استبعاد إيهاب عبد الرحمن من الإشتراك فى الدورة الأوليمبية أهدر على البعثة المصرية فرصة ميدالية ممكنة ، ولن أقول مؤكدة، لكن هذا الاستبعاد يثير قضية فى غاية الأهمية : من بعد إيهاب عبد الرحمن؟ إن من بين أفضل عشرة رماة للرمح فى العالم 2 من ألمانيا و2 من فنلندا .. ويمكن أن تجد سلسلة من الممارسين تقترب أرقامهم من أرقام الابطال .. فمن هو الرامى الذى يلى عبد الرحمن ؟ تلك قضية رياضية مهمة للغاية .. ( 1 ) العالم تغير وانتقل من صناعة الحركة بقوة البخار إلى عصر الذرة ، ومن قانون قوة الدفع الذى صنع المحرك النفاث إلى زمن الوقود الجاف ووقود الأوكسجين السائل الذى يدفع الصاروخ ومن سرعة الضوء إلى الفيمتو ثانية .. ومن عصر «القوة الفطرية» فى الرياضة انتقل العالم إلى صناعة الأبطال بكل مافى الصناعة من مواد خام وعلم وتطوير وتكنولوجيا وجودة وجدية وإخلاص ومال وإدارة . يجب ألا تخدعنا إنتصارات وإنجازات فردية ولحظية ، خاصة أن الإنجازات تبدو مرتبطة بتوفيق فرد وليس بتنظيم مجتمع، إن التفوق على المستوى العالمى والدولى يعنى الوجود على منصات التتويج معظم الوقت مثل بئر ماء يفيض ويروى مع كل دورة أو بطولة . إن القضية التى يجب أن تشغلنا فى السنوات القادمة هى كيفية بناء رياضة حقيقية وتوسيع قاعدة الممارسة من أجلالإنطلاق إلى البطولة .. ( 2 ) أصبحت الأندية هى المكان الطبيعى لأفراز المواهب، وهى جوهر الحركة الرياضية المصرية الأن . وتمثل القاعدة العريضة للممارسة من خلال الأعضاء وأسرهم . وقد إنتشرت فى الأندية المصرية مدراس اللعبات المختلفة التى يشارك بها أبناء الأعضاء نظير مصروفات شهرية . ويصل عدد الأطفال الذين يمارسون رياضات مختلفة فى النادى الأهلى إلى 10 آلاف ، ويصل عدد أبناء الأعضاء فى أندية أخرى إلى 20 ألفا وهذا بديل لابأس به لدور الرياضة فى المدارس المكلفة الآن بنشر معانى وقيم الرياضة وأهدافها الحقيقية بعد أن ضاقت الساحة على الممارسة .. ومعظم الأندية المصرية التى تأسست فى مطلع القرن العشرين وبعد الثورة لم تعد كافية ، وتعانى من عدم قدرتها على استيعاب أعداد العضوية المتزايده . ( أكرر فى ألمانيا 90 ألف ناد وفى مصر لايزيد على 1200 وتعداد مصر أكبر من تعداد ألمانيا ، وأضع فى الإعتبار الفارق الإقتصادى طبعا ) وهناك الكثير من الأندية المصرية التى أغلقت باب العضوية ، وأندية أخرى بات الفوز بعضويتها فوق طاقة المواطن المصرى حيث تصل قيمة الإشتراك إلى 600 ألف جنيه فى نادى النخبة ، وتصل القيمة فى أندية أخرى إلى 350 ألفا و250 ألفا .. فكيف نواجه هذه المشكلة ؟ ( 3 ) منذ أكثر من عشرين سنة تناولت فى مقالات أهمية إنتشار وبناء الأندية الخاصة ، ولقدإنتشرت الأندية الخاصة و يتجاوز عددها 50 ناديا ، وهنا لابد أن تشجع الدولة القطاع الخاص على بناء الأندية وتأسيسها ، ولامانع من تنوع هذه الأندية فيكون بعضها للقادرين الذين أغلقت أمامهم أبواب العضوية فى الأندية القائمة . وتحكم أسعار السوق كل شىء بالنسبة لهذه الأندية ، سواء من ناحية سعر الأرض ، أو تكلفة الكهرباء والمرافق ، بجانب عدم تقديم