أفردت «مجلة لوموند» الصادرة هذا الشهر ملفا كاملا عن أهم العروض الفنية التى شهدتها فرنسا عبر تاريخها، وأكدت أن حفل السيدة أم كلثوم فى عاصمة النور سنة 1967 كان واحدا من أهم هذه العروض على الإطلاق.ففى 13 نوفمبر 1967، ظهرت على مسرح الأوليمبيا اكثر من مجرد مطربة بل ايقونة للشرق, أهدت بعد بضعة أشهر من حرب الأيام الستة، قصيدة غنائية للعالم العربى كله. لم يسهر الأوليمبيا ابدا حتى هذا الوقت المتأخر من خريف 1967 فقد كانت الساعة الواحدة صباحا وربما الثانية ولكن الجمهور لا يبالي. فى وقت كهذا باريس كلها تعتبر فى حالة سبات ولكن داخل المسرح ذى الكراسى الحمراء و فى مثل تلك الليلة ..الأمر كان مختلفا تماما..فالحضور مسحور وعلى استعداد للبقاء طوال الليل للاستماع إلى «السيدة» أم كلثوم القادمة من القاهرة والتى كانت تغنى وتغنى وتغنى اغنية لا نهاية لها وليتم تمديد وقت نزول الستار وسط هتافات الحشد الموجود. ............................................................................. أم كلثوم وحفل فى الأوليمبيا هل كان هذا الحفل يستحق ان يسجل فى ذاكرة التاريخ مثلما هو الحال اليوم..الاجابة هى نعم.. لأننا اذا اردنا مشهدا يجسد حياة هذه «الديفا» المصرية وهو لفظ شاع في معظم اللغات الأوربية للدلالة على المطربات «معبودات الجماهير» اللواتي يتمتعن بصوت عظيم يشبه ترانيم الجنة. فلن نجد افضل من هذا الوصف لصوت أم كلثوم. انه مشهد غزل الكثير من القصص والأسئلة حوله. هل حضر الجنرال ديجول متخفيا؟ تخيل للحظة «شارل العظيم» موجودا ومختبئا فى ظلام هذه القاعة ..بنظارات سوداء وبعيون تنصب على المسرح..ولكن الحقيقة كانت اقل رومانسية ولكن مليئة بالمفاجآت. وعن الملابسات والظروف التى جاءت فيهما هذه الزيارة التاريخية, يحكى «برونو كوكاتريكس» مالك ومدير صالة الأوليمبيا فى ذلك الوقت, ان مؤسستة انتهجت ابتداء من اواسط الستينيات سياسة الانفتاح على موسيقى العالم تحقيقا للتنوع, وحدث ان زار كوكاتريكس فى اوائل عام 1966 القاهرة, والتقى وزير الثقافة المصرى آنذاك. فتحدثا عن الأوليمبيا والأبعاد التى اصبحت تحتلها فى الترويج للفن الراقى فى العالم, فبادر الوزير المتعهد الكبير..لماذا لا تدرجون ام كلثوم ذات المجد الوطنى فى برنامجكم فى الأوليمبيا؟ ..فوجئ كوكاتريكس بالطلب واخذ يستعلم عن ام كلثوم من محاوره...إن «كوكاتريكس» كان لا يعلم من هى « أم كلثوم» ، فسأل وزير الثقافة وقتها، هل هى فنانة استعراضية، فأجابه قائلاً : « أم كلثوم مطربة عظيمة وسوف تعلم مكانتها عندما تغنى على مسرح الأوليمبيا. وعلم انها اكبر صوت عربى على قيد الحياة وتعتبر بمثابة ايقونة للشرق وان اجماع العرب من الرباط الى دمشق منعقد على حب وتقدير فنها والكل ينتظر حفلها الشهرى ويرابط ليلة الخميس بجوار الراديو فى البيوت والمقاهى والأسواق للاستماع الى «صوت العسل» الى «الست» ام كلثوم كما يطلق عليها. تلك السيدة التى كانت دائما ما ترتدى نظارات ملونة لتحمى عينيها الضعيفتين وثوبا طويلا غالبا من «شانيل». هي...التى اطلقت عليها الصحافة الكثير من الألقاب والأسماء..