حسناء الجريسى الإهمال فى مصر طال كل شيء حتى تاريخها العريق، الذى أصبح يندثر للدرجة التى جعلت الكثيرين لا يدرون شيئا عن قصور مصر التاريخية، تلك القصور التى تملأ كل ربوع مصر، فما من محافظة إلا وبها قصر وآثار تحكى تاريخ المكان الموجودة به، لكن يبدو أن وزارة الآثار فى سبات عميق، لم تستيقظ منه حتى بعد قيام ثورتين فى مصر، بل الأغرب من ذلك أن هاتين الثورتين كانتا سببا فى قيام البلطجية والخارجين على القانون بسرقة بعض القطع الآثرية، وتدمير القيمة التاريخية لبعض هذه القصور.. «الأهرام العربى» تخوض هذه التجربة داخل قصور مصر التاريخية التى أصبحت مأوى للخارجين على القانون، وتعبث بها يد الإهمال على أعين وزارتى الثقافة والآثار. البداية كانت من قصر الخديو توفيق بمنطقة حلوان، عندما قررت البحث عن مكان هذا القصر علمت أنه يقع بالقرب من الحديقة اليابانية، وعندما اقتربت «سيارة الأهرام» من المكان سأل السائق أحد المارة فى الشارع الرئيسي» أين مكان قصر الخديو توفيق «، فجاءت إجابته صادمة لنا، حيث قال «مين قصر الخديو توفيق ده»؟ وبعد بحث طويل وجدت نفسى أمام تحفة معمارية تحمل فى جنباتها تاريخ مصر العريق، لكن الإهمال حول المكان، إلى مأوى للأشباح والبلطجية وممارسى الرذيلة، وكان السواد الأعظم أن أهالى المنطقة لا يعرفون شيئا عن القصر باسثتناء عم محمد، أحد بوابى المنطقة والذى شجعنى على دخول القصر، وبمجرد أن وطأت قدماى القصر الذى لم يعد منه سوى حوائط مهدمة وأسقف آيلة للسقوط تعلو ربوة أرضية، حتى التماثيل كانت مطموسة المعالم، وتحيط القصر تلال القمامة من كل جانب، وكانت الرائحة النتنة تملأ المكان، وسرعان ما وقعت عينى على سرداب تحت الأرض، به العديد من الحفائر، أعتقد أنها كانت للتنقيب والبحث عن آثار بها، كل شىء كان يقول إن القصر تعرض لمحاولة سطو من قبل سارقى الآثار. القصر مبنى على مساحات كبيرة ويتكون من ثلاثة طوابق به 24 حجرة، ومحاط بحديقة تحولت إلى مقلب للقمامة ومكان لجلسات الكيف، صعدت الطابق الأول وجدت ما يزيد على اثنتى عشرة غرفة، متآكلة جدرانها قد تهوى فى أى وقت من الأوقات، وكانت الحال فى الطابق الثانى أسوأ كثيرا، وهو عبارة عن ممر طويل تترامى على يمينه ويساره القطع الآثرية التى أكل عليها الزمان وشرب، بل الأغرب من ذلك وجود كم هائل من الحشرات وزجاجات الأدوية المخدرة . قابلت شخصا يدعى طارق على علمت منه أن هذا القصر يوجد خلف معمل للتحاليل، ما يشكل قلقاً لمن يتبادلون وردياتهم ليلاً، نظرا لخلو المكان من أى جهة أمنية أو حراسة تحميهم من البلطجية . وأشار طارق إلى أن القصر تعرضت آثاره للسرقة، وتم اكتشاف 4 جرائم قتل به دون التعرف على القاتل، "فلا توجد حراسة والإهمال هو سيد المكان" على حد تعبيره. .هذا القصر مقام على 24 فدانا، وكان سكناً للأميرة عين الحياة زوجة السلطان حسين كامل، الذى حكم مصر فى بداية القرن الماضى، والمثير للدهشة أن هذا القصر غير مسجل كأثر، والحجة فى ذلك تعرض جدرانه للهدم، واللافت للنظر أكثر أن اللجنة الدائمة للآثار لا تعترف به كأثر نظرا لوجود مقاييس ومعايير فنية للأثر بغض النظر عن مرور 100 عام على وجوده، الأغرب أن الخديو توفيق هو أول من شكل ما يعرف باسم "اللجنة الدائمة لحماية الآثار" والتى