عنوان هذا المقال ينطوي علي مفارقة, أي تناقض, إذ كيف أكتب عن رؤيتي لقرن هو في بداية مساره, ومع ذلك فانه في الامكان إزالة هذه المفارقة أو هذا التناقض إذا ارتأينا أن بداية المسار كامنة في المستقبل, أو بالأدق كامنة في رؤية مستقبلية تتحكم في مسار الحاضر. والسؤال اذن: ما رؤيتي ل القرن الحادي والعشرين؟ إنها رباعية والمقصود بها: الكونية والكوكبية والاعتماد المتبادل والابداع. تفصيل ذلك: الكونية تعني إمكان تكوين رؤية علمية عن الكون مستعينين في ذلك التكوين بمنجزات الثورة العلمية والتكنولوجية, إذ بفضلها تمكن الانسان من رؤية الكون من خلال الكون استنادا إلي غزو الفضاء, وكان الكون قبل ذلك يري من خلال الأرض. والكوكبية مشتقة من كوكب الأرض, وهي لازمة من لزوم الكونية, إذ هي تعني رؤية كوكب الأرض من خلال الكون فيبدو وحدة بلا تقسيمات. ويلزم من هذه الكوكبية الاعتماد المتبادل. بين الشعوب والثقافات والدول. بيد أن هذه الثلاثية المكونة من الكونية والكوكبية والاعتماد المتبادل ينطوي كل منها علي تناقض. التناقض في الكونية يكمن في أن الانسان وهو جزء من كل قادر علي رؤية الكل وهو الكون, أي أن الجزء يدرك الكل. والتناقض في الكوكبية يكمن في أنها مضادة للأصوليات الدينية التي تزعم أنها مالكة للحقيقة المطلقة. والتناقض في الاعتماد المتبادل يكمن في نفي المفهوم التقليدي للاستقلال التام ذلك أن الدول الآن متداخلة والشعوب كذلك. والسؤال بعد ذلك؟ كيف نرفع هذا التناقض الكامن في الثلاثية؟ ليس في الإمكان رفعه إلا بتوليد فكرة جديدة, فكرة مبدعة من أجل تغيير الوضع القائم, ومن هنا جاء تعريفي للإبداع بأنه قدرة العقل علي تكوين علاقات جديدة من أجل تغيير الواقع. وتعريفي هذا ينطوي علي عنصرين: الجدة والتغيير, وهما متضايفان, أي لا يمكن فهم أحدهما من غير الآخر, لأن الجدة دون تغيير الواقع تدخل المبدع في مجال الأمراض العقلية لإحساسه بأنه عاجز عن التغيير فيصاب بالإحباط الذي يفضي إلي سقوطه في الشيزوفرينيا التي تعني الانقسام في الشخصية. أما إذا تلازمت الجدة مع التغيير فان الابداع يكون صحيا ويضاف إلي الثلاثية, وعندئذ تكون لدينا رباعية. ومع بزوغ الابداع في الرباعية يلزم تعريف الانسان بأنه حيوان مبدع, وهو تعريف يدخل في تناقض مع التعريف الشائع للانسان بأنه حيوان اجتماعي, أي يدخل في تناقض مع المجتمع لأن المبدع ضد القيود, أما المجتمع فهو مع القيود التي أطلق عليها المحرمات الثقافية, ومن ثم يحدث توتر بين الانسان المبدع والانسان الاجتماعي. بيد أن هذا التوتر يمكن تخفيضه مع شيء من التسامح من قبل المجتمع. ويترتب علي هذه الرباعية تغيير رؤيتنا عن الزمان. فالرأي الشائع أن الأولوية في آنات الزمان الثلاثة- الماضي والحاضر والمستقبل- هي للماضي دون المستقبل, بمعني أن الانسان يتحرك ابتداء من الماضي وليس ابتداء من المستقبل.أما الرأي عندي فان الانسان يتحرك ابتداء من المستقبل.ولا أدل علي ذلك من أن المستقبل مشحون بإمكانات مطلوب تحقيقها في الواقع. ثم إن البشر يستهويهم معرفة الغيب. وفي اللغة اليونانية لفظ النبي هو الذي ينبئنا بالمستقبل. ولهذا فهو موضع اضطهاد لأن من شأن هذه الانباء تغيير الواقع. المستقبل اذن كامن في عملية تغيير الواقع.وبناء عليه فان الأولوية في الزمان ليست للأمس أو لليوم إنما للغد, أي للمستقبل, ومن شأن هذه الأولوية أن تدفعنا إلي قراءة المستقبل بديلا عن قراءة الماضي. ومن هنا كان الكهنة قديما يزعمون أنهم يأخذون علمهم من النجوم, بل كان يقال إن الفرد العادي يستطيع أن يتكهن بعواقب الأمور. وبسبب هذه الأولوية أيضا تحكم المنجمون في الملوك. وبناء عليه يمكن القول بأن الماضي هو مستقبل فات, أي أن الماضي مسلوب من سمته الأساسية وهي أنه كان مستقبلا, وأنه لم يعد كذلك. ثم إن الحاضر لا يصلح أن تكون له الأولوية لأنه وهم, إذ هو نهاية ماض وبداية مستقبل. وتأسيسا علي ذلك يمكن القول بأننا أحرار في اختيار رؤيتنا لمستقبلنا, ولكن بمجرد الاقتناع باختيار معين نكون مضطرين إلي تحمل نتائج ذلك الاختيار. وفي عبارة أخري يمكن القول بأننا نبدأ بالحرية وننتهي إلي الضرورة, ولا وسط. لمزيد من مقالات مراد وهبة