انقضى حتى الآن نحو قرن من الزمان على إنشاء الجامعة المصرية ومنذ ذلك التاريخ لم يحدث تطور حقيقى لهياكل الكليات والاقسام العلمية بها . وكل ماحدث خلال تلك الفترة هو إضافة بعض التخصصات المستحدثة يقابلها عبث فى أسس بناء الجامعة وبقيت هياكل الكليات والأقسام كما هى طوال هذه الفترة، مما تسبب فى جمود الجامعة، وهو ما يتناقض مع مفهوم الجامعة . فالجامعة توصف بأنها المكان الذى ينطلق فيه العقل بلا حدود فكرية أو مكانية متميزة بروح خاصة تقوم على مبدأ أساسى هو حيوية المعرفة، وهذا الجمود الذى أصاب الجامعة تسبب فى انخفاض المستوى العلمى لخريجيها فى الفترة الأخيرة ودون جامعة دائبة التطور لا يمكن لأى بلد أن يضمن تنمية ذاتية مستدامة كما لا يمكن على وجه الخصوص للبلدان النامية أن تضيق من سعة الفجوة الفاصلة بينها وبين البلدان الصناعية الغنية , فكلنا يعلم أن الفجوة بين الفقر والغنى هى فجوة معرفة بالدرجة الأولى. من أجل هذا كان اهتمام الدولة فى الفترة الحالية بإعادة النظر فى قانون تنظيم الجامعات المصرية وشكلت لجان لانجاز هذا العمل المهم فكان لزاما على كل ذى رأى ورؤية فى هذا المجال أن يبدى رأيه حتى يأتى القانون الجديد بالشكل الذى نتمناه لينتشل الجامعة بل مصر كلها من هذه العثرة. والرؤية التى نقدمها فى هذا المقال تتناول هياكل الاقسام العلمية بالجامعة . فالجامعة فى أبسط تعريفاتها هى مجموعة من المدارس العلمية والفكرية يحتويها القسم العلمى الذى هو النواة الرئيسية للجامعة وارتفاع المستوى العلمى للجامعة يكون من قوة اقسامها العلمية . وهذا يفسر ارتفاع مستوى خريجى الجامعة فى النصف الأول من القرن العشرين عنه فى النصف الثانى من القرن، ولتفسير ذلك فإن الأمر يستلزم تتبع منشأ الجامعة والتطورات التى مرت بها الى ان وصلنا الى الحال المتردى الذى نحن عليه الآن, فالدارس لنشأة الجامعة المصرية يجد أن الرواد الأوائل الذين أنشأوا الجامعة فى عشرينيات القرن الماضى قد التزموا بالقواعد والأسس التى كانت أساس نجاح الجامعات الاوروبية خاصة من حيث هياكل الأقسام العلمية، وما يحتويه كل قسم من تخصصات مختلفة ووضعوا على رأس كل تخصصا «أستاذا» توضع كل الشروط عند اختياره لإبراز تميزه العلمى والبحثى فى تخصصه لضمان قيامه بالمهام المنوطة بهذه الوظيفة المهمة بحيث يمكن له قيادتها علميا وأطلق على هذه الدرجة المتميزة «أستاذ كرسى» وهو قمة البناء الهرمى لكل تخصص بالقسم وأنشئ فى كل قسم درجات أساتذة كراسى بعدد التخصصات المكونة له وبالتالى أنشئت درجات أساتذة مساعدين ومدرسين يغطون تخصصات القسم المعنى، ويتم تعيين هؤلاء جميعا بمبدأ المنافسة أى بالاعلان واضعين فى الاعتبار حاجة القسم لاستكمال هيكله العلمى قبل رغبة عضو هيئة التدريس للترقى بحيث يتحقق التناسب بين القوة العددية للقسم من ناحية وبين الاختصاصات المخولة للقسم من