مازالت تعمل حتى هذه اللحظة، أليس غريبا أن يكون الخديو توفيق سببا فى وجود لجنة لا تعترف بقصره كأثر ولا تحاول زيارته ومحاولة ترميمة باعتباره تحفة معمارية تحمل مرحلة تاريخية فى مصر؟! لا يقل حظ قصر شامبليون فى وسط البلد عن قصر الخديو توفيق بحلوان، فالكارثة أكبر، إذ بيع القصر لأحد رجال الأعمال الذى كان ملء السمع والأبصار فى زمن السادات، لكن الفارق أن قصر شامبليون يوجد به حارس يتبع رجل الأعمال السكندرى رشاد عثمان ويتقاضى راتبه الشهرى منه، وجدته يجلس على أريكة بجوار البوابة الرئيسية للقصر، الذى يقع فى شارع يحمل نفس الاسم ، أمام مقهى بلدى وتحاصره ورش تصليح السيارات، عندما رآنى أحدهم ألتقط صورا للقصر من الخارج، تقدم ناحيتى وقال لى: عايزه تصورى القصر من الداخل تدفعى كام؟ وساعدنى فى دخول القصر من الداخل والتقاط الصور وسط نباح الكلاب التى تملأ القصر، لكن منظر القصر من الخارج والداخل، تجعلك تلعن وزارة الآثار فى كل حين خصوصا عندما تظهر حمرة جرانيت الحوائط التى تعكس ألوانا تشبه ألوان الطيف، تجعلك تتساءل من صاحب هذا المبنى الرائع الذى لا نجد مثيله فى أوروبا، هذا البناء الذى يقف أمامه الأجانب مهووسين بالجمال الذى يرونه على حد قول أبناء المنطقة. اشترى رشاد عثمان القصر فى زمن السادات وأخذته الحكومة وحولته إلى مدرسة، واسترده قبل ثورة 25 يناير ، وهذا القصر مبنى على مساحة فدانين، به الكثير من الحجرات الواسعة ذات الأبواب الخشبية المزركشة ، وهو عبارة عن طابقين بهما العديد من الحجرات يملؤها التراب ، وبالخارج استراحة محاطة بحديقة بها العديد من الأشجار النادرة، وفى أحد الأركان على لوحة خشبية مكتوب عليها "مدرسة الاتحاد القومى الابتدائية ". بوابات القصر الخارجية وحوائطه تشتكى التصدعات ولون السمرة المحاط بها من جراء سمكرة السيارات، وهنا أكد لى الحاج طارق مسعود، صاحب ورشة تصليح سيارات أن رشاد عثمان أخذ القصر بطريقة وضع اليد ولا ندرى من باعه له، خصوصا أنه كان يتبع وزارة الآثار ثم وزارة التربية والتعليم عندما تم تحويله إلى مدرسة، ويشتكى مسعود حال القصر للمسئولين مطالبا بضرورة الاهتمام به فهو تحفة معمارية، مشيرا إلى أن السائحين يقفون بالساعات لمشاهدة هذا القصر وتبدو على وجوههم مظاهر التعجب والانبهار..فى ميدان لاظوغلى بالقرب من شارع نوبار، كان قصر إسماعيل المفتش فى حالة يرثى لها، أصبح مبنى آيلا للسقوط يحيط به الباعة من كل جانب، البوابة الرئيسية للقصر قديمة ومتهالكة واليافطة عفى عليها الدهر ولايظهر منها سوى لون أصفر باهت، جدران القصر من الخارج تملؤها الشقوق الواسعة والتصدعات،المثير للدهشة أن هذا القصر يعمل به موظفون تابعون لوزارة الآثار، وهناك لوحة كبيرة مكتوب عليها"مشروع توثيق وتسجيل وترميم القصر الشمالى من سراى إسماعيل باشا المفتش لاظوغلى القاهرة أثر رقم 639، وبالرغم من ذلك لا يوجد بالقصر من الداخل والخارج أى مظهر من مظاهر الترميم...قمت بتصوير أجزاء من القصر خلسة دون أن يحاول أحد من الحراس الموجودين بالبوابات الرئيسية معرفة هويتى، وعندما دخلت القصر كانت المفاجأة بالنسبة لى، فرغم المساحة الكبيرة التى يقع عليها وبرغم القطاعات الموجودة به، كقطاع المتاحف وقطاع الترميم، لكن الواضح أنها مجرