من إيجابيات القيادة السياسية أن التغيير في الحكومة والمحافظين تحكمه اليوم معايير الصالح العام وعدم مداراة الفشل من جانب بعض المسئولين التنفيذيين خاصة في الجوانب المرتبطة بالخدمات المباشرة للمواطنين.... وفي تجربة وزير التموين السابق عبرة وعظة عن كيفية قيام المسئول الرفيع المستوي بمهام منصبه بشفافية ووضوح دون أن يترك نفسه للقيل والقال، فقد شكل الوزير السابق حالة خاصة أمام الرأي العام لفترة من الوقت حيث كان ينظر إليه باعتباره يقدم مثالاً علي الكفاءة والمسئولية في موقعه والخبرة اللازمة في وقت تحتاج فيه البلاد إلى تلك النوعية من المسئولين ثم بدأ منحنى الحديث عن الوزير في الهبوط تدريجيا نتيجة ما شاع ومن دون رد عن وجود جماعات مصالح اقتصادية وإعلامية اقتربت من كرسي الوزارة تدريجيا لتنسج حوله دائرة جهنمية صورت كثيرا من الأخطاء على أنها من إنجازات الوزارة وفصلت بين رأي الشارع وما يحدث علي الأرض فعليا من أخطاء في تطبيق منظومة البطاقات الذكية وما يأتي على ألسنة كبار المسئولين في الوزارة. لايدرك الوزير أي وزير وهو في المنصب أن هناك وزراء يرحلون في تعديلات وزارية بسبب ضعف أداء وزارات خدمية وأن الأجهزة الرقابية ترصد وقائع بعينها ظاهرة وبارزة بما يكفي حتي يتدبر سواء من بقي في الحكومة أو من وفد إليها أن السلطة الحالية لا تتهاون ولا تملك رفاهية تجاهل الأخطاء الكبيرة التي يمكن أن يقع فيها وزير هنا أو مسئول كبير هناك. فملف وزير الزراعة السابق لم يغلق بعد ومازالت التحقيقات دائرة في ملفات عديدة وفي كل تلك الحالات لا يبدو أن مسئولين في الدولة، في بعض قطاعاتها، قادرون علي فصل أنفسهم ومواقعهم الحساسة عن جماعات المصالح التي تلعب في قوت البشر أو التي تتحكم في الأسعار وتنسج شبكة غير محدودة من النفوذ في كل الاتجاهات وبعضهم لا يملك الحنكة السياسية الكافية للتعامل مع موقعه الرفيع المستوى ومدى ارتباطه بمصالح الجماهير العريضة من شعب يصل تعداده اليوم إلى أكثر من 92 مليون نسمة. لا يختلف الأمر من وزير إلى محافظ. فهناك من يتسم أداؤهم بالضعف وقلة الخبرة وهناك من لا يملك من الحصافة السياسية شيئا وليست لديه ملكة أن يمسك لسانه عن التصريحات المنفلتة أو المثيرة للسخرية أو الخارجة عن لياقة المنصب والأغرب في بعض الحالات التي اختبرناها، قبل التعديل الوزاري وتغيير المحافظين أمس الأول أن بعضهم خرجوا من دولاب العمل في الدولة ومن مؤسسات كبيرة تملك القامة والقيمة وهو ما يدعونا للتساؤل عن نوعية الموظفين الكبار في الدولة وطريقة الترقي التي أوصلت هؤلاء في عقود ممتدة إلى مناصب رفيعة أهلتهم أن يصبحوا علي قمة الترشيحات للمناصب الوزارية وحقائب المحافظين. بدافع الخوف علي تجربة الحكم الحالية، أري ضرورة أن تدخل المؤسسات المعنية باختيار المسئولين الكبار في الدولة في نقاش مفتوح تحت رعاية رئيس البلاد وأن يكون هناك منبر دائم لتخريج الكوادر العليا في الدولة يكون الرئيس عبد الفتاح السيسي في القلب منه. ولعل ما نعرفه عن مؤهلات وزير التموين الجديد اللواء