إحدى المشكلات الأساسية التى يعانيها المجتمع المصرى حاليا، هى الإفتاء عن غير معرفة او دراية كاملة بالموضوع محل الحديث، وقد تزايدت هذه المسألة بشدة مع الانتشار الواسع لوسائل الإعلام وكثرة البرامج الحوارية، فأصبح الجميع خبراء فى جميع المجالات والعلوم والتخصصات وهكذا يتحدث الطبيب فى الهندسة المعمارية، والمهندس يتحدث فى الطب والدواء والإعلامى يتحدث فى كل هذه الأمور، ومما زاد الطين بلة اعتقاد بعض نواب البرلمان انهم بمجرد عضويتهم فى لجنة نوعية من لجان المجلس قد أصبحوا خبراء فى مجالات عملها،مثل اللجنة الاقتصادية أو لجنة الخطة والموازنة وغيرهما وتاهت الحقائق تماما وضاع المواطن الذى أصبح لا يعلم اين الحقيقة من هذا كله. وهو ما لخصه لنا المفكر الاقتصادى الشهير بول كروجمان قائلا «ان الحقيقة لا تنتشر دائما حيث إن المشعوذين والجهلاء يملكون القدرة على جعل الناس يصدقونهم من الناحية الظاهرية وغالبا ما يكون لديهم القدرة على اقناع الافراد بأنهم مثال للحكمة». ومن اكثر الموضوعات التى ينطبق عليها هذا القول الصناديق والحسابات الخاصة بدءا من الحديث عن الأرصدة المالية الموجودة لديها الى كيفية استخدامها، فبعد ان انتهى الجدل حول التريليون جنيه التى تمتلكها والذى اثير عقب ثورة يناير 2011 ورد عليه الجهاز المركزى للمحاسبات فى تقريره المهم الصادر عام 2012، وكذلك التقارير المختلفة الصادرة عن المجالس النيابية التى كانت قائمة آنذاك، الا انه خرج علينا بعض النواب أخيرا، بالحديث عن ان اجمالى الأموال المملوكة لدى هذه الصناديق تتجاوز ال 600 مليار جنيه وهو حديث مبالغ فيه كثيرا. ناهيك عن حديث بعض النواب على ان قيام المجلس الحالى بفتح هذا الملف يعد الأول من نوعه، حيث لم يتم فتحه من قبل، وهو خطأ تماما كما سبق ان أشرنا. من هذا المنطلق أصبح من الضرورى إيضاح بعض الأمور التى تجعل النقاش أكثر إيجابية وقدرة على التصدى للمشكلات الناجمة عن الظاهرة. ومن أكثر الأخطاء شيوعا ان هذه الصناديق بالكامل خارج الموازنة العامة للدولة، وهذا غير صحيح على الإطلاق فبعضها يوجد داخلها، والبعض الآخر خارجها. فهى إما حسابات وصناديق مستقلة بذاتها تمثل فى حد ذاتها كيانا إداريا يدخل فى الموازنة العامة للدولة بمسماه، مثل صندوق التنمية الثقافية وصندوق السجل العينى وصندوق دعم وتمويل المشروعات التعليمية وصندوق ابنية دور المحاكم والشهر العقارى وصندوق دعم وتطوير خدمات الطيران وغيرها. او انها تتبع الوحدات الادارية التى انشئت بداخلها سواء فى الجهاز الإدارى او المحافظات او الهيئات الخدمية، من امثلة ذلك حساب الخدمات والتنمية المحلية بالمحافظات، وحساب الإسكان الاقتصادى بالمحافظات وحساب استصلاح الأراضى وكذلك الحسابات الخاصة التى تمول من الرسوم والانشطة بالمدارس وصناديق تحسين الخدمة وغيرها. وجدير بالذكر ان عدد الصناديق والحسابات الخاصة، المحولة الى حساب الخزانة الموحد، قد تطور من نحو 5564 صندوقا