هذا الرجل قصة وتاريخ...ندخل إلى تفاصيلها من باب خبر تداولته الصحف والفضائيات. فأخيرا اختارت الحكومة د.محمد البرادعى و د. فتحى خطاب و د. فتحى صالح ود. أبو زيد راجح ، ود. حسانين أبو زيد ود. سحر عطية ود. محمد عاشور و د. منى أنيس الدين ود. سهير حواس كمجموعة من أساتذة العمارة ضمن إجراءات المحافظة على القاهرة التاريخية. والقاهرة التاريخية كما يبدو لن تعبر عن المفهوم التقليدى الذى كان سائدا عن المبانى والمنشآت الفاطمية والايوبية والمملوكية وحتى العثمانية، فهناك رحابة فى التصور لدخول ما كنا نطلق عليه القاهرة الخديوية أو مبانى وسط البلد التى عبرت عن النهضة الحديثة فى مصر فى عهد الخديو إسماعيل. وهو تصور يبدو منطقيا، فبالتأكيد ليس هناك خط جغرافى قاطع يفصل بين الأبنية التاريخية الاسلامية والقبطية، وبين الأبنية التى تعبر عن مصر فى نهاية القرن التاسع عشر. فهذا التقسيم يجوز من الناحية التاريخية ولكنه لا يجوز بأى حال من الناحية الجغرافية والمكانية. وهذا التصور باختصار يعنى اننا عدنا لنناقش أهمية مصر المحروسة وعبقرية مكانها التى كانت سببا فى وجود مبان وشوارع و طرز معمارية متعددة والتى رغم إختلافها لم تعلن يوما حربا على بعضها البعض. فمن يقود الحرب لابد أن يكون طرفا آخرا يبدو عدوا للأصالة، ويحتفظ بالعشوائية والتخريب كاسم وفعل. وهذا الطرف الثالث هو نفسه قضية حياة الدكتور يحيى الزينى. ويحيى الزينى لمن لايعرفه واحد من الذين يحتفظون بحس وروح مصرية وبديهة حاضرة، وهذا ما جعله يمنح كل عمره للدفاع عن حدائق مصر و منطقة وسط البلد والتنسيق الحضارى للقاهرة. فبحكم العمر رأى الزينى مصر الجميلة التى لم نرها عندما كان مازال طالبا فى كلية الفنون الجميلة وتتلمذ على يدى المعمارى المصرى الكبير حسن فتحى. وهو ما جعله يعرف طريقه مبكرا ويحصل على الماجستير من جامعة القاهرة ثم الدكتوراة من باريس ليعمل فى مصلحة المبانى الأميرية، وتمنحه الدولة وسام الجمهورية عام 1955. ولأنه عرف الحياة فهو لا يراها محصورة داخل جدران قاعات المحاضرات. ويمكن أن تشاهده صباحا فى الجامعة ، ومساء مشاركا فى إحدى الندوات العلمية ليحكى عن حدائق مصر التاريخية والتراث العمرانى ومعنى التاريخ و القيم الحضارية للمدنية المصرية، وبين هذا وذاك تجده مشغولا بالحديث إلى كل من يشاركه فى همه الخاص بالقاهرة التى كانت من وجهة النظر المعمارية أفضل من مبانى وتصميمات أوروبا حتى إنها فى بعض الأحيان تتفوق على باريس نفسها. وهذا الرجل قبل عامين كان لى حوار طويل معه، ساعتها كان يشكو من عدم صدور موسوعته «المنشآت التعليمية فى مصر عبر العصور». فقد قامت ثورة وتغير أشخاص. ولكن العقلية الحاكمة لنجاح عمل من فشله لاتزال كما هى، وهذا ما أثار غضبه ودهشته . فلم يكن يتوقع أن الموسوعة التى كلفته بها الهيئة العامة للأبنية التعليمية سوف يصادفها هذا الحظ من التعثر فى النشر، لتصبح مجرد شكوى محفوظة فى أدراج المسئولين. وهذه الموسوعة بمجلداتها الثلاثة ترصد ليس فقط المنشآت التى كان يتلقى فيها الطلاب علومهم منذ فجر التاريخ، ولكنها أيضا تكشف هذا الارتباط الوثيق بين الشخصية المصرية والمعمار. فالحجر يمكنه أيضا أن يحكى تاريخا أصدق من البشر الذين دائما ما يضيفون أفكارهم وإنتماءاتهم ووجهة نظرهم الشخصية. يمكننا أن نتعرف على قصة الوعى المصرى منذ زمن الفراعنة وكيف كان التعليم يجرى بالمعابد وخارجها، ومن هو أمنحوتب وكيف كان المصريون يربون أبناءهم وفقا لمبادئ الضمير الذى عرفه المصريون قبل أن يعرفه غيرهم. وكيف لم يتوقف