محمد علي الشيخ مطمئن ويقول شيئا عن تصحيح معايير في طريقة اختيار كبار المسئولين.. فهو صاحب الدور الكبير خلال ثورة 25 يناير 2011 بحكم ما عاينه في منصبه كرئيس لهيئة الإمداد والتموين بالقوات المسلحة في ذلك الوقت، وتحمل مسئوليات كبيرة، نتيجة تكفل القوات المسلحة بتوفير السلع الأساسية والمواد الغذائية للعديد من المحافظات، خاصة في صعيد مصر، ودوره المشهود في حل أزمة إضرابات النقل العام المتكررة في القاهرة الكبري، بعد نجاحه في تشغيل إدارة النقل التابعة للهيئة بدلا من أتوبيسات النقل العام، وتجاوز المشكلة في أسرع وقت ممكن دون أن يشعر الناس بأزمة عميقة في مرحلة شديدة الصعوبة. ليس المهم من أين يأتي كبار المسئولين في الدولة، أقصد المؤسسات، ولكن العبرة بالكفاءة وبالقدرة علي الإنجاز في موقعه وما يملكه من خبرات تضمن جودة الأداء.... فنحن لسنا في مرحلة تجريب أو جس نبض مثلما يتخيل البعض، ولكننا في قلب معركة كبري من أجل العبور بالوطن إلي مرحلة من الاستقرار والتنمية، وتحقيق مطالب شعبية ملحة في مقدمتها ضمان المأكل والمشرب وتوفير الخدمات الصحية والتعليمية لكل فئات المجتمع، ولا يملك أي مسئول أن يخرج علي الناس ويقول كلاماً جزافيا أو وهمياً يتوعد فيه البسطاء بأن الدولة في طريقها إلي التخلي عن الدعم، أو التحرر من التزاماتها حيال الطبقات الفقيرة والمتوسطة، ثم يقولون فيما بعد انهم يتحدثون لغة الصراحة ويتركون الرئيس يتلقي بمفرده انتقادات واتهامات بينما في واقع الأمر هم يسددون ضربات موجعة مباشرة للدولة نفسها نتيجة الانفلات غير المبرر وغير المحسوب في التصريحات. قضية وزير الزراعة السابق وإستقالة وزير التموين واقعتان تشيران إلي خلل ما في العلاقة بين الموظف العام وجماعات المصالح وربما هذا هو ما دفع الرئيس السيسي في تكليفاته لوزير التموين الجديد والمحافظين الجدد إلي التوجيه بمواجهة محاولات الاحتكار، وهو تكليف ينصرف بالقطع إلي كل أعضاء الحكومة ويؤكد أن الدولة ماضية في كشف تلك الشبكات المنتشرة في كل قطاعات الاقتصاد.... وفي قضية فساد القمح، كان البرلمان علي قدر المسئولية في تتبع جريمة الاستيلاء علي المال العام وكشف تفاصيل مروعة عن التحالف الشرير في «شون القمح» والذي أضاع مليارات علي خزينة الدولة علي مدي سنوات ولعلها المرة الأولي التي تقوم لجنة تقصي حقائق برلمانية بعملها بحرية تامة بدعم كامل من هيئة الرقابة الإدارية التي تؤدي مهمة عظيمة اليوم لحماية المال العام بمساندة واسعة من الرئاسة..... كما أن التحرك في قضية ألبان الأطفال، وهي القضية التي شغلت الرأي العام علي مدي أسبوع كامل، كشف عن كثير من عورات انفلات التصريحات من بعض الوزراء (وزير الصحة) وفي نظام التوزيع, وجاء تدخل القوات المسلحة لتقديم حل سريع بتوفير 30 مليون عبوة في غضون أيام بمثابة رسالة للمنظومة المضطربة أن هناك بدائل حاضرة لوقف التلاعب المشين بغذاء الأطفال الرضع. في الحالات السابقة، (قضية وزارة الزراعة وفساد القمح وألبان الأطفال) كان هناك عامل مشترك وهو إهدار مال