الدولة لأى دعم لتلك الأندية . وبمنطق السوق يظل الأمر خاضعا للعرض والطلب ، ولقيمة المنتج والخدمات التى يقدمها النادى إلى الأعضاء .. لكن بناء الأندية الخاصة يجب أن يتضمن فلسفة أخرى بحيث يكون بعضها متاحا لغير القادرين وبإشتراكات ملائمة .. وتشجيع الدولة هنا يجب أن يتضمن تقديم أسعار مناسبة للأرض ، ومدها بالخدمات والمرافق ، وأن يكون التصريح بتأسيس وبناء أندية مدروسا ووفقا لخطة جغرافية وإقليمية واسعة بحيث يجب أن تتراوح رسوم عضويتها بين ألفى وثلاثة آلاف جنيه بجانب إشتراك سنوى لايزيد على 300 جنيه للأسرة وهذا على أساس أن سعر متر الأرض مدعوما، وأن المستثمر الخاص فى هذا النادى لن يتحمل أعباء المرافق وتفرض الدولة الرقابة على تلك الأندية بوسائل متعددة، وسائل فنية تتعلق بالنشاط الرياضى والإجتماعى ووسائل مالية تتعلق بالإشتراكات وأسعار الخدمات .. وهو أمر يسير تحكمه القوانين كما فى حالات المصانع والمدارس الخاصة والجامعات الخاصة والصحف الخاصة .. فماهو الفارق فى دور الدولة الرقابى ( ضع هذا الدور الرقابى بين قوسين ) بين الجامعة والمدرسة والمصنع الخاص والصحيفة الخاصة وبين النادى الخاص ؟!.. ( 4 ) الدولة أيضا أمامها خيار أخر لتوسيع قاعدة الممارسة، بإنشاء المراكز الرياضية المتخصصة. على قطع أراض محدودة المساحة، فى كل بقاع مصر ومحافظاتها . فتكون هناك مراكز للسباحة وألعاب الماء فقط . ومراكز لكرة القدم. ومراكز للتنس والإسكواش. ومراكز لكرة اليد وهكذا.. وكل مركز يتضمن بضعة ملاعب وغرف ملابس وإدارة والمساحات تتراوح بين فدانين وخمسة أفدنة . ويمكن السماح للقطاع الخاص بإنشاء تلك المراكز على أن تقنن قيمة الإشتراكات وأسعار التدريب.. أو تترك للعرض والطلب وفقا لقيمة الخدمة ونوعية التدريب .. لكن للدولة دور آخر وهو دور ممارسة الشباب للرياضة كنشاط ترويحى أو لقضاء أوقات الفراغ، وهذا الدور تمارسه الدولة من خلال مراكز الشباب بالدرجة الأولى وتتحمل الوزارة أعباء هذه الخدمة بالكامل بلا مردود مادى أو ربحى . وبالطبع تنفق فى بعض الأحيان الكثير من الأموال فى مراكز الشباب على موظفين أو نشاط كشفى وشبابى لاعلاقة مباشرة بينه وبين المفهوم الرياضى ولا أثر للعائد الاقتصادى لكن العائد الأهم هو العائد الاجتماعى والصحى بالنسبة لعلاقة الدولة بمراكز الشباب والتى شهدت فى الآونة الأخيرة مرحلة إصلاحية بالنسبة للمنشآت والملاعب . ( 5) الآن علينا أن نسأل أنفسنا : كيف نمارس الرياضة؟ كيف تجرى مسابقاتنا المحلية فى لعبتنا الشعبية الأولى وهى كرة القدم ؟ كيف ننتقى المواهب ونبنى الملاعب ؟ كيف يعيش المدرب حالة التدريب على مدار الساعة ؟ كيف يستعين بأحدث وسائل التدريب المساندة ؟ كيف يسجل القياسات والإحصائيات عن لاعبيه ؟ كيف نرفع مستواه ببعثات لسنوات فى الدول المتقدمة رياضيا لينقل لنا مانقله رفاعه الطهطاوى منذ عشرات السنين ؟ كيف نمارس الرياضة باستمتاع وليس بغضب ؟ كيف نحول الرياضة إلى سلعة مربحة ؟!.. إن أرقام الممارسين للرياضة فى مصر مخيفة لقلتها .. وهى لاتناسب التعداد السكانى ولاوجه للمقارنة بين أرقام الممارسين فى أوروبا وأمريكا مثلا وبينها فى مصر.. ففى الولاياتالمتحدة التى تعد فيها كرة القدم جديدة هناك 18 مليون لاعب وفى المرتبة الثانية تأتى إندونيسيا 9 مليون لاعب ثم المكسيك 7٫2 مليون لاعب وفى الصين 7٫2 مليون لاعب وفى ألمانيا 6٫3 مليون لاعب وفى إنجلترا 2٫5 مليون لاعب . وتلك قضية يطول فيها الحديث ، فهناك تأثيرات سلبية مثل المستوى الثقافى، والمعيشى، والإقتصادى، وهل الرياضة نشاطا أساسى أم نشاط ترفى بجوار البحث عن وظيفة سكن وعن مكان فى المدرسة ومكان فى الجامعة ومكان فى مستشفى ؟ ومع ذلك الفروق فى الأرقام بعيدة جدا.. فعدد الممارسين للسباحة فى ألمانيا يتجاوز 15 مليون سباح وعدد لاعبى رياضة التنس فى الولاياتالمتحدة يتجاوز الآن 22 مليون لاعب وهو أضعاف عدد الممارسين لكرة القدم فى جميع الدول العربية.. فالرياضة فى دول العالم الأول جزء من السلوك اليومى للمواطن و الرياضة عموما أصبحت مشروعا إقتصاديا ، ونحن نتحدث عن ذلك منذ الثمانينيات من القرن الماضى، وصغنا دراسات ومقالات فى هذا الأمر. فقد باتت الأنشطة الرياضية على كل المستويات وفى كل دول العالم تدار بالمفهوم الاقتصادى ووفقا لمعادلة بسيطة تقول: «صناعة البطل مكلفة ماديا لكن البطولة تدر مئات الملايين من الدولارات ولايمكن أن تتحقق الأرباح المادية بلابطولة وبلاتفرد أو تميز من الفرد أو الفريق».. فهل الرياضة المصرية فى جميع مواقعها ومستوياتها تدار بالمفهوم الإقتصادى.. هل تربح كرة القدم مثلا أم أنها لعبة خاسرة ومفلسة ؟ هل يمكن أن تستمر ظاهرة»: مصنع يخسر.. وعمال يربحون ؟! ( 6 ) إن كرة القدم المصرية تعيش فترة تحول كبيرة استغرقت زمنا طويلا للغاية ، ويدهشك أن يدوم التثاؤب 25 عاما . فمنذ تطبيق نظام الإحتراف المباشر أو المستتر لم يهضم القائمون على إدارة شئون اللعبة التغييرات التى طرأت والتى يجب أن تطرأ وقد باتت الحاجة ملحة إلى فكر جديد فكر يساير الزمن والعصر ومنه هذا الخيط الذى يفصل بين الهواية والاحتراف وبين اللعبة كصناعة وبين اللعبة كترويح وبين دور الاتحاد وبين حقوق الأندية. وهو ماترتب عليه هذا الارتباك وهذا التداخل وهذا التخبط فى القرارات والتوجهات. وقد أشرنا من قبل إلى أن كرة القدم المصرية تعانى من المدرجات الخالية والخزائن الخاوية وغياب الملاعب، وغياب المواهب، وغياب التدريب العلمى، وغياب البهجة. وغياب النظرة المستقبلية.. وأنها تعيش مرحلة شديدة العجب حيث تخسر الكثيرمن الأندية كما تخسر بعض المصانع والشركات ويفوز العامل بأرباح كما يفوز اللاعب بالمال ..! ( 7 ) لقد انصب إهتمام الدولة على نشر الرياضة بدلا من نشر الثقافة الرياضية وترسيخ أهمية الممارسة وبدت بعض المنشأت مثل تماثيل أو أصنام شاهدة على دور الدولة ومن ذلك القلعة الرياضية الرائعة التى تسمى استاد القاهرة بصالاتها وقاعتها وملاعبها. وهذا النوع من الإستثمار باهظ فى تكلفته لكنه إستثمار غير مباشروللأجيال القادمة إلا أنه لايكفى لصناعة بطل فهذا النوع من الإستثمار مخصص لمستويات القمة وليس القاعدة ومن هنا وقعت الدولة فى حيرة الإستثمار