الرأى عندى أن قضية الصراع بين الأصولية والعلمانية هى قضية هذا القرن، و أن المرأة هى محور هذا الصراع. وإذا كان السؤال: ما الغاية من هذا الصراع فالجواب لا يكمن فى تحرير المرأة إنما فى تحرير الحضارة الانسانية. والسؤال اذن: لماذا يأتى الجواب على هذا النحو؟ الجواب يكمن فى نشأة الحضارة. فقد قيل فى علم الانثروبولوجيا، أى علم دراسة المجتمعات البدائية ، إن نشأة الحضارة مردودة إلى ابتداع المرأة للتكنيك الزراعى الذى أحال تربة غير زراعية إلى تربة زراعية. وبناء عليه نشأ النظام المطريركي، أى النظام الذى تقوده المرأة وليس الرجل برعاية آلهة أنثوية وكانت فى مقدمتهن الإلهة بيرسيفونى ابنة زيوس كبير الآلهة التى كانت ربة الإخصاب والخضراوات. وبعد مدة من الزمان أحدث الرجل انقلاباً على النظام المطريركى، وأطلق عليه اسم النظام البطريركي، أى النظام الذى يقوده الرجل برعاية آلهة ذكورية مع فرض نسق من القيم يكبل المرأة ويهمشها. وهذا النظام قائم حتى الآن ولكن بتدعيم من الأصوليات الدينية بوجه عام، ومن الأصولية الاسلامية بوجه خاص، وبأصولية طالبان فى أفغانستان وأصولية الإخوان المسلمين بوجه أخص، ويأصوليات تدعو إلى التحكم فى المرأة لكى تذعن لنسق القيم الذكورى المشتق من ابن تيميه الفقيه الإسلامى من القرن الثالث عشر. واذا امتنعت عن الاذعان فإرهابها واجب وإذا قاومت فقتلها لازم. وكان فى مقدمة ذلك النسق منع الاجهاض ومنع الاستعانة بحبوب منع الحمل. وعلى سبيل المثال لا الحصر، فى نيبال بآسيا أصدرت الحكومة قانوناً بمنع الإجهاض بناء على ضغوط من الأصولية الهندوسية على الرغم من أنها أقلية. وبناء عليه سُجنت مئات من النساء اللاتى وافقن على أن تُجرى لهن عمليات اجهاض. وحدث فى الهند مثلما حدث فى نيبال. واللافت للانتباه هاهنا اتفاق أصوليتين متناقضتين وهما طالبان والفاتيكان فى وضع العراقيل أمام الصحة الانجابية للمرأة، هذا مع ملاحظة أن الرأى الشائع عن الكنيسة الكاثوليكية أنها ليست أصولية إنما مجمعها المقدس على الضد من ذلك فيما يبديه من آراء سياسية. ومما هو جدير بالتنويه الى أنه فى المؤتمر الدولى للسكان والتنمية الذى انعقد بالقاهرة فى عام 1994 كان موقف الفاتيكان مماثلاً للحركات الأصولية التى عارضت حقوق المرأة الانجابية كما كان مماثلاً لموقف دولتين اسلاميتين وهما ايران وليبيا. وحدث فى المؤتمر العالمى الرابع للمرأة الذى انعقد فى بكين فى عام 1995 موقف مماثل لما حدث فى مؤتمر عام 1994. ويؤدى الفاتيكان دوراً سلبياً إزاء حقوق المرأة الانجابية فى الدول التى يكون فيها الكاثوليك أغلبية مثل المكسيك وهولندا، بل إنه يؤدى نفس الدور كوكبياً بفضل ما له من تأثير على ممثلى الحكومات فى مؤتمرات الأممالمتحدة. ويقال بعد ذلك أن ثمة دوراً ايجابياً لمنظمات حقوق الانسان فى مواجهة رؤية الأصوليات الدينية للمرأة. والسؤال إذن: ما هو هذا الدور الإيجابي؟ إنه تفسير دينى مناقض للتفسير الأصولي. ومعنى ذلك أن الأرضية المشتركة للتفسيرين هى الدين. وفى الحالتين يحاول كل فريق الاستعانة بما ورد فى التراث. وإذا سلمنا بأن ثمة أكثر من تراث فالتراث الأقوي، فى رأيي، هو التراث الأصولي. ومن هنا تكون الغلبة للتفسير الأصولي. والسؤال اذن: هل من مخرج؟ أظن أن المخرج مزدوج. المخرج الأول هو الاستعانة بنشأة الحضارة على النحو الذى ارتأته وهو إحداث انقلاب على النظام البطريركى من قِبل المرأة. والمخرج الثانى هو الاستعانة بالعلمانية بسبب أنها هى الرؤية المستقبلية فى مواجهة الرؤية الأصولية الماضوية. وإذا كان الانسان، على نحو ما أري، يتحرك من المستقبل وليس من الماضى فالغلبة فى هذه الحالة تكون للعلمانية. والسؤال بعد ذلك: ماذا يحدث للمرأة من تغيير إذا تم الانقلاب على النظام البطريركي، أى الذكوري؟ إنها فى هذا النظام مخلوقة من أجل الآخر ( الرجل) وليس من أجل ذاتها. وهذه حقيقة مطلقة تُدرب على حفظها منذ الطفولة وبتدعيم من نصوص دينية تُفسر بذهنية أصولية. وإذا أرادت المرأة الثورة على هذه الحقيقة المطلقة فلن تتم هذه الثورة بالدخول فى نسق حقيقة مطلقة أخرى إنما بالدخول فى «نسق التغيير» من وضع قائم من أجل وضع قادم. وفى القرن السابع عشر قال الفيلسوف الإنجليزى «المعرفة قوة» أى أن المعرفة مرادفة لقوة التغيير وليس لقوة الحقيقة. وفى القرن العشرين لم يتحدث عميد الإدارة فى أمريكا بيتر دركر عن مجتمع الحقيقة إنما تحدث عن «مجتمع المعرفة» لأن المحرك هو الرغبة فى إحداث التغيير وليس فى امتلاك الحقيقة المطلقة. وإذا أردت مزيداً من الفهم فانظر إلى حال الإخوان المسلمين فماذا حدث لهم؟ بشروا بحقيقة مطلقة ذاعت فى القرن العشرين بقيادة الفقيه ابن تيميه ودفعوا الجماهير إلى اعتناقها وعندما رفضت صوبوا نحوها نيران المدافع والقنابل. وكانت النتيجة ثورة الجماهير عليهم فى 30 يونيو من أجل التغيير وليس من أجل الحقيقة، ومن أجل الحياة وليس من أجل الموت. لمزيد من مقالات مراد وهبة