإذا لم تكن كذلك فهى والكذب مترادفان، وهذا تناقض غير مشروع. أما المشروع فيقوم بين العقل والتغيير وتأسيساً على ذلك ينبغى إعادة النظر فى النسق التعليمى القائم لأنه لم يعد صالحاً للبقاء على ضوء المكونات الأربعة و تأسيس نسق تعليمى جديد يقوم على الابداع . وقد يقال عن الابداع إنه ظاهرة نادرة قد تقترب من الجنون على نحو ما يرى أيزنك. وفى عام 1989 التقيته بمعهد الأمراض العقلية بالكلية الملكية بلندن بترتيب من المجلس الثقافى البريطانى لإجراء حوار حول مشروعى عن " الابداع والتعليم العام". وفى بداية الحوار أعلن أيزنك رفضه للمشروع بدعوى أن تعريفى للانسان بأنه حيوان مبدع يحيل المجتمع إلى فوضي، هذا بالاضافة إلى قوله بأن الابداع على علاقة حميمة بالجنون. وكان ردى أنه عندما يشيع الابداع بين البشر فهذا الشيوع لايترتب عليه إحالة المجتمع إلى فوضى لأن الابداع نفسه محكوم بقانون وهو على النحو الآتي: ثمة وضعان: وضع قائم ووضع قادم. وعندما يتأزم الوضع القائم يلزم استدعاء وضع قادم، اى استدعاء رؤية مستقبلية. المستقبل اذن وليس الماضى هو المحايث فى الابداع. ومعنى ذلك أن التغيير يبدأ من المستقبل وليس من الماضي. ومن هنا كانت الأصولية الدينية ضد الابداع لأنها ملتزمة بماض فاقد فاعلية التغيير. أما القول بأن الابداع على علاقة حميمة بالجنون فهذا القول لا يستقيم مع تعريفى للابداع بسبب أن الابداع لا يقف عند حد تكوين علاقات جديدة بل يتجاوزه إلى حد التغيير. والمجنون بالرغم من قدرته على ابداع ما هو جديد فإن هذا الجديد موجود فى عالم افتراضى لا علاقة له بالواقع. ومن هنا ارتأيت أن ثمة فارقاً كيفياً بين الابداع السوى والابداع المرضى وهو أن المبدع السوى يفضى فعله بالضرورة إلى إحداث تغيير فى الوضع القائم، أما المبدع المريض فإن فعله عاجز عن إحداث أى تغيير فى الوضع القائم. والمفارقة هنا أن أيزنك أصدر كتاباً عنوانه " العبقرية.. التاريخ الطبيعى للابداع" (1995)، أى بعد اللقاء بست سنوات وجاء فى خاتمته أنه يحرض الأطفال على الابداع، وأنه يدعو إلى تأسيس التعليم على الابداع، كما أنه يدعو إلى إزالة عقبات ثلاث أمام الابداع، التعصب والبيروقراطية والسلطة. وتأسيساً على ذلك كله يمكن القول بأن النسق التعليمى القائم الآن لم يعد صالحاً للبقاء فى اطار " رباعية المستقبل". وبالتالى يصبح من حقنا القول بأن النسق البديل هو نسق التعليم بالابداع. ولكن ينبغى التنويه هنا بأن هذا النسق ينطوى على أربعة تناقضات: التناقض الأول قائم بين انفجار المعرفة وانفجار السكان فانفجار المعرفة نقلة كيفية بينما انفجار السكان نقلة كمية. وهنا يثار سؤالان: ماذا نعَلم على ضوء انفجار المعرفة؟ وكيف نعلَم على ضوء انفجار السكان؟ وهنا ثمة مفارقة وهى أننا نقول عن انفجار المعرفة إنه نقلة كيفية والسؤال عنه كمي، ونقول عن انفجار السكان إنه نقلة كمية والسؤال عنه كيفي. والتناقض الثانى قائم على تداخل العلوم فى هذا الزمان فى حين أن تدريس هذه العلوم ذاتها محصور فى التخصص الدقيق لكل منها. والتناقض الثالث يكمن فى القسمة الثنائية بين التربويين والأكاديميين. والنتيجة الحتمية من هذه القسمة أن التربويين ليسوا أكاديميين فهل معنى ذلك أن التربية ليست علماً من العلوم الأكاديمية وبالتالى يلزم أن تكون تابعة لهذه العلوم وملحقة بها الأمر الذى يترتب عليه إلغاء الأقسام التربوية والحاقها بأقسام العلوم الأكاديمية؟ يبقى التناقض الرابع وهو أنه على ضوء مبدأ اللاتعين أو مبدأ اللايقين فى الفيزياء النووية هل تظل العلاقة قائمة بين المعرفة والحقيقة أم بين المعرفة والتغيير؟ هذه هى التناقضات الأربعة ورفعها يمكن أن يكون ارهاصاً لتأسيس النسق التعليمى الجديد. بيد أن هذا التأسيس الجديد ليس بالأمر الميسور ذلك أن البنية التعليمية متداخلة مع البنية الاجتماعية وهذه متداخلة مع نسق قيم مملوء بمحرمات ثقافية. ونخلص من ذلك إلى أن التأسيس الجديد يستلزم تغيير الثقافة تغييراً جذرياً. إلا أن هذا التغيير الجذرى هو من شأن النخبة الثقافية. والسؤال إذن: هل لدى هذه النخبة وعى بضرورة هذا النوع من التغيير؟ لمزيد من مقالات د. مراد وهبة