تلقيت ببالغ الإعزاز والتقدير دعوة كريمة من الدكتور ناصر القحطانى المدير العام للمنظمة العربية للتنمية الادارية -وهى إحدى المنظمات المنبثقة عن جامعة الدول العربية- للمشاركة كمتحدث رئيسى فى الجلسة الافتتاحية فى المؤتمر السنوى الخامس عشر فى الفترة من 15-17 ديسمبر 2015و عنوانه «الأجندة التنموية لما بعد 2015 فى الدول العربية». وكان عنوان بحثى «التنمية برؤية كوكبية» وهو عنوان يشى بأن مفهوم التنمية له أكثر من رؤية. فقد كانت التنمية، فى بدايتها، محكومة برؤية اقتصادية. وقد نشأت هذه الرؤية مع نشأة علم الاقتصاد السياسى عند آدم سميث فى كتابه المعنون «بحث فى طبيعة ثروة الأمم وأسبابها» (1776). وكانت الغاية من تأليفه تشكيل الإنسان الاقتصادى المواكب فى بزوغه لنظام رأسمالى يستند إلى مبدأ «دعه يعمل». وقد سماه سميث «اليد الخفية للسوق» حيث تتحدد الأسعار بحسب العرض والطلب دون تدخل الحكومة، إلا أن الأسعار فقدت اتزانها إلى الحد الذى أصبح عنده الاتزان هو الاستثناء وعدم الاتزان هو القاعدة، وبالتالى دخل النظام الرأسمالى فى أزمة فلزم تعديله، وأجرى هذا التعديل الاقتصادى الإنجليزى جون كينز فأدخل الحكومة كطرف أساسى فى إحداث الاتزان وذلك برفع سعر الفائدة أو خفضه، أو بزيادة الضرائب أو بتقليلها. وفى بداية السبعينيات من القرن الماضى لم تعد نظرية كينز صالحة لمواجهة الأزمات الاقتصادية لأنها دارت على أن الإنسان كائن اقتصادى ليس إلا. وكان من شأنه أن قررت الأممالمتحدة أن تكون التنمية برؤية ثقافية، ومن ثم صكت مصطلح «التنمية الثقافية» فى عام 1988. إلا أن المفارقة هنا أنه مع صك هذا المصطلح كانت الأصوليات الدينية فى طريقها إلى الانتشار ومن ثم أحدثت تأثيرها على الثقافة فتعثرت التنمية بسبب أن هذه الأصوليات ترفض إعمال العقل فى النص الدينى فتأخذه على معناه الحسى الحرفى ثم ترقى به إلى مستوى المطلق. وحيث إن المطلق واحد وإذا تعدد فيلزم القضاء على ذلك التعدد وبذلك لا يبقى سوى مطلق واحد، إلا أن هذا القضاء لا يمكن أن يتم إلا بقتل أصحاب المطلقات المعادية لمطلق معين. ومع بداية التسعينيات بزغت ظاهرة الكوكبية، والكوكبية نسبة إلى كوكب الأرض سواء فى اللغة العربية أو فى اللغات الأجنبية، وهى تعنى موت المسافة زمانيا ومكانيا بسبب الانترنت (الكل المترابط) والإيميل (البريد الالكترونى) والإيكومرس (التجارة الإلكترونية). وكان من شأن ذلك أن تلاشت الفواصل بين الدول والشعوب، وحل محلها الاعتماد المتبادل فرفضت الأصوليات الدينية الدخول فى الكوكبية لأنها معادية لبعضها البعض، وكان الإرهاب وسيلتها. وهذا هو مغزى تدمير مركز التجارة العالمى فى 11/9. ومن هنا كان رأيى أن التنمية الثقافية لم تعد صالحة، والبديل هو التنمية الكوكبية ولكن بشرط التخلص من الأصوليات الدينية. وكان هذا التخلص هو الفكرة المحورية للكتاب القنبلة المعنون «تصادم الحضارات وإعادة صياغة النظام العالمى» (1997) لعاِلم الاجتماع الأمريكى صموئيل هنتنجتون والذى تنبأ فيه بأن الصراع القادم هو صراع بين الغرب والمجتمعات الاسلامية والآسيوية. وكان الرأى عندى أن الأصوليات الدينية دخلت فى علاقة عضوية مع الرأسمالية الطفيلية لأن كلا منهما ضد التنوير، وبالتالى ضد الحداثة، ومن ثم ضد التنمية بالرؤية الكوكبية. ومن هنا فإن التنمية الإقليمية لن تكون منفصلة عن التنمية الكوكبية، أى أن العلاقة بينهما متبادلة. ومن هنا أيضا تكون العلاقة بين الدول المتخلفة والدول المتقدمة متبادلة بمعنى أن الدول المتخلفة أمامها أحد أمرين: إما أن تتمثل مفهوم التنمية برؤية كوكبية فتلحق بالدول المتقدمة وإما أن ترفض هذا التمثيل فتزداد تخلفاً، بل تجد نفسها مضطرة إلى جذب الدول المتقدمة نحو التخلف. أما الدول المتقدمة فأمامها هى الأخرى أحد أمرين: إما أن تعمل عل إقناع الدول المتخلفة بتمثل الكوكبية فتندمج فى التقدم وإما أن تعمل على تفكيك هذه الدول بحيث تصبح مشلولة التأثير. التنمية الكوكبية إذن هى أساس التنمية الإقليمية. والمطلوب بعد ذلك إدارة التنمية الإقليمية فى إطار التنمية الكوكبية بمعنى أن على جميع مؤسسات الدولة أن تكون غايتها الدخول فى المنافسة الكوكبية وذلك بخلق قيادات بمعايير كوكبية. مثال ذلك أنت لا تستطيع أن تؤسس مشروعا اقتصاديا على عمالة رخيصة، إذ ليس فى إمكان هذا المشروع أن ينمو ويتطور إلا إذا كانت القوة العاملة ترقى إلى مستوى القوة العاملة فى الدول ما بعد الصناعية، بل إن القوة العاملة بوجه عام لا تستطيع أن ترقى إلى المستوى الكوكبى من غير ثقافة كوكبية تستند إلى ثقافة التنوير. ومن هنا تكمن أهمية النخبة فى الترويج لمثل هذه الثقافة، وأهمية مديرى المشروعات فى أن يكونوا على وعى بتمثل هذه الثقافة. إلا أن هذا التمثل لن يكون ممكنا إلا بتغيير النسق الثقافى، وهذا التغيير لن يكون ممكناً من غير إدارة الدولة ولكن بشرط أن تكون هذه الادارة ممهدة للفكر المبدع وذلك بإزالة العوائق البيروقراطية الكامنة فى الجهاز الإدارى للدولة. إلا أن هذه الإزالة لن تتحقق إلا إذا تم تدريب المدير على متطلبات العملية الإبداعية من حيث إنها قدرة العقل على تكوين علاقات جديدة من أجل تغيير الوضع القائم بحسب تعريفى. والمطلوب بعد ذلك أن يتمثل المدير هذه المتطلبات حتى لا يكون هو عائقاً أمام المبدع. ومن أهم هذه المتطلبات رفض مقولة الإجماع باعتبارها العائق الأعظم أمام الإبداع. ومع رفض الإجماع من أجل الإبداع يلزم التحرر من الأصوليات الدينية وما يلازمها من إبطال إعمال العقل، ومن اقتصاد طفيلى يستند إلى الإتجار فى غير المشروع. لمزيد من مقالات مراد وهبة