لسببين: الأول أن الحضارة الانسانية بدأت عندما أبدع الانسان التكنيك الزراعى لتحويل التربة من غير زراعية إلى زراعية فحدث «فائض طعام» لمجاوزة «أزمة طعام» كان قد واجهها الانسان فى عصر الصيد. ومن هنا جاء تعريفى للانسان بأنه «حيوان مبدع» بمعنى أن الانسان إذا توقف عن الابداع توقفت الحضارة عن التقدم. والسبب الثانى يكمن فيما بزغ من تناقضات مع نشأة ظاهرة الكوكبية فى هذا القرن والمتمثلة فى الانترنت، أى الكل المترابط، والبريد الالكترونى والتجارة الالكترونية الأمر الذى ترتب عليه موت المسافة مكانياُ وزمانياً، وبالتالى تم التداخل بين الدول والشعوب فبزغ الاعتماد المتبادل، ومع ذلك ظلت الهويات الثقافية والدينية منغلقة على ذاتها الأمر الذى أدى إلى صراع الثقافات والحضارات والأديان. وليس فى الامكان رفع هذه الصراعات أو بالأدق هذه التناقضات إلا بإبداع أفكار جديدة. ومن هنا أصبح الابداع فى صميم ظاهرة الكوكبية. والسؤال إذن: ما الابداع؟ إنه على حد تعريفى «قدرة العقل على تكوين علاقات جديدة من أجل تغيير الوضع القائم». وحيث إن تعريفى للابداع فى شقه الثانى ينص على تغيير الوضع القائم فبديل هذا الوضع هو الوضع القادم، وهو رؤية مستقبلية. المستقبل اذن محايث فى الابداع. وإذا كان المستقبل مرتبطاً بالغاية فالفعل اذن غائي. وإذا كانت الغاية مطروحة فى المستقبل فالفعل اذن مستقبلي. ولأنه مستقبلى فهو رمز على النفى من حيث إنه رافض لوضع قائم. ولكنه أيضا رمز على الايجاب لأنه محقق لوضع قادم أى لوضع ممكن. إلا أن هذا الممكن لن يتحقق إلا بإزالة ما أطلقتُ عليه «محرمات ثقافية» وهى كامنة فى الذاكرة. ومن هنا تحدث علاقة طردية بين الذاكرة وهذه المحرمات، بمعنى أنه كلما قويت الذاكرة تجمد المحرم الثقافي، ومن ثم تصبح الذاكرة هى ذاكرة السلف، أو بالأدق هى «العقل الجمعى». فإذا استند التعليم على الذاكرة فقد استند على التذكر، ومن ثم يصبح العلم محصورا فى التذكر، ومن ثم يكون لدينا ثقافتان: ثقافة الذاكرة وثقافة الابداع، والعلاقة بينهما علاقة تناقض حاد. وتاريخ العلم شاهد على هذا النوع من التناقض. فالابداع، فى مجال العلم، يلازمه اضطهاد المبدع. فهيباتيا قتلت دينياً وجاليليو حوكم دينياً وبرونو أُحرق دينياً. ومع ذلك انخرط هؤلاء فى مسار الحضارة وطُرد مضطهدوهم من هذا المسار. والوضع القائم لنسق التعليم الآن فى مصر وفى دول أخرى يقوم على ثلاثية التلقين والحفظ والتذكر. تلقين حقيقة من قبل المعلم، وحفظها من قبل المتعلم وتذكرها عند الامتحان. ومن البيَن أن هذه الثلاثية لا تستقيم مع مقتضيات الابداع، وبالتالى يلزم تكوين وضع قادم لنسق تعليمى مغاير. إلا أن هذا النسق المغاير يثير أربع إشكاليات هى على النحو الآتي: إشكالية بين انفجار المعرفة وانفجار السكان. فانفجار المعرفة نقلة كيفية بينما انفجار السكان نقلة كمية. وهنا يثار سؤالان: ماذا نعلَم فى ضوء انفجار المعرفة؟ وكيف نعلَم فى ضوء انفجار السكان؟ ومع ذلك فثمة مفارقة كامنة فى هذين السؤالين وهى أننا نقول عن انفجار المعرفة إنه نقلة كيفية، ولكن السؤال عنه كمي، ونقول عن انفجار السكان إنه نقلة كمية، ولكن السؤال عنه كيفي. إشكالية تداخل العلوم من جهة، ووجود أقسام فى كليات التربية لا تتجاوز تخصصها الدقيق من جهة أخري. إشكالية تقوم فى القسمة الثنائية بين التربويين والأكاديميين. والنتيجة الحتمية من هذه القسمة أن التربويين ليسوا أكاديميين. فهل معنى ذلك أن التربية ليست علماً من العلوم الأكاديمية؟ فى ضوء مبدأ اللاتعين أو بالأدق اللايقين المهيمن على علم الفيزياء النووية والممتد إلى مجالات العلوم الأخرى هل تظل العلاقة بين المعرفة والحقيقة عضوية أم يحدث تفكك فى هذه العلاقة بحيث تتوارى الحقيقة وتبقى المعرفة؟ هذه هى الاشكاليات الأربع. وأعتقد أن رفع التناقض الكامن فيها يمكن أن يكون ارهاصاً لتأسيس النسق التعليمى الجديد. بيد أن هذا التأسيس ليس بالأمر الميسور لأن البنية التعليمية متداخلة مع البنية الاجتماعية والبنية الاجتماعية متداخلة مع نسق القيم، ونسق القيم مملوء بمحرمات ثقافية. والسؤال اذن: كيف نعيد تركيب المجتمع؟ باشاعة إعمال العقل الذى غيبته الأصوليات الدينية. ومن شروط إعمال العقل كسر المحرمات الثقافية التى كانت سائدة فى مجالات ثلاثة: الدين والجنس والسياسة. وحيث إن هذه المحرمات كامنة فى التراث فيلزم نقد التراث. والمثقفون هم المكلفون باشاعة هذا النقد من أجل استعادة العقل المبدع الكامن فى الانسان من حيث هو حيوان مبدع. ومن هنا يلزم تدريب الكل على قبول الفكر المغاير من غير اتهام بالتكفير، أى قبول الخروج عن الاجماع وهو الأمر الذى كان يلح عليه ابن رشد فى شأن التأويل، أى فى شأن إعمال العقل فى النص الديني. وهو الشرط اللازم للانفتاح على الثقافات الأخرى ومن ثم يتوارى ملاك الحقيقة المطلقة آفة الحضارة الانسانية فى مسارها من الفكر الأسطورى إلى الفكر العقلاني. واللافت للانتباه أن مصطلح ز الحضارة الانسانية وارد فى السطر الأول من هذا المقال كما هو وارد فى السطر الأخير منه، ومغزى ذلك أن التعليم بالابداع مسألة حضارية وليس مجرد مسألة قومية. لمزيد من مقالات مراد وهبة