إذا كانت «رباعية الديمقراطية» لها زمان بدايته العلمانية فى القرن السادس عشر والليبرالية فى القرن التاسع عشر فالسؤال إذن: ماذا حدث فى القرن العشرين؟ قيل عن القرن العشرين إنه زمن الثورة العلمية والتكنولوجية، والسؤال إذن: ماذا تعنى هذه الثورة؟ تعنى تغييراً جذرياً فى رؤية العقل للكون. كانت هذه الرؤية فى العصور الوسطى المعتمة رؤية دينية، ولكنها تحولت فى اتجاه رؤية علمية فى القرن السادس عشر عند كل من كوبرنيكس وجاليليو ونيوتن، أعلن كوبرنيكس أن الشمس مركز الكون والأرض تدور حولها، وأشاع جاليليو هذا الإعلان مع تحديد قوانين سرعة سقوط الأجسام، ثم أوضح نيوتن أن القوى المؤثرة فى سقوط الأجسام هى نفس القوى المؤثرة فى حركة الأفلاك، وقد صيغت كل هذه الظواهر الكونية فى معادلات رياضية من صنع هذه العقول الثلاثة، انزعجت السلطة الدينية فى روما من هذه الصياغة العلمية للكون فصادرت كتاب كوبرنيكس وحاكمت جاليليو، وكان من الممكن اضطهاد الفيلسوف الفرنسى ديكارت الملقب بأبى الفلسفة الحديثة لأنه كان يؤلف كتاباً عنوانه «عن العالم» على غرار ما كتبه كل من هذين العالمين لولا أنه امتنع عن نشره، وقد صدرت أجزاء منه بعد موته بسبع وعشرين سنة. وفى القرن العشرين جاء عقل رابع هو عقل اينشتين، أدخل تعديلات جوهرية فى صياغات الرؤى الكونية للعقول الثلاثة فنشر فى عام 1905 أربعة بحوث وكانت الغاية منها البحث عن «المجال الموحد» للقوى المتحكمة فى الكون وعددها أربع: الجاذبية والكهرومغناطيسية والتفاعل النووى الضعيف والتفاعل النووى القوى. والسؤال إذن: ماذا يعنى المجال الموحد؟ يعنى أن المعرفة العلمية متجهة نحو الوحدة على الرغم من تعدد مجالاتها، ومن هنا ورد إلى ذهنى مصطلح «وحدة المعرفة» وهو مصطلح من وضع الفيلسوف الفرنسى ديدرو فى عام 1755، إلا أنه كان يقصد به معنى الأنسيكلوبيديا، أى «الموسوعة»، أى جملة معارف، أما وحدة المعرفة التى أنشد تأسيسها فقد أوجزتها فيما أطلقت عليه «ثلاثية العلم»، وهذه الثلاثية مكونة من الفيزياء والسياسة والفلسفة، العلوم الطبيعية ترد إلى الفيزياء، والعلوم الاجتماعية والإنسانية ترد إلى السياسة، والفلسفة توحد بين العلمين فى رؤية كونية علمية، وفى هذا الإطار عقدت مؤتمراً دولياً فى القاهرة فى ديسمبر 1980 تحت عنوان «وحدة المعرفة» دعوت إليه نفراً من الفلاسفة والعلماء كان من بينهم كبير فلاسفة بريطانيا السير ألفرد راير، قال فى كلمته الافتتاحية: «منذ خمسين عاماً كنا نناقش وحدة العلم فى حلقة فيينا، أما أنت فقد ذهبت إلى أبعد من ذلك، إذ تريد مناقشة وحدة العلم والفلسفة والدين»، وبعد ذلك المؤتمر تبنت جامعة تورنتو بكندا مشروعى عن «وحدة المعرفة»، ومع الوقت ارتأت هذه الجامعة أن مشروعى طموح للغاية فحورته إلى «تكامل المعرفة»، ومع ذلك شاع مصطلح وحدة المعرفة فى الغرب، إذ صدر كتاب مهم فى عام 1991 عن عالم الفيزياء النووية نيلز بوهر تحت عنوان «الفيزياء والفلسفة والسياسة» وهو مماثل لعنوان بحثى المشار إليه آنفا، وفى عام 1998 صدر كتاب من تأليف إدوارد ويلسون وهو من أعظم مفكرى القرن العشرين، وعنوان كتابه «وحدة المعرفة» وفى عام 2005 انعقد مؤتمر دولى فى بروكسل ببلجيكا تحت عنوان «هل ثمة وحدة للمعرفة؟». ومع بداية التسعينيات من القرن الماضى صك بيتر دركر عميد أساتذة الإدارة فى أمريكا مصطلح «مجتمع المعرفة» ويقصد به «مجتمع ما بعد الصناعى» ومعناه أن المعرفة قادرة على خلق مجتمع جديد، وهو مجتمع بازغ من ظاهرة جديدة هى ظاهرة الكوكبية، والكوكبية مصطلح معاصر ومعناه كوكب الأرض وما حدث له. والسؤال إذن: ماذا حدث لكوكب الأرض حتى يبزغ منه مجتمع المعرفة؟ حدثت فيه ثلاث ظواهر: البريد الإلكترونى، والإنترنت والتجارة الإلكترونية، وكان من شأن هذه الظواهر موت المسافة زمانياً ومكانياً، ومع موت المسافة تغير أسلوب رؤيتنا للكون، إذا لم يعد دوجماطيقياً، أى لم يعد قابلاً لتوهم امتلاك الحقيقة المطلقة فتوارت الحقيقة وبزغت المعرفة وقلنا «انفجار المعرفة» و«وحدة المعرفة» و«مجتمع المعرفة» وكان كل ذلك من ثمار «رباعية الديمقراطية». الديمقراطية إذن حالة ذهنية خاصة بأسلوب رؤيتنا للكون، وقد تتحول إلى حالة سياسية ولكن بشرط أن تكون مرهونة بحالة ذهنية.