للأجيال وصناعة وتوسيع قاعدة الممارسين فلم تكن منشأت مراكز الشباب لصناعة الأبطال لكنها صالحة لممارسة الراغبين. الرياضة المصرية مازالت طفلا يحبو بسبب الإغراق فى التفاصيل واللوائح وتفصيل القوانين، وبطء التشريعات الرياضية، وبسبب عدم التعامل مع المفهوم الاقتصادى والقضية باتت قضية بضاعة جيدة يعنى موهبة ممتازة وفريق قوى وبطولات تتحقق وهناك عدة مدارس تنتج الرياضة بصورة مميزة وعلينا أن نختار منها .. وهى : أولا : المدرسة الأمريكية التى تعتمد على إنتاج الأبطال الرياضيين من خلال المدارس والجامعات وهذا لأن الملاعب الحديثة متوافرة وكذلك المدربين والأبحاث العلمية التى ترفع من تقنيات تنمية الموهبة بالتدريب والتغذية والطب الرياضى .. ( جمعت أمريكا 2402 ميدالية فى الألعاب الاوليمبية الصيفية منذ 1896 حتى 2012 ) جمع كل العرب 94 ميدالية خلال نفس الفترة. ثانيا : مدرسة أوروبا الشرقية وهذه المدرسة أعتمدت أسلوب معسكرات التدريب ومنح المواطن الرياضى مميزات خاصة لأنه يحرم نفسه من مباهج الحياة من أجل رفع علم بلاده ولجأت هذه المدرسة إلى الأبحاث العلمية التى ترفع من مستوى الرياضى. ثالثا : المدرسة الصينية واعتمدت نفس إسلوب مدرسة أوروبا الشرقية حتى أن الصين استوردت علماء الرياضة من ألمانياالشرقية بعد إنهيار جدار برلين واستندت الصين على قاعدة هائلة من الممارسين واقامت المعسكرات التدريبية رابعا : مدرسة كوبااوجامايكا لتى تقوم على التخصص فى لعبات محددة كما هو الحال فى الملاكمة وسباقات العدو القصير و أصبح مدرب الملاكمة الكوبى سلعة مطلوبة حتى ان 11 مدربا من 12 لدول وصلت لنهائيات دورة برشلونة الأوليمبية كانوا من كوبا . . وكما الحال فى مسابقات السرعة بالنسبة لجامايكا وقد أحرزت 12 ميدالية فى أوليمبياد لندن 2012 وتعود نجاحات جامايكا في سباقات السرعة الى البرنامج الوطني الناجح وتطلق عليه تسمية «بطل» والذي يعود الى عام 1910 ويجمع سنويا افضل العدائين في كافة مدارس جامايكا، علما بان غالبية العدائين الذين احرزوا ميداليات اوليمبية تخرجوا منه ويستقطب هذا البرنامج سنويا نحو الفي عداء وعداءة ويقام على مدى 3 ايام ويحضره 30 ألف متفرج يوميا. وبرنامج «بطل» يتضمن سباقات لجميع الفئات العمرية اعتبارا من 5 سنوات، وهدفه اكتشاف المواهب وصقلها لجعلها تنافس على اعلى المستويات. ومصر يمكن أن تتفوق فى ألعاب المصارعة ورفع الأثقال والملاكمة والتايكوندو والجودو والرمى . وموضوع الجينات له أبحاثة العالمية ، ومن مظاهر ه أن أصحاب اللون الأسمر هم نجوم العالم فى سباقات السرعة والعدو القصير ، وأنه من النادر أن تجد سباحا بطلا لسباق المائة متر من أصحاب البشرة السمراء ، وهو أمر يتعلق فعلا بالجينات .. أخيرا إن قضية تطوير وإصلاح المسار الرياضى ، مسألة عميقة ومتشعبة . فماذا نريد من الرياضة .. ؟ هل نريد ميداليات وبطولات عالمية ؟ هل الهدف هو توسيع قاعدة الممارسة بحق ..؟ هل الهدف هو الفوز بأكبر عدد ممكن من الميداليات الأوليمبية ؟ هل نؤمن أن الرياضة أحد الوجوه الحضارية للدول ؟ لمزيد من مقالات حسن المستكاوى