فهى «كوكب الشرق» و«الهرم الرابع» و«عندليب القاهرة» و«السيدة» لتكون بمثابة معبودة للفقراء والأغنياء وللرجال والنساء على حد السواء. هذه المعبودة... ولدت فى قرية صغيرة قرب مدينة المنصورة تسمى «طماى الزهايرة»، من ام فلاحة مصرية تعلمت منها الاستقلال والايمان, ووالد أم كلثوم الشيخ ابراهيم البلتاجى إمام مسجد القرية، وإضافة لقراءته القرآن الكريم كان يحفظ الكثير من القصائد العربية والتواشيح الدينية التى كان أهل القرية والقرى المجاورة يدعونه لإنشادها فى المناسبات الدينية والاجتماعية, وقد حفظت أم كلثوم عن والدها ذلك. عام 1917 بدأت أم كلثوم الغناء وهى فى الثالثة عشرة من عمرها مع فرقة أبيها متجولة فى القرى والأرياف ، غالبا سيرا على الأقدام ، كمنشدة للتواشيح الدينية و القصائد ، وكانت ترتدى زى صبى و متشحة بعقال على رأسها لتهدئة مخاوف الأب. وسرعان ما ظهرت موهبة أم كلثوم فأصبحت منشد الفرقة الأساسي, وغنت فى القاهرة لأول مرة عام 1920 لتنطلق بعد ذلك فى طريق الفن. وفى عام 1922 انتقلت إلى القاهرة، وكونت أول تخت موسيقى لها فى عام 1926، وكانت نقطة انطلاقها عندما تعرفت على الشاعر أحمد رامى ثم الملحن محمد القصبجي. ثم التحقت بالإذاعة المصرية عند إنشائها عام 1934، وهى أول فنانة دخلت الإذاعة، وشاركت فى عدة أفلام فى الثلاثينيات والأربعينيات كان آخرها فيلم «فاطمة» عام 1947، لتتفرغ بعدها للغناء فقط. الفنانة الأعلى أجرا فى تاريخ الأوليمبيا «برونو كوكاتريكس» اراد ان تكون فرنسا أول دولة غربية تستضيف كوكب الشرق. فذهب إلى فيلتها فى الحى الراقى الزمالك, ليقترح اقامة حفلين يومى 13 و 15 نوفمبر 1967, ومعه الشاب المصرى محمد سلماوى الذى يتحدث الفرنسية, لترجمة ما تقوله السيدة ام كلثوم..هذا الشاب اصبح بعد ذلك صحفيا وكاتبا كبيرا واسما مشهورا. طالبت كوكب الشرق بأجر اعلى من اديث بياف, مطربة فرنسا الأولى وهو يعادل حوالى 250 الف يورو فى يومنا هذا بما فى ذلك الاقامة فى فندق خمس نجوم وذلك حتى تحظى فرنسا بشرف ان تكون الدولة الأوروبية الوحيدة التى تحظى بها ضمن جولة غنائية عالمية تقوم من خلالها بزيارة كل من السودان والمغرب وتونس. وليستشعر كوكاتريكس الخطورة التى اقدم عليها. وقد جاء على لسان « كوكاتريكس» فى أحد الحوارات التليفزيونية عندما عاد إلى فرنسا لتجهيز الحفل الحاشد : عدت إلى فرنسا واضطررت لرفع ثمن التذاكر، إلا أن غالبية العرب فى فرنسا كانوا من العمال المهاجرين خاصة من شمال إفريقيا مثل عمال البناء وغيرهم، ممن لا يستطيعون شراء التذكرة المقدر ثمنها ب 300 فرنك، نظرا لمستواهم المادى المحدود. وعندما حدثت نكسة 1967، ظن «كوكاتريكس « أن ام كلثوم لن تحيى الحفلتين المتفق عليهما ، إلا أنه فوجئ بإصرارها على إحياء الحفلات ، ولم يكن على دراية بأنها سوف تتبرع بأجرها للمجهود الحربى ، وبدأ فى طرح التذاكر للبيع، وبعد مرور شهرين لم تبع التذاكر، فشعر « كوكاتريكس» بالندم وقتها، على الاتفاق مع أم كلثوم لإحياء حفل على مسرح « أوليمبيا» ، واعتبرها صفقة خاسرة ضمن صفقات كثيرة ناجحة. وكان قد اتفق مع