استقرت نظرية الأمن القومى على أن المقصود به هو قدرة المجتمع على مواجهة مصادرالتهديد من ناحية، والإعلاء من جودة الحياة للمواطنين من ناحية أخري، بهذا المعنى فإن الأمن القومى لم يعد يقتصر على البعد العسكرى وحده أى القدرة العسكرية المرتبطة بحجم الجيوش، وتسليحها وتدريبها، ولكنه يمتد إلى كل من الأبعاد السياسية المتعلقة بالمشاركة والاقتصادية المتصلة بالعدالة الاجتماعية، مؤدى ذلك أن هناك أبعادًا ثلاثة للأمن القومي، وهى القدرة العسكرية والمشاركة السياسية والعدالة الاجتماعية، ولا شك أن الأمن القومى العربي، والذى يتصل بأعضاء جامعة الدول العربية يعنى مجموع الأمن الوطنى لهذه الدول، وأن أى تهديد لأى من تلك الدول ينتقص من مجموع الأمن القومى لها جميعًا، ولقد أدرك العرب الأوائل، عام 1950، هذا المعنى حينما وقعوا على اتفاقية الدفاع المشترك والتعاون الاقتصادى بين أعضاء الجامعة، والتى كان يقصد منها شحذ الهمم العربية مجتمعة فى مواجهة مصادر التهديد التى توجه إما إلى الدول العربية أو إلى إحداها، وقد تمت تجربة هذه المعاهدة فى عام 1964 حينما قرر مؤتمر القمة العربى الثانى بالإسكندرية تشكيل قيادة عسكرية عربية مشتركة مقرها الأردن لمواجهة مشروعات إسرائيل لتحويل مجرى مياه نهر الأردن، كما تم تفعيلها كذلك عامي1962 و1991 لمواجهة الاحتلال العراقى للكويت، بيد أن الدول العربية قد أقلعت عن هذا التفعيل فى مواجهة تهديدات أكثر خطورةً على بقاء دول عربية بعينها، مثل؛ الصومال وليبيا واليمن وسوريا والعراق، مما يؤدى إلى تكريس التهديدات والفشل فى المواجهة الجماعية لها، ويصير السؤال هو كيف تستطيع الدول العربية تحقيق الأمن القومى العربى فى إطار بيئة مركبة ومعقدة على المستوى الدولى والإقليمى والداخلي. وتشير الأدبيات الاستراتيچية العربية المعاصرة إلى أن الإرهاب على مستوياته الثلاثة، سواء منشئًا أو مدعومًا من القوى الدولية أو محتضنًا من قوى إقليمية أو نابعًا من الجماعات المتطرفة داخل تلك الأوطان يشكل المصدر الرئيسى للتهديد، من ثم؛ فإنه يتطلب توحيد الجهود ليس فقط لمواجهته وإنما أيضًا لاستئصاله، كما تشير نفس الأدبيات إلى أن إسرائيل، بقدرتها النووية ورفضها إنشاء دولة فلسطينية عاصمتها القدسالشرقية واستمرار احتلالها للأراضى العربية، هذا فضلاً عن خططها لتطويق دول عربية بعينها، بالإضافة إلى تحالفها الاستراتيچى مع إيران وتركيا، تشكل تهديدًا رئيسيًا للأمن القومى العربي، ومن جانب ثالث؛ فإن التحالف الاستراتيچى بين دول الجوار الثلاث؛ إسرائيل وتركيا وإيران، والذى يستهدف تنفيذ الخطط التوسعية لكل منها على حساب الدول العربية يشكل تهديدًا رئيسيًا آخر للأمن القومى العربي. ويمكن أن نضيف مصادر أخرى وإن كانت أقل خطورة إلا أنها بالقطع تحد من مستوى الأمن القومى العربي؛ فالتحالف الاستراتيچى بين إسرائيل والولايات المتحدة يدعم قوة إسرائيل فى الشرق الأوسط، كما تضيف أزمة المياه فى المنطقة تهديدًا جديدًا لدول عربية عديدة تعانى من الفقر المائي، إذا أضفنا إلى ذلك أن معدلات الفقر المدقع والفقر المطلق تتزايد بين ربوع الوطن العربى بما يتسبب فى تعميق الحرمان الاقتصادى النسبى الذى يشعر به المواطنون، كما أن عزوف المواطنين عن المشاركة السياسية على الرغم من انشغالهم بازدياد معدلاتها فى بلدان أخري، كل ذلك يخلق بيئة معقدة ومتشابكة لصناع القرار العربى عند التعمق فى فهم مقومات ومما يزيد من تعقيد بيئة الأمن القومى العربى قيام الدول الكبرى ودول الجوار الجغرافى بإنشاء ودعم كيانات إرهابية تشكل أشباه دول، وكلها بالقطع تستنزف قدرات الدول العربية؛ فمما لاشك فيه أن داعش بتفريعاتها المختلفة تهدد أمن واستقرار الجبهة الشرقية العربية، كما أن جماعات الإرهاب فى ليبيا، والتى تتصل بقوى الإسلام السياسى تشكل استنزافًا لقدرات وموارد عربية أخري، يضاف إلى ذلك أن تورط إيران وغيرها من القوى الدولية فى الحرب الأهلية على السلطة فى اليمن، وتهديد وحدة السودان، كلها تضيف إلى تعقد بيئة الأمن القومى العربي، وفوق ذلك؛ فإن وصول قيادات أيديولوچية ومحافظة فى عدد كبير من الدول الكبري؛ كالولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا وغيرها، تضيف بالقطع إلى البيئة المعقدة والمتشابكة فكيف إذًا يمكن تحقيق الأمن القومى العربى فى هذه البيئة؟ لن يفيد التأكيد على حتمية إحياء معاهدة الدفاع المشترك بين الدول العربية لأن هناك دولاً عربية، ولأسباب أنانية، تعارض ذلك وتلجأ إلى إنشاء تحالفات عسكرية وهمية تشكل عبئًا على الأمن القومى العربي، وليس سندًا له، بينما ترحب دول أخرى بإعادة دعوة حلف الناتو للتدخل عسكريًا ضد داعش سوريا والعراق وداعش ليبيا، ومن نافلة القول التذكير بالدور التخريبى لحلف الناتو فى ليبيا ولدور بعض أعضائه فى إنشاء وتسليح داعش، هذا فضلاً عن أن التدخل العسكرى الأجنبي، مهما كانت صورته وسمته وأهدافه، يشكل تهديدًا مباشرًا للأمن القومى العربي، من ثم فإن هناك سياسات أمنية ينبغى اتخاذها للحفاظ على ما تبقى من الأمن القومى العربي، يأتى على رأسها الاتفاق بين الدول العربية على التهديدات الرئيسية السابق الإشارة إليها، والتى تمس الجميع دون تمييز، وربما يكون من المفيد أن يجتمع رؤساء أركان الجيوش العربية لمناقشة استراتيچيات وخطط فورية جماعية لمواجهة تلك التهديدات، كما يصير من الضرورى التوجه إلى الشباب العربي، الذى يشكل القوة الفاعلة للنظام الإقليمى العربي، بقصد دفعه إلى المشاركة الفاعلة فى النظم السياسية، كما أنه على كل نظام سياسى عربى أن يحاول قدر الإمكان تحقيق الحد الأدنى من العدالة الاجتماعية لخلق توازن داخلى يدعم الاستقرار السياسى كأساس للأمن القومى العربي. لمزيد من مقالات د. عبد المنعم المشاط