المصريون عن التعلم حتى فى العصور التى لم يحكم فيها المصريون أنفسهم فى زمن البطالمة والرومان لينتهى الجزء الأول من الموسوعة عند بزوغ المسيحية التى ساعدت على حفظ الهوية المصرية. وفى الجزء الثانى الذى يبدأ من الفتح الاسلامى حتى إرساء دعائم مصر الحديثة فى زمن محمد على باشا يظهر المسجد كمكان للتعلم، ثم المدارس. وفى هذا الجزء لا يواجه د. الزينى نفس الصعوبة التى قابلته عند البحث عن تصميمات للمنشآت التعليمية فى مصر القديمة والبطلمية والإغريقية. فأماكن التعلم كانت تسكن مسجد عمرو وطولون والأزهر الشريف والمدرسة الكاميلية ومجمع قلاوون والسلطان حسن والأسبلة التى ضمت الكتاتيب. أما الجزء الثالث والأخير فهو جدير بأن يقرأ لنعرف كيف حافظ المصريون على هويتهم من خلال التعليم. صحيح أن محمد على كان صاحب مشروع خاص وأن عباس الأول أغلق الكثير من المدارس، إلا انه رغم ذلك استمر المصريون، حتى إذا ما فرض الاحتلال البريطانى نفسه على البلاد بعدها بسنوات، قاوموا سياسة دنلوب المستشار البريطانى التى كانت تسعى إلى تجريف مصر، و خاصة بعد أن قام الأثرياء بإهداء قصورهم إلى المصريين لتصبح مع الوقت مدارس يتعلم فيها أبناء الشعب. و قضية التعليم وفهم المفرادات المصرية هى حل كل المشكلات عند الدكتور الزينى، وتدهوره هو ما أصاب القاهرة من فوضى. فعلى سبيل المثال أصبح اسم بورسعيد يطلق على شارع الخليج المصرى ليمحوا تاريخا كاملا للمجرى المائى المتفرع من النيل عند مصر القديمة وكان ينطلق باتجاه الشمال الشرقى حتى البحر الأحمر، و ظلت المياه تجرى به إلى نهاية القرن التاسع عشر عندما ردم بعد تفشى الكوليرا، فظلموا الخليج المصرى وبورسعيد الباسلة التى كان من الاجدى ان يطلقوا اسمها على أكبر شوارع القاهرة الجديدة. وكثير من الأحياء فقدت هويتها مثل حى الفجالة الحى التاريخى الذى تسيطر عليه تجارة الادوات الصحية بعد أن كان حيا منتجا للفكر و المعرفة، وهو الأمر الذى تكرر مع شارع عبد العزيز الذى أنشئ بمناسبة زيارة السلطان عبد العزيز ومنحه إسماعيل باشا فرمانا بلقب خديو، وكان عمر أفندى أهم معالم هذا الشارع الذى تشوهت معالمه و اختفى الطريق الحدائقى الذى أنشئ خصيصا تخليدا لهذه الزيارة. أما النيل والحدائق فهناك سوء تفاهم يحول بين علاقة جيدة بينهما وبين المصريين. فمنذ زمن الخديو إسماعيل والقاهرة لم تنجح فى إضافة مساحات خضراء فى وزن وجمال حدائق الحيوان والأورمان والأسماك وغيرها ممن تعرضت للإهمال والضرر، فى حين أنهم يستثمرون الأنهار والحدائق فى أوروبا ويجعلون من الحدائق رئات طبيعية للمدينة، ويستغلون الأنهار فى السياحة الاستثمارية. ويعتقد الزينى أن تدهور العمران فى مصر منذ الخمسينيات هو نتيجة طبيعية لتجميد إيجار العقارات وعدم مناسبتها لمتابعة أعمال الصيانة لكى تبقى على قيد الحياة، ولتخفيف وطأة التجميد على ملاك العقارات أصدرت الحكومة تراخيص بزيادة ارتفاعات المبانى القائمة. فهذا النوع من التوازنات هو السبب فى الكثير من الاختلالات. فهكذا بر مصر الآن نيل مستأنس لا يشعر الناس به يلقون فيه بمخلفاتهم، وحدائق تاريخية مهملة تنتقص من مساحتها ، وعقارات أفسدها انحطاط الذوق العام و الأزمات الاقتصادية. وهذه بالطبع بعض قضايا الدكتور الزينى، فهو قصة تذكرنا بمصر المتحضرة، وتاريخ لرجل لم يدع اليأس وتتابع الأخطاء يتسلل إليه عبر كل هذه السنوات، وهكذا وجب علينا أن نذكر الناس بالدكتور يحيى الزينى فهو صورة ممن يريدون لمصر استرداد عافيتها، وأن تعود القاهرة الجميلة كما كانت بكل عراقتها وصفاء أهلها.