عنوان هذا المقال هو عنوان ندوة دولية عقدها اليونسكو بمكتبة الإسكندرية فى ديسمبر 2003 ودعانى إليها للمشاركة. وإثر قراءة الدعوة ورد إلى ذهنى ما حدث فى أوروبا فى القرن الخامس عشر عندما ارتأى الأوروبيون ضرورة العودة إلى الثقافة القديمة من يونانية ولاتينية وأطلقوا عليها لفظ «انسانيات» واعتبروا أن هذه الثقافة كفيلة بتكوين الإنسان بمعنى الكلمة فسميت هذه النزعة «الانسانية»، أى المذهب الإنساني، وكفيلة أيضاً بتحرير أوروبا من العصور الوسطى المظلمة. وأظن أن شيئاً من هذا القبيل يمكن أن يحدث فى القرن الحادى والعشرين بسبب إحياء تلك العصور ولكن فى ثوب جديد اسمه «الأصوليات الدينية» التى تلتزم بحرفية النص الدينى ومن ثم ترفض إعمال العقل، وتتحكم فى توزيع البشر بين الجنة والنار. ومن هنا يكون مولد الإنسانيات رد فعل ضد تلك الأصوليات. ومعنى ذلك أن هذه الإنسانيات ليست فى حاجة إلى البحث عن ماض معين على نحو ما حدث لإنسانيات القرن الخامس عشر، ولكنها إنسانيات فى مواجهة أصوليات معاصرة. ومن هنا أيضاً كان عنوان بحثى «نسق جديد فى مجتمع المعرفة»، ومغزاه أن الاطار المرجعى للنسق الجديد هو مجتمع المعرفة، وهو مصطلح من وضع عميد علماء الإدارة فى أمريكا المعاصرة ( بيتر دركر) ( 1909- 2005) فى كتابه المعنون » ما بعد المجتمع الرأسمالي« (1993)، ومضمونه أن كلا من الرأسمالية والتكنولوجيا قد تحكمت بسرعة فى كوكب الأرض، ومن ثم أفرزت حضارة عالمية، وكان من شأن ذلك إحداث تغيير جذرى فى معنى المعرفة، إذ أصبحت متجهة نحو الفعل، ومن ثم نحو العمل، وبعد ذلك أصبحت متجهة نحو ذاتها. وبسبب هذا التحول الجديد قيل عن المعرفة إنها من مكونات الانتاج. وعند هذه اللحظة كان مولد مجتمع المعرفة، ومن ثم مولد عمال المعرفة، إلا أنهم عمال متخصصون. وأنا هنا أختلف مع دركر. فالرأى عندى أن مجتمع المعرفة يخلو من ال «إيَة»، أى يخلو من الايديولوجيا لأنه مرتبط بظاهرة جديدة هى ظاهرة الكوكبية التى جعلت من العالم شبكة علاقات بسبب ما أفرزت من تجارة إلكترونية وبريد الكترونى وانترنت، ومن هنا تغيرت رؤيتنا إلى العالم وإلى أنفسنا. فالمسافة ماتت فى الزمان والمكان. والتنافس لم يعد محلياً، إذ لا يعرف الحواجز، ولم تعد الشركات هى فقط العابرة للقارات بل الإنسان نفسه أصبح كذلك فى رؤاه. وعندما تسقط الحواجز تبزغ الوحدة وتشيع. والسؤال اذن: ما طبيعة هذه الوحدة؟ هل هى وحدة الانسانية أم وحدة المعرفة؟ أم هما معاً؟ للجواب عن هذه الأسئلة يلزم الحفر فى معنى التجارة الالكترونية، وعندئذ نكتشف أن موت المسافة الكامن فى هذه التجارة يفضى إلى إزالة الحواجز الدوجماطيقية، وهى حواجز من صنع مُلاك الحقيقة المطلقة. ويترتب على ذلك تغيير الذهنية لمواكبة هذه الوحدة الجديدة التى تسمى وحدة المعرفة. وفى هذا الاطار كنت قد عقدتُ مؤتمراً دولياً فى القاهرة فى عام 1980 تحت عنوان «وحدة المعرفة». وهنا لابد من إثارة السؤال الآتي: ماذا تعنى وحدة المعرفة؟ وأجيب بسؤال: ما المعرفة؟ كان جواب الفيلسوف الإنجليزى فرانسيس بيكون فى القرن السابع عشر أن «المعرفة قوة»، أى قوة تغيير الواقع المكون من الانسان والطبيعة. وهكذا تعبر المعرفة عن هذه الوحدة بين الانسان والطبيعة. وفى هذا الاطار بدأت تأسيس علم جديد أطلقتُ عليه «العلم الثلاثي» وهو علم مؤلف من الفلسفة والفيزياء والسياسة حيث تُرد العلوم الطبيعية إلى الفيزياء والعلوم الاجتماعية والانسانية إلى السياسة والفلسفة توحد بين العلمين من أجل تكوين رؤية كونية علمية. ويترتب على ذلك القول بأن العلم لا يصف الواقع إنما يؤله لأن الانسان يدخل فى صياغة وحدة المعرفة، ومن ثم يتصف التأويل بأنه إنساني. وحيث إن الانسان مغير للواقع من حيث هو حيوان مبدع، فالتأويل اذن غايته تغيير الواقع بحيث يستجيب لإشباع حاجاتنا المتجددة. ويترتب على ذلك أن تكون الحاجات الإنسانية هى نقطة البداية فى تأسيس العلم. ولا أدل على ذلك من أن نشأة الحضارة الانسانية مردودة إلى أزمة الطعام التى واجهت الانسان فى عصر الصيد، وعندما ابتدع الانسان التكنيك الزراعى انتقل الانسان من عصر الصيد إلى عصر الزراعة، ومن ثم انتقل من أزمة طعام إلى فائض طعام. والسؤال بعد ذلك: ما هو نسق القيم المواكب لوحدة المعرفة؟ إن البحث عن القيم يفترض أن ثمة غاية مطلوب تحقيقها، أو بالأدق، مشروعاً يتحقق فى المستقبل. ومعنى ذلك أولاً أن المشروع على علاقة عضوية بالمستقبل. ومعنى ذلك ثانيا أن الصدارة فناءات الثلاثة تكون للمستقبل. ومعنى ذلك ثالثا أننا نتحرك من المستقبل وليس من الماضى، ومن حيث اننا كذلك فإننا نرفض الوضع القائم من أجل استدعاء وضع قادم لتغيير ما هو قائم. ومعنى ذلك رابعاً أن سبب التغيير مطروح فى المستقبل وليس فى الماضى، وأنه فى الطريق إلى أن يتحقق. وبهذا المعنى نقول إن الحرية مطروحة فى المستقبل وكامنة فى الابداع، ومن ثم يمكن القول إن ما يقف عائقاً ضد الحرية يقف عائقاً ضد الابداع. والسؤال عندئذ: ما الذى يقف عائقاً ضد الحرية والابداع؟ إنه » المحرم الثقافي«، إذ يتسم بأنه مطلق من حيث إنه غير قابل للنقد، وبالتالى غير قابل للتغيير، أى أنه ثابت. وليس من سبيل إلى استبعاد ذلك المحرم الثقافى إلا بالعلمانية لأن العلمانية بحسب تعريفى هى التفكير فى النسبى بما هو نسبى وليس بما هو مطلق. وبهذا المعنى تكون العلمانية ملازمة لمولد الإنسانيات فى القرن الحادى والعشرين. لمزيد من مقالات مراد وهبة