عام 2002 ووصل الى 6285 فى نهاية يونيو 2016 يقع معظمها لدى الجامعات (بإجمالى 3335 حسابا وبنسبة 53% من الاجمالى) يليها المحافظات (1503 حسابات وبنسبة 24%) وعلى مستوى الوزارات تأتى وزارة الزراعة فى المقدمة بنحو (379 حسابا) تليها وزارة الصحة(182 حسابا). ويصل اجمالى المبالغ بها الى نحو 52.2 مليار جنيه. (مع ملاحظة استمرار بعض خارج هذا الحساب) ويرجع السبب فى تطور هذا الرقم الى القوانين المختلفة المنظمة للتعامل معها. عموما وفى محاولة للتنظيم جاء القانون رقم 139 لسنة 2006 بتعديل أحكام القانون رقم 127 لسنة 1981 بشأن المحاسبة الحكومية، والذى أدخل مفهوم حساب الخزانة الموحد بالبنك المركزي، وبمقتضى هذا القانون تم استدعاء جميع أموال هذه الجهات من البنوك المختلفة إلى حساب الخزانة الموحد مع الحفاظ على ملكية هذه الأموال للجهات صاحبة الحساب وتظل هى المتصرف الأساسى فيها سحبا وإيداعا ويحق لها بعد موافقة وزارة المالية الحصول على عائد عن هذه الأموال. وقد استثنى من ذلك وزارة الدفاع وهيئة الامن القومى وجميع اجهزتهما وكذلك صناديق التأمين والمعاشات والرعاية الاجتماعية والصحية. وهكذا أصبحت معظم هذه الصناديق والحسابات تقع تحت إشراف ومراقبة وزارة المالية والجهاز المركزى للمحاسبات، بل حتى الصناديق المستثناة، هى مستثناة من فتح حساباتها بالبنك المركزى ولكنها ليست مستثناة من الإشراف والرقابة. وقد استمرت هذه المحاولات على مدى السنوات السابقة، حيث نص القانون رقم 27 لسنة 2012 على أيلولة 20% من اجمالى إيراداتها الشهرية المحققة للخزانة العامة ثم جاء القانون رقم 19 لسنة 2013 بخفض هذه النسبة الى 10% واستثنى من ذلك حسابات المشروعات البحثية والمشروعات الممولة من المنح والاتفاقيات الدولية. كما نص على ايلولة 25% من ارصدة هذه الحسابات والصناديق فى 30/6/2013 فيما عدا ماسبق الإشارة اليها فضلا عن حسابات الإدارات الصحية والمستشفيات وصناديق تحسين الخدمة الصحية ومشروعات الإسكان الاقتصادي. كما نص على انه فى حالة عدم الالتزام بتحويل هذه الحسابات الى حساب الخزانة الموحد يتم خصم 50% من رصيد هذه الحسابات على ان تؤول بالكامل الى الخزانة العامة فى حال عدم الالتزام خلال ستة أشهر من تاريخ الصدور، وجاء القانون رقم 65 لسنة 2014 على هذا النهج وكذلك القانون رقم 32 لسنة 2015. وأخيرا القانون رقم 8 لسنة 2016 والذى رفع النسبة الى 15% وخفض المهلة الى ثلاثة أشهر. ذلك كله يتطلب دراسة هذا الموضوع برمته بحيث توضع الآليات السليمة والمناسبة للتعامل مع هذه الصناديق والحسابات الخاصة بما يضمن لها تحقيق الاهداف المنوطة بها، كما يساعد على تحقيق متطلبات الشفافية لجميع بنود الموازنة ومصادر التمويل وكذلك تعميق المفاهيم المحاسبية للإدارة المالية السليمة، وضبط التدفقات النقدية فى الخزانة العامة بما يعزز من مفهوم وحدة الموازنة لإحكام ضبط الإنفاق العام فى المجتمع. لمزيد من مقالات عبد الفتاح الجبالي