أم كلثوم على أن تصل إلى فرنسا قبل الحفل ب 4 أيام، وعندما وصلت طلب من التليفزيون الفرنسى وقتها إجراء حوار معها، وتم إذاعة الحوار فى نشرة الأخبار مساءً، وفى اليوم التالى للحوار التليفزيوني، فوجئ « كوكاتريكس» بتزاحم كبير من قبل المواطنين يقدر بالمئات أمام شباك التذاكر ، بالإضافة إلى طائرات قادمة من ألمانيا وإنجلترا، كما توافدت طائرات على متنها أمراء الخليج لحرصهم على حضور حفل أم كلثوم، وخلال يومين نفدت التذاكر . ولعل من المواقف الطريفة أيضاً عندما سأل «كوكاتريكس» أم كلثوم عن عدد الأغنيات التى ستقوم بغنائها فى الحفل، فأجابته قائلة « 2 أو 3 على الأكثر»، مما أثار القلق لديه، ودار فى ذهنه تساؤل، كيف تقدم أم كلثوم 3 أغنيات فقط ؟، خاصة وأن زمن الأغنية فى فرنسا لا يتعدى ال 3دقائق، فظن أن أم كلثوم سوف تنهى فقرتها فى زمن يقل عن 20 دقيقة، إلا أنه فؤجئ بأن أغنية أم كلثوم تستغرق أكثر من ساعة زمنية. وصول الحشود فى تمام الساعة التاسعة و 25دقيقة رفع الستار....الموسيقيون فى حلة سوداء, و تجلس أمامهم، السيدة ام كلثوم وهى فى منتهى الأناقة بفستان أخضر، ومنديل فى يدها اليمني, وبمجوهرات تسطع تحت الأضواء. وفقا للطقوس الثابتة فى حفلاتها كانت تنتظر وهى جالسة على المسرح انتهاء المقدمة الموسيقية ثم تنهض وسط تصفيق من الحشود الموجودة. «لقد عاش هذا المكان العديد من الأمسيات التى لا تنسي: بياف, بيكو والبيتلز ولكن هذة المرة اهتز المسرح بطريقة جديدة. وبدلا من الاحساس بالهزيمة ..كان صوت ام كلثوم تجسيدا لمصر المنتصرة». ممثل فرنسى يعتنق الإسلام ولقد تحدث الممثل الفرنسى «جيرار ديبارديو»، فى كتابه «البريء» عن أسباب اعتناقه الإسلام, وفيما يتعلق بحياته الروحية، حيث قال ديبارديو إن أغانى المطربة المصرية أم كلثوم ألهمته للتعرف بالقرآن الكريم، ومن ثم اعتنق الإسلام. وفى تفاصيل القصة، أن جيرار ديبارديو حضر الحفل الذى أقامته كوكب الشرق أم كلثوم على مسرح الأولومبيا الشهير عام 1967 بصحبة أصدقاء له مسلمين، وأثر صوتها الشجى فيه بشكل كبير وبعد هذه الحفلة قرر اعتناق الإسلام. «غنت السيدة ام كلثوم لمدة خمسين دقيقة اغنية «انت عمري» ثم اخذت استراحة. انخفض الستار و جلست على كرسيها لويس السادس عشر لتتحدث الى الموسيقيين» يحكى محمد سلماوى . وفى الحادية عشرة والنصف عادت إلى المسرح لتقديم أغنيتها الثانية «الأطلال», وبعد استراحة آخرى قدمت اغنيتها الثالثة «بعيد عنك» ليسدل الستار الساعة 2:35. اما ما اثار اندهاش كوكاتريكس هو وجود أكثر من 55 يهودياً من المغاربة مما أشعره بالقلق وقام على أثر ذلك بتكثيف الحراسة وتعزيز الأمن، إلا أنه فوجئ بأن اليهود فى حالة انتعاش مثل الجميع ، وفى حالة صمت للاستماع لصوت كوكب الشرق ، بالإضافة لقيامهم ب «التصفيق والتصفير» ، تعبيراً عن إعجابهم الشديد بها.. فتوجه إليهم على الفور وطرح تساؤلا .. كيف تعشقون صوت أم كلثوم لهذه الدرجة وهى تغنى بضرورة التصدى لليهود ومحاربتهم ؟ ، فأجابوه قائلين : « أم كلثوم أعظم مطربة فى التاريخ» ولا يمكن إنكار هذا وهى تمتعنا بفنها وطربها الأصيل وهذا أمر لاعلاقة له بالأمور السياسية. وقد تعرضت الست لأحد المواقف المحرجة فى حفل يوم 15 نوفمبر، أثناء إحيائها لحفلها الثانى فى باريس...الذى بدأته بأغنية «امل حياتي», ثم «الأطلال» ثم «فات الميعاد» .حيث قام أحد المعجبين بالركض والصعود على خشبه المسرح ، من أجل تقبيل قدم الست، وهى مندمجة تمامًا فى الغناء، وعندما حاولت أبعاده عنها، وقعت الكارثة، وسقطا معًا على الأرض. وكانت هذه هى رحلة كوكب الشرق الأولى إلى باريس ، وقال عنها « كوكاتريكس» مدير مسرح « أوليمبيا»: أم كلثوم تستطيع ترويض الجمهور وجاء ذلك بعد النجاح الساحق الذى حققته فى هذه الحفلة. برقية من ديجول وعقب انتهاء حفل أم كلثوم، كُتبت عنها العديد من المقالات الصحفية فى فرنسا، بالإضافة إلى ظهور العديد من الكتب، وفوجئت ب» شارل ديجول» ، رئيس فرنسا آنذاك يرسل إليها برقية تهنئة ويقول لها فيها: « مرحبا بك فى فرنسا..حققتى نجاحاً عظيماً، وانت تقدمين فناً راقيا .. وتقاليد فنية لها أصول وجذور فى التاريخ.. ونحن نرحب بك فى بلدنا». لم تنته رحلة فرنسا عند هذا الحد فقط، ولم يتوقف الاحتفاء بأم كلثوم فى فرنسا طيلة أسبوع بعد حفلتها، حتى إن كبرى المجلات والصحف الفرنسية خصصت صفحات داخلها من أجل الست، من بينها جريدة «لوموند» التى قالت فى عنوانها: «عندما تغنى آلهة الفن المصرى أم كلثوم تهتز الرءوس من شدة النشوة، كما تهتز أغصان النخيل على النيل»، وأضافت: «حققت للمسرح أكبر دخلٍ فى تاريخه الطويل». واستكملت الصحيفة حديثها : «استطاعت ملكة الغناء العربى أن تسيطر على قاعة الأوليمبيا، وتضع جمهورها تحت سحرها لمدة أربع ساعات. جاذبيتها كامنة فى صوتها الملاطف القوى الحنون، النقى كحبات الكريستال، إنها لا تجذب وتسحر رواد المسرح والمستمعين، وإنما تسحر كل فرد على حده، وتخلق وحدة واندماجا كاملا بين خشبة المسرح والصالة. أغانيها الشاعرية وأداؤها الفريد يثير تنهدات البعض ودموع الآخرين». دعم ام كلثوم للمجهود الحربي رفعت أم كلثوم بعد النكسة شعار الفن من أجل المجهود الحربي»، وقالت «لن يغفل لى جفن وشعب مصر يشعر بالهزيمة». وتسابق أدباء وفنانو مصر ليحذوا حذو أم كلثوم، مع قادة مصر وزعمائها فى التبرع، ضمن حملة خاصة لدعم المجهود الحربي، التى هدفت إلى دعم قدرات الجيش المصرى وتعزيز إمكاناته. وكان حفل دمنهور أول هذه الحفلات، أقيم الحفل فى سرادق ضخم وحضره حوالى 3500 مستمع، دفعوا 39 ألف جنيه هى حصيلة هذا الحفل. كما أقيم حفل الإسكندرية فى أغسطس 1967 ،وبلغ إيراد هذا الحفل 100 ألف جنيه، وحققت فى حفلها بمدينة المنصورة بمحافظة الدقهلية 125 ألف جنيه، وفى حفلها بمدينة طنطا بمحافظة الغربية حققت 283 ألف جنيه. اما حفلها بفرنسا فقد حقق 212 ألف جنيه استرلينى لصالح المجهود الحربي, وغنت بعد ذلك فى تونس بحضور رئيسها آنذاك الحبيب بورقيبة فى استاد العاصمة، وفى المغرب غنت بحضور ملكها الحسن الثاني، وفى الخرطوم بحضور كل القيادات السياسية السودانية، وفى لبنان،وليبيا،وإمارة أبو ظبي، ولم ينته عام 1970، إلا وقد أودعت أم كلثوم فى الخزينة المصرية 520 ألف دولار.