ليس في هذا المقال تعقيب علي حكم قضائي معين, وهو يصدر عن احترام وتبجيل فائقين لمؤسسة القضاء المنصف والمستقل تماما باعتباره ركنا ركينا للحكم الديمقراطي السليم ومناط إقامة العدل وهو من القيم العليا للحضارة العربية الإسلامية, وغاية نبيلة للإنسانية منذ بدء الخليقة. وينصب التبجيل أيضا علي قضاة مصر الأجلاء, الذين يحفل بهم تاريخ مصر الحديث ويحتفي, وعلي رأسهم الآن المستشار الجليل, رئيس المجلس الأعلي للقضاء, المخاطب هنا بمناسبة بيانه الأخير المقدر والمحترم وإن ترك في نفس الكاتب شيئا دفعه إلي كتابة هذا المقال. في مقال سابق في الموضع ذاته أكدت أن القضاء هو أحد أهم مؤسسات الحكم في المجتمعات البشرية المتحضرة, والقضاء المستقل المنصف إحدي دعائم نسق للحكم المؤسسي الصالح. والقضاء, مؤسسة وقيمة, أيضا من أعز ما يملك الشعب, ويعلق عليه الآمال في صيانة الحرية والعدل والكرامة الإنسانية. ومن ثم فإن الحرص علي قيام قضاء منصف ومستقل يتجاوز القضاة أنفسهم إلي الشعب قاطبة. وعليه, فإن القضاء مقدس كمؤسسة وكقيمة, خاصة إن كان نزيها, منصفا ومستقلا تمام الاستقلال. وتزداد أهمية القضاء المنصف بعد ثورة شعبية رائعة اندلعت في مواجهة ظلم وفساد فاجرين. غير أن القاضي الفرد ليس معصوما من الزلل, فهو بشر يخطئ ويصيب. ويزيد احتمال زلل القاضي عندما ينتقص الحكم التسلطي عمدا من استقلال القضاء, ويخضع القضاة لإمكان الثواب والعقاب من السلطة التنفيذية, ويتفشي الفساد في المجتمع, والقضاة منه مكون عضوي. وليس أدل علي ذلك من استمرار قاض كبير في منصبه وفي عضويته باللجنة القضائية للانتخابات الرئاسية المحصنة من أي اعتراض علي قراراتها علي الرغم من قيام دلائل مفحمة ومعلنة علي ارتكابه لجريمة التدخل في قضية منظورة أمام القضاء ومحاولة التدخل في مسار القضية ثم الضلوع في فضيحة تهريب متهمين أجانب بطريقة أهدرت كرامة الوطن لقاء مقابل مادي هزيل, عادت الولاياتالمتحدة وخصمته من معونتها للسلطة في مصر, وبتلاعب قانوني معيب. غير أن القضية التي أود طرحها أهم من هذا وأخطر. لقد كتبت مرارا, وأكد علي مقولاتي كثير من النخبة المصرية, أنه يستحيل عقلا وحكما أن توظف قوانين, وشخوص, منظومة قانونية وقضائية أقامها اساطين نظام حكم تسلطي فاسد, وسدنته القانونيون من أفسد خلق الله, لضمان الإفلات من العقاب عن الجرائم التي يرتكبون في حق الشعب والوطن, وكم كانت جسيمة! وكان زعمنا, وما زال, أن مقتضيات العدل والقصاص تتطلب, بدلا عن ذلك, نسقا من العدالة الثورية الانتقالية الناجزة. وكنا نرتاب في أن إصرار السلطة الحاكمة المكابر منذ إسقاط رأس النظام الساقط علي اللجوء لهذه المنظومة كان يقصد إلي ضمان إفلات مجرمي النظام الذي قامت الثورة لإسقاطه, من العقاب عما ارتكبوا من شنيع جرائم في حق الوطن والشعب. وقد صار! في هذا المنظور, ومصداقا للزعم السابق, فإن القضية التي أود أن أضعها تحت نظر المستشار الجليل المخاطب, وباقي قضاة مصر الأجلاء الشوامخ, هي أن منظومة القضاء المصري, اتهاما ومحاكمة, قد فشلت فشلا ذريعا حتي وقت الكتابة, في القصاص العادل لشهداء الثورة الشعبية العظيمة ومصابيها. ومن ينظر في مغزي هذا الفشل يفزع من الاستنتاج الذي لا مفر