عام، وخلل المنظومة والمتاجرة الرخيصة بقوت الشعب واستغلال الثغرات بشكل محترف لتحقيق مكاسب بالمليارات دون وازع من ضمير. وفي غياب الضمير المجتمعي، خاصة لدي طائفة من التجار والموزعين، يكون التحرك من جانب الدولة ضرورة لإعادة الانضباط والضرب علي يد المستغلين بعنف حتي لا نتهم الشعب بالمشاركة في الفساد مثلما يروج البعض. فلا الشعب مسئول عن الاستغلال الوقح للخروج علي القانون بالتلاعب في نظام البطاقات الذكية ولا الحكومة يمكنها بعد اليوم تقديم تبريرات واهية عن تقصير المسئولين بعد أن تبين للجان التحقيق والنيابة العامة أن هناك خروجا ممنهجا علي القانون من جانب قلة من المستغلين، يريدون فرض الاحتكارات علي السوق. أعود إلي مسألة التكلفة السياسية أو الفاتورة السياسية التي تتحملها السلطة السياسية بسبب تلك الممارسات وهي الفاتورة التي يظن البعض أنها تهبط بشعبية الحكم ونسي هؤلاء أن الكشف عن وقائع الفساد وعدم مدارة السلطة علي جوانب الخروج علي القانون هو أمر يحسب لها وليس قرينة ضدها. بمعني آخر، في قضية القمح، علي سبيل المثال، كان يمكن للسلطة السياسية، لو أرادت، أن تغطي علي القضية مثلما فعلت حكومات سابقة تحت وطأة أصحاب المصالح الخاصة والشبكة المعقدة من التجارة غير المشروعة في سلعة رئيسية إلا أن الدولة قررت اقتحام المشكلة دون خوف من أحد، أو خشية جماعة مصالح بعينها. ولو تتبعنا ما يقوم به المهندس إبراهيم محلب في لجنة استرداد أراضي الدولة سنجد منهج المواجهة هو ما يحكم عمل الرجل من اليوم الأول ونجح بالفعل خلال فترة وجيزة في إنجاز قدر معقول من التكليفات ولا يدخر جهدا في العمل ليل نهار للانتهاء من المهمة الموكلة إليه بضمير وطني لا يمكن الإنتقاص من نواياه ومن مصداقيته وهو يعلن علي الرأي العام بشكل دائم عما تحقق بشفافية تامة. ولو تم إلغاء الإعفاء من المحاكمة الجنائية مقابل سداد مبلغ من المال لتحققت إنجازات أكبر. يحسب للرئيس وحكومته أنه لا ينظر إلي التكلفة السياسية الباهظة في عملية المواجهة ولا يتوقف أمام دعاوي التشكيك، أو محاولة تشويه أى خطوة تهدف إلي تصحيح الأوضاع وعلاج خلل سنوات طويلة في منظومة السلع الرئيسية، التي كشفت عن عورات كثيرة في عمل أجهزة الدولة وسوء الإدارة وسوء التقدير وغياب الكفاءات وهي العورات التي لن نجد لها حلولا في شهور أو سنوات قليلة ولكنها تحتاج إلي حزم من الدولة يحقق الوعي والهمة المجتمعية, وهو القصد من تحركات الدولة وقراراتها في تلك المرحلة الدقيقة من عمر الوطن. نشد علي يد الرئيس والدولة في مساعيها لمواجهة الاحتكارات ونقف صفا واحدا عندما يكون القصد هو تخفيف العبء عن كاهل البسطاء والفقراء والطبقة الوسطي التي تنظر إلي الدولة باعتبارها طوق النجاة من الحاجة والغلاء وسيطرة الجشعين علي السوق، ونعلم أن المشوار طويل حتي نصل إلي ما نصبو إليه من مجتمع تتحقق فيه العدالة الاجتماعية للكل، دون تفرقة ودون استغلال من فئة للسواد الأعظم وهو هدف الرئيس من اليوم الأول له في الحكم. لمزيد من مقالات محمد عبد الهادى علام