قال لي صديق العمر وهو يضع فنجان القهوة السادة أمامه بعد أن رشف منه آخر رشفة: لقد قررت أن أتوكل علي الله وأن أكتب وصيتي! أسأله برفق: لم العجلة.. مازال في العمر بقية! قال: لقد بلغت يا صديقي من العمر أرذله.. وأريد أن أستريح وأريح! قلت: أرذله ايه يا راجل.. وأنت لم تصل بعد إلي حافة جسر الثمانين من العمر! قال: وهو ثمانين سنة شوية.. دول كفاية قوي.. اصحي يا عزيزي الدنيا اتغيرت وأصبحنا نعيش في غابة ناسها ديابة كما يقولون وعندهم حق وزيادة..! قلت له: اصحي أنت.. ولما أنت عارف اننا نعيش في غابة ناسها ديابة.. ولا يخلو بيت الذئب من العظام كما يقولون.. تقوم تقعد في آخر أيامك.. عريان في أوضة ضلمة يحرس بابها الذئاب والثعالب وشر البشر! يلتفت إلي بريبة وهو يقول سائلا: عاوز تقول ايه يا راجل يا موقعاتي.. هو أنا كتبت وصيتي للرقاصة اياها اللي كانت علي أيامنا توقف شارع محمد علي علي رجل واحدة.. في عز مجده.. لما تمشي فيه بخلاخيلها..! أسأله بريبة وأنا أعرفه «يموت في صنف الحريم..» أيام شبابه وآسف لهذه العبارة أمال هتكتب اللي وراك واللي قدامك لمشايخ الطريقة واللا لمجاذيب الحسين.. وعلي رأسهم شيخ طريقتهم صديقنا العزيز في الزمن الجميل «المارشال علي» بناياشينه ومشيته العسكرية وطربوشه الذي كان بيلبسه حسب كلامه جندوفلي باشا قائمقام عسكر إبراهيم باشا؟ قال: بلاش تريقة وحياتك.. ده موش وقت هزار.. وكل واحد له يوم.. وأنا حاسس إن يومي قرب يا أبو العز.. وعاوز أريح ضميري قبل ما أقابل رب كريم! قلت له: يعني عاوز تكتب اللي وراك واللي قدامك لولادك وبناتك في حياتك؟ قال: أيوه كده بالضبط! قلت له: يعني موش عاوز تسيب حاجة وراك للورثة الشرعيين بعد ما تقابل رب كريم؟ قال: أيوه ما هو أنت فاهمني أهوه أمال عمال تلاوعني وتلاعبني زي ناكر ونكير يمين وشمال ليه؟ قلت له: أصل أنا أمي الله يرحمها كان لها فدادين أرض ودوار كبير وبيوت ومزارع وغيطان تسد عين الشمس في بلد اسمها «ساقية أبو شعره» في المنوفية وأخوها الكبير اللي اسمه علي أخد كل حاجة.. وما سابلناش ولا حتي ضل حيطة زي ما بيقولوا.. علي أي حال دي موش قضيتنا.. لكن قبل ما تكتب اللي قدامك واللي وراك.. يقاطعني: أيوه اللي قدامي واللي ورايا! أقاطعه أنا بدوري.. قبل ده كله تعالي أحكيلك حكاية الحاج بهادي العطار.. والمعلم قرني أبو القناديل والأسماء من عندي.. منعا للاحراج والقيل والقال! ...................... ...................... هو أمامي ينصت غاية الانصات.. كأنه ينتظر نتيجة الثانوية العامة وهل سيدخل الجامعة أم سيعيد السنة.. آنا الآن أحكي: كان عمك الحاج بهادي العطار هذا.. عطارا مشهورا جدا في حي الحسين.. تماما مثل خضر العطار ورجب العطار علي أيامنا الخوالي.. وكنت أشتري منه كل اسبوع تقريبا مربة خرز البقر لزوم ربربة خالتي بهانة سيدة الحارة في بلدنا القناطر الخيرية حتي يحبها زوجها أكتر وأكتر.. وحتي تكيد لنساء الحارة وكنت أيامها يا دوب أخطو خطواتي الأولي في عالم الصحافة في بلاط الأستاذ محمد حسنين هيكل داخل مملكة الأهرام الصحفية.. وكشف لي ملك العطارة والعبارة أسرارا لا تعد عن هذا العالم السحري الذي ينقلك إلي جو البخور والمباخر والعطور وحسناتها والحبوب التي تصلب عود الفيل نفسه وتجعله يجري في مضمار الجري ويسبق أبطال عدو المائة متر ويضربهم علي عينهم.. ومن أجل هذه المعجزة البشرية أصبح عمنا بهادي العطار صديقا لكل من يريد أن يصبح مثل الرهوان في سباق الخيل وما أكثرهم من أبناء مهنة القلم والألم وانهالت عليه الطلبات وجاء يوم قال لي عمنا بهادي ونحن نشرب النارجيلة العجمي عنده داخل المحل مع فناجين القهوة العربية المعتبرة: أنا حا اقولك سر! أقاطعه: خير يا عم بهادي؟ قال: أنا امبارح رحت الشهر العقاري وكتبت كل أملاكي.. أكرر كل ما أملك لأولادي الأولاد والبنات مقاطعا قلت له: طبعا أديت الأولاد أكتر.. قال: أكتر بكتير.. موش الولد له في الشرع مثل حظ الانثيين؟ قلت له: ايوه.. لكن ده بالكتابة والحساب.. اللي عملته ده هبة من عندك في حياتك يا معلم.. سكون علي الميم وفتحة علي العين؟ قال: أنا حاولت أعدل.. ما عرفتش لكن أنا ضميري دلوقتي مستيرح ونفسيتي آخر رضا والحمد لله.. ...................... ....................... جرت مياه كثيرة في نهر النيل.. ولا أعرف كم مر من الوقت لم أذهب فيه إلي حي الحسين الذي أعشقه لألتقي بصديقي العزيز الحاج بهادي العطار سافرت خلالها أكثر من سفرية إلي سوريا الحبيبة أيام عزها ومجدها.. وخطفت رجلي مرتين.. مرة إلي استوكهولم عاصمة السويد.. ومرة أخري إلي لندن.. وفي آخر مرة نزلت فيها من الطائرة.. قلت في نفسي: والنبي لازم أعدي علي الحاج بهادي العطار معايا له دواء حيتان يعيد الشباب جايبهوله مخصوص من استوكهولم عدل بكسر العين والدال الأولي وسكون الثانية وقلت لسائقي: والنبي يا اسطي محمود نعدي في سكتنا علي الحاج بهادي! قال مهللا: يا ريت دا الراجل في كل مرة نعدي عليه يغمزني كده بشوية عطارة حلوة من عنده! لا أعرف لماذا أحسست شعورا غريبا مريبا وأنا جالس وحدي في السيارة.. بينما سائقي قد ذهب يبلغ عمنا بهادي العطار بوصولنا إلي حي الحسين.. تملكني شعور بانقباض وخوف.. أرجعته إلي طول السفر بالطائرة.. والغيبة عن الحي الذي أعشقه والذي يقول علماء الحملة الفرنسية في كتابهم وصف مصر أن أجدادي كانوا يعيشون هنا في الزمن الذي ولي وراح.. وهذا مكتوب بالقلم والورقة عن عائلة السعدني وجذورها في مصر.. والله أعلم! جاءني سائقي مكفهر الوجه وهو يخبرني بأنه لم يعثر علي المعلم بهادي العطار.. بل وجد ابنه الأكبر جالسا مكانه علي مقعده الوثير . وعندما سأله عنه قال له: الحاج مسافر.. قل لصاحبك الصحفي اللي هو أنا الحاج مسافر.. واللا قل له ده في السعودية بيعمل عمرة! لعب الفار في عبي والعبارة من مأثورات خالتي بهانة .. وقلت لسائقي: يظهر الراجل جري له حاجة وموش عاوزين يقولوا؟ قال: أنا ها أغيب شوية كده لحد ما أوصل لحضرتك علي السر الحقيقي! قلت له: أيوه لحسن أنا حاسس إن فيه حاجة مخبينها.. ايه هي موش عارف؟ قال: انزل حضرتك من العربية وخدلك فنجان قهوة علي قهوة الافندية في الميدان لحد لما أرجع لحضرتك بالخبر! ................... ................... غاب عني سائقي وقتا حسبته دهرا.. شربت فيه فنجانين من القهوة وواحد شيشة عجمي من التي أوصي بها الحكيم.. ثم عاد مطأطئ الرأس يجر ساقا من بعد ساق.. سألته: فيه ايه الراجل مات وموش عاوزين يقولوا؟ قال: يا ريت.. أسأله: أمال لا ميت ولا صاحي.. يبقي راح فين بس؟ قال: سألت أصحاب الدكاكين اللي جنبه واحد ابن أبالسه قاللي.. الحاج طفش من اللي عمله فيه ولاده.. طب راح فين؟ أنا أسأل؟ السائق يقول: الله أعلم.. لكن فيه راجل شايب كده قال لي إنه راح يعيش في القرافة في حوش أبوه اللي مات من سنين في الامام.. قلت له: يا خبر ده من عمايل ولاده ساب عالم الأحياء كله وراح يعيش مع الأموات؟ قال: هما قالولي كده! ..................... ..................... لم تنته بعد حكاية الحاج بهادي العطار.. طلبت من سائقي أن يتخفي ويستقصي.. ولكنه فاجأني بقوله بخبث لم أعهده فيه: تعرف حضرتك مين يعرف الخبر الحقيقي؟ قلت له: إيه يا بدر الدجي؟ قال: صنف الحريم هو اللي عنده الخبر اليقين! قلت له: يبقي علينا ندور علي ست عارفة كل أسرار الناس هنا الكبار والصغار.. مين اتجوزت ومين اتطلقت ومين خلفت ولد وبنت في بطن واحدة.. آه علينا وعلي الحاجة زهرة في درب المغربلين التي كانت في شبابها مدوخة شباب الحي ورجالته وراها من جمالها وحلاوتها ودلوقتي قاعدة بشوية سبح وخلاخيل وقزايز ريحة وطواقي للرجالة ومكاحل للبنات وأحجبة للمحبة والزواج.. قصاد جامع الغورية وانت طالع علي الحسين.. تعالي نعدي عليها.. حنلاقي عندها الخبر اليقين.. قال سائقي: طيب هسيب العربية قدام مقام الحسين.. ونعدي الشارع نلاقيها في وشنا علي طول. قلت له: خليك انت جنب العربية.. وأنا هأروح مشي علي رجليا.. إلهي نعثر عليها هناك! وذهبت وجلست مع الحاجة زهرة التي حلفت مليون يمين لازم تعزمني الأول في بيتها.. وقالت لي: دانا عاملة النهاردة حلة كوارع تستاهل بقك! ومشيت خلف الحاجة زهرة حتي بيتها في حارة برجوان.. وجلسنا نتحدث ولكن ما قالته كان للحق خارج حدود العقل والمنطق.. إذا كان مازال في حياتنا.. حاجة اسمها عقل.. وحاجة اسمها منطق! ولكن ذلك حديثنا القادم إن شاء الله{ Email:[email protected] لمزيد من مقالات عزت السعدنى;