ناحية أخرى، حتى لا ينقلب البناء الهرمى للقسم كما هو حادث الآن وبذلك تحقق تماسك القسم علميا ووظيفيا، مما أعطى له القدرة على تحقيق أهدافه بشكل مرض، وهذا يفسر المستوى المتميز لخريجى الجامعات فى النصف الأول من القرن الماضى. ولم يستمر الوضع هكذا حيث لم تهتم الدولة بتطوير الجامعات وبقيت هياكل الاقسام جامدة طوال فترة تصل إلى نحو نصف قرن دون تغيير، فى حين تميزت هذه الفترة بتطور علمى رهيب وظهرت تخصصات جديدة فى الاقسام لم يواكبها إنشاء درجات، اساتذة كراسى، لهذه التخصصات المستحدثة مما تسبب فى ظلم كبير لأعضاء هيئة التدريس المتميزين والذين يحملون راية تطوير الجامعة بتخصصاتهم الجديدة المستحدثة كما لم تقم الجامعات بتطوير هياكل الأقسام بها لتتواكب مع التطور العلمى، كما حدث فى الجامعات الغربية التى قامت الجامعة المصرية عل منوالها, كل ما حدث أن انشأوا وظيفة استاذ دون كرسى لامتصاص غضب الاساتذة الذين لم يرقوا الى «اساتذة بكراسى» ولكن بقى التميز لوظيفة «استاذ كرسى» ليستمر الصراع المحموم بين الأساتذة للحصول على هذه الدرجة مما تسبب فى ارتباك كبير بالاقسام أثر سلبيا على مستوى الاداء العلمى بها حتى جاء تعديل قانون تنظيم الجامعات فى 1972 وبدلا من أن يطوروا هياكل الأقسام ويجدوا حلا لمشكلة نقص درجات «أساتذة الكراسى» فكان الحل الاسهل الذى جاء فى قانون 49 لسنة 72 بالغاء أهم ما يميز الجامعة وهو درجة «أستاذ كرسى» وجعلوا الترقى من درجة علمية لأخرى مسموحا ومتاحا لكل من يعين معيدا «بالتكليف» لكى يصبح استاذا طال الزمن أو قصركما ألغى أهم شىء يميز الجامعة وهو مبدأ التنافس أى إلغاء التميز العلمى كواقع ومناط قياس لشغل هذه الوظائف المهمة وذلك بالغاء الاعلان وهو المبدأ الذى يتيح اختيار الافضل عند ترقية أعضاء هيئة التدريس، مما شجع على التراخى والاتكالية وبالتالى ضعف مستوى خريجى الجامعة ومنذ تطبيق هذا القانون اهتز الهيكل العلمى للاقسام واصبح شغل الوظائف العلمية به عشوائيا حيث لا يراعى البناء العلمى للقسم واستكمال هيكله العلمى بقدر رغبة أعضاء هيئة التدريس للترقى، ولذا أصبح الأمر يتطلب اعادة النظر فى أسلوب اختيار وترقية أعضاء هيئة التدريس بشكل عام والاساتذة بشكل خاص ولذلك نقترح إعادة مبدأ التنافس لاختيار الافضل لاستكمال البناء العلمى للقسم، ليس هذا فقط بل نرى ان يعاد النظر فى هياكل الاقسام وتطويرها تماشيا مع التطور الرهيب فى العلوم أسوة باقسام الجامعات الغربية حيث اصبحت الاقسام بها تحتوى على وحدات ومدارس لها بناء علمى ووظيفى تخدم تخصصات معينة بما يضمن قيام المدارس العلمية والفكرية من جديد ومن ثم جامعة متطورة تحمل عبء مسئولية ملاحقة التطورات العلمية الحديثة، مشاركة فى تطورها ملتحمة بمجتمعها .مجندة فكرها لحل مشاكله بما يحفظ قيمه وأخلاقياته وهويته. لمزيد من مقالات د. أحمد دويدار بسيونى