منه أن أحدا في السلطة لم يصدر أمرا بإطلاق النار علي المتظاهربين السلميين وسحقهم بالمدرعات أيام الثورة الشعبية العظيمة أو بعدها وأن لا أحد من أجهزة الأمن قام بتنفيذ ذلك الأمر, أو تطوع مبادرا, معملا القتل والإصابة المعيقة في بعض من أطهر شعب مصر. وجلي أن هذا الاستنتاج يجافي كل منطق سليم. ولكن العاقبة الأخطر هي في إعطاء الضوء الأخضر, وإضفاء حصانة من العقاب, لمن يرتكبون مثل هذه الجرائم الشنعاء في المستقبل حال استمرار الحكم التسلطي في مصر. ما يعني إتاحة غطاء قانوني لإطراد القمع لحق التظاهر السلمي المكفول دستوريا في مصر, باستعمال أبشع الوسائل الدموية. لا ريب في أن السلطة التنفيذية القائمة لعبت أدوارا مشينة في إخفاء وتدمير الأدلة بما غل يد النيابة العامة, ومن بعدها القضاء, بل مكنت بعض المتهمين الرئيسيين من إفساد الأدلة وتدميرها من خلال إبقائهم في مناصبهم الحساسة التي تسمح لهم بالتلاعب بالأدلة حتي بعد اتهامهم. ولكن قصرت النيابة العامة والقضاء في إقامة الدعاوي علي هؤلاء, وقصر القضاء في استكمال تحقيقات النيابة من خلال تعيبن قضاة تحقيق مستقلين. ولهذا, ومن دون إعفاء باقي المنظومة, فلعل الوزر الأكبر في إفلات المجرمين عن جرائم قتل وإصابة المتظاهرين, قبل الثورة وبعدها, من العقاب بواسطة منظومة القضاء المصرية يقع علي النيابة العامة, في تكييفها للقضايا وقرارات الإحالة بما يغل يد القضاة في الحكم بما يحقق القصاص والعدل. ولها سابق سجل في هذا التهاون أو التقصير في ظل النظام الساقط, ونشير فقط إلي تكييف النيابة لقضية إغراق أكثر من ألف مصري في العبارة السلام كمجرد جنحة ما أفضي نهاية إلي إفلات المجرمين من العقاب الواجب. لذلك يتعين في تقديري في الدستور القادم حظر تعيين النائب العام من قبل السلطة التنفيذية. في التصورات الديمقراطية, إما أن ينتخب النائب العام من الناس مباشرة, أو علي الأقل يرشحه المجلس الأعلي للقضاء ويوافق عليه من قبل المجلس النيابي المنتخب. لم تحم السلطة التنفيذية القائمة, ومنظومة القضاء, مجرمي النظام الساقط من العقاب العادل فحسب. بل أبقت علي غالبية عمد نظام الحكم التسلطي الذي قامت الثورة الشعبية العظيمة لإسقاطه, ولم تنجح بعد, أببقت عليهم طليقي اليد بحيث يسهمون بفعالية في الكيد للثورة, والعمل علي استمرار النظام الساقط, ولو بتغيير بعض الوجوه. ولا شك في أن مجلس الشعب الراهن قد قصر بالتباطؤ في إصدار قانون جامع مانع للقضاء يضمن له الاستقلال التام والكفاءة في الوقت نفسه. ولكن أمل الشعب المصري كبير في أن يطهر القضاء ثوبه الناصع من بعض ملطخيه, وأن تعيد منظومة القضاء المصري الحقوق لأصحابها, وخصوصا تحقيق القصاص العادل لشهداء الثورة الأبرار ومصابيها, ممن ارتكبوا هذه الجرائم, أيا من كانوا. ويكتمل هذا الإنجاز بالقصاص للوطن والشعب بكامله من مجرمي نظام الحكم التسلطي الذي دمر الاقتصاد المصري ونهبه وأفسد الحياة السياسية, والحياة جميعا, علي البلاد والعباد والأمل الأكبر هو أن تتضافر مؤسستا القضاء والمجلس النيابي علي ضمان الاستقلال التام للقضاء وتمكينه من تمام تمتع الشعب كله بغاية العدل السامية في المستقبل القريب. المزيد من مقالات د . نادر فرجانى