هى القاهرة... صاحبة ذاكرة العمران ودليل التحضر، الحافظة لكل مفردات حضارة الفراعنة الرابضة فى جبانة منف وعين شمس التى عرفت إشراقة المسيحية فى حى مصر القديمة، وضحى الإسلام فى فسطاط مصر المحروسة والقاهرة المعزية. تعلن إبداعات التحضر المصرى عن نفسها بوضوح فى مساجد وكنائس وبيوت وقصور و أسواق المحروسة بحسن تخطيطها البسيط والصريح، لتلتقى مع القاهرة الخديوية بكل عزها وتفاصيلها الراقية وحدائقها الرائعة التنسيق ومعمارها الذى ينافس معمار أوروبا. هذا المعمار يحكى عن قصة أهل مصر الذين تابعوا مسيرة مدينتهم المدهشة التى اختطها مهندسو عصر الخديو إسماعيل ومازالت مبانيها تقاوم الإهمال وعاديات الزمن بصمود وكبرياء ولكن إلى متي! لمحة من رؤى وأفكار أستاذنا المعمارى الكبير د. يحيى الزينى عاشق آخر لمصر المحروسة المنتمى إلى جيل العمالقة الذين تتلمذوا على فكر وإبداعات أساتذتهم حسن فتحى ورمسيس ويصا ومحمد كمال إسماعيل. كان يحيى الزيني, مثل الكثيرين من نبهاء جيله, من مواليد القاهرة التى بدأت تشهد أوج عظمتها قبل بدايات القرن العشرين، واختار الالتحاق بمدرسة الفنون الجميلة التى اعتبرها ضربة موجهة للاستعمار الذى كان يرى فى تعلم الفنون ترفا كماليا ليس للبلاد حاجة إليه، حتى قرر الأمير يوسف كمال المثقف الموسوعى والرحالة والمترجم أن يخوض التجربة بعد أن لمس استعدادا وموهبة لدى شباب مصريين. قرر الأمير يوسف كمال أن ينشئ هذه المدرسة الخاصة بالفنون الجميلة بعد أن تبرع بأحد أملاكه فى درب الجماميز، حين وجد استخفافا وتوجسا من أغنياء البلد الذين لم يقتنعوا بأن فى مصر فنا أو فنانين حسب تعبير الفنان الكبير راغب عياد. قبل الأمير هذه المجازفة ليتخرج فنانون ومعماريون مثل يحيى الزينى الذى تخرج فى بداية الأربعينيات، ليحصل على الماجستير فى العمارة والفنون الإسلامية، ثم يسافر إلى باريس للحصول على الدكتوراة. بعدها وجد الزينى مصر ترحب به، ليعمل فى مصلحة المبانى الأميرية، ويرأس إدارة المكتب العربي، ثم جهاز بحوث ودراسات التعمير، وشركة التعمير والمساكن الشعبية. تدرج الزينى فى المناصب، كما تدرجت و تنوعت رؤيته لمصر المحروسة وأحيائها التاريخية التى كان يراها مثالا لعبقرية فذة فى مساحة لا تتجاوز 32 كيلو مترا مربعا، بتفاصيل المدخل المنكسر للبيوت الذى يقف حائلا أمام أعين المتلصصين لضمان خصوصية اهل البيوت المصرية، ونظام الدوبلكس أى الوحدات المنفصلة الممتدة رأسيا على طابقين أو ثلاثة بسلالم داخلية، يجاورها فناء ضخم يضم نافورات سبقت عمارة مرسيليا التى ابتكرها أوكوربيزيه المعمارى الفرنسى بقرون، أما الشوارع المصرية الصميمة كالمعز فيقطع القاهرة من بواباتها الشمالية إلى مشارف الفسطاط جنوبا كأكبر قاطع طولى فى تاريخ مصر الإسلامية. كانت القاهرة التاريخية موطنا لإلهامه و سببا فى احترام فكر معماريى مصر العظماء، ولهذا نجده يذكر بكل إجلال إبداع حسين باشا فهمى المكلف من خوشيار هانم أم الخديو إسماعيل ببناء مسجد الرفاعي، وهرتز باشا الذى نجح فى حماية ما يزيد على 360 أثرا، وإن لم يشر إلا إلى مجهوده فى صيانة مدرسة السلطان حسن المواجهة لمسجد الرفاعي، وكذلك معمارى مصر الكبير حسن فتحى الذى اختار هو الآخر أن يسكن بجوار جامع السلطان حسن وأعلنه أمام تلامذته أفضل نموذج لفلسفة العمارة الإسلامية وتعدد مدارسها. كان يمكن للزينى أن يكتفى بهذا التاريخ ، ولكن القصة لا تنتهى عند القاهرة التاريخية وحدها، فهناك القاهرة الخديوية وشوارع وسط البلد. ارتفعت البيوت بلا وعى ولا تخطيط بسبب جمود الإيجارات القديمة، واحترقت دار الأوبرا التاريخية وتراجعت الحدائق، ودخلت الأنشطة التجارية إلى أحياء الزمالك وجاردن سيتى ومصر الجديدة والمعادي، وأهدر جمال النيل، بل وسكنت المؤسسات الحكومية العمارات الخديوية وأقامت مكاتب بتركيبات عشوائية، وانتشر التصالح فى مخالفات لوائح تنظيم أعمال البناء، وتراخيص الهدم التى أصبحت كالوباء منذ أوائل السبعينيات. أما القصور والبيوت الكبيرة ومنها قصر شريف باشا صبرى بجاردن سيتى وفيلا هدى شعراوى وأم كلثوم بالزمالك فقد انتهت قصتها وكأنها لم تكن موجودة من الأصل فى بر مصر، ولم يعش بها من عمروها فى يوم من الأيام. عودة إلى مصر «ويحدث هذا فى بر مصر- والكلمة للدكتور الزيني- التى كان واديها أعظم متحف معمارى وعمرانى امتدت مساحته لما يزيد على الألف كيلو متر. كانت فصول التاريخ تقرأ متتابعة فى الشارع الواحد، حتى جاء العصر الحديث و قبع محمد على فى حصون القلعة، يحكم مصر من قصر الجوهرة، ثم جاء عصر الخديو إسماعيل فانطلق بامتدادات القاهرة من ميدان العتبة حتى ميدان التحرير، ومن ميدان عابدين إلى باب الحديد.» يذكرنا د. يحيى الزينى بتفاصيل شديدة الروعة لهذه المدينة صاحبة الحدائق التى كانت تعنى توطنا عبقريا للون الأخضر، بدأ مع بناء محمد على باشا والى مصر الكبير لقصر شبرا الذى ولد خليطا من الطراز التركى والباروك الأوروبي، وكانت له حديقة ممتدة لخمسين فدانا يتوسطها كشك فسقية، وكان الطريق إلى القصر مزينا بأشجار الأكاسيا والسيكومور، فاعتبر هذا الطريق شانزليزيه القاهرة. أما أكبر حديقة رأتها مصر فكانت بالقناطر الخيرية حيث رأى أهل مصر لأول مرة الجبلايات والمماشى وقنوات المياه التى تمر فوقها كبارى المشاة. وفى سبيل ذات المشهد الجميل، جفف الخديو إسماعيل العديد من البرك المنتشرة فى القاهرة وأشهرها بركة الأزبكية التى تحولت إلى حديقة رائعة، وإلى جوارها قامت دار الأوبرا، وتتابعت الحدائق مثل الأورمان وجبلاية الأسماك و حديقة الحيوان وحديقة النهر. ونسق حديقة الأزبكية باريليه دى شامب المهندس الفرنسى على نفس طراز حديقة باريس، وكانت معروفة بمراكب النزهة التى تستخدم البدالات، وبالمغارة المصممة على الطراز الصيني، وكشك الموسيقى التى كان يمكن للمصريين من كافة الطبقات ارتيادها بشرط المحافظة على المكان. أما حديقة الأورمان فقد كانت عبقريتها فى استغلال اختلاف مستوى الحديقة للتمتع بالأشجار و الصخور المدهشة وفوانيس البلور التى استخدمت فى الإضاءة، وإن كان انفراد حديقتى الأسماك والحيوان الحقيقى فى أشجارهما النادرة وممرات الزلط الملون والنباتات المائية، بينما ظلت حديقة الزهرية بيتا لانبات الزهور النادرة وأكشاك الجلوس وأقفاص الطيور لحديقة الجزيرة. أصبحت كل هذه الحدائق مجرد ذكرى فى أفلام الأبيض والأسود، وضاع الكثير من معالمها فى زحام المدينة. ولكنها تاريخ لا ينسي، مثلها مثل تاريخ الأبنية التعليمية فى مصر، فقبل أعوام أربعة من رحيل المعمارى المصرى الكبير الزينى كان يشكو من عدم صدور موسوعته «المنشآت التعليمية فى مصر عبر العصور» وكانت اهتماما آخر له. كانت الهيئة العامة للأبنية التعليمية قد كلفته برصد تاريخ الأبنية منذ عصر الفراعنة حين كانت المدرسة هى بر عنخ رمزا لاستمرار بر مصر وقوتها، واستمر راصدا للعصر القبطي، ثم دخول المساجد والمدارس والخانقاوات على خط التعليم والتعلم فى القاهرة التاريخية، وحتى عصرنا الحديث فلم يتوقف عند حد التجربة الناضجة لمحمد على باشا وبنيه، وامتدت ملاحظاته حتى يوم الانتهاء من الموسوعة نفسها. يبدو أنه حظ عاثر قد صادفه فلم تصدر هذه الموسوعة فور الانتهاء منها كما توقع، ولكن حقيقة تغير بر مصر وأهل مصر المحروسة التى عاش أجمل ايامها فى الأربعينيات والخمسينيات والستينيات. تغيرت إلى حد أنه آثر الانسحاب فى أيامه الأخيرة ، وهو الرجل الذى لم يثقل عليه العمر حتى جاوز منتصف التسعين، فكنت تراه فى كلية الفنون الجميلة أو فى ندوة أو فى أمسية ثقافية يدافع فيها عن أصالة معمار مصر ووجوب العودة لخطة قومية للتخطيط العمرانى فى مصر. صحيح ان هناك مثلا مصريا شائعا يقول: طولة الأجل تبلغ الامل. ولكن يبدو أن حتى هذا المثل قد تغير فى مصر.. فهل يذكر أحد د. يحيى الزينى الا تلامذته المقربون...أم أنه رحيل معلن لقامات تتوه فى الزحام ولا يشعر بها أحد فى مصر التى نقول إنها لم تعد تملك قامات شامخة. مجرد خاطر يفهمه كل مصرى حتى ولو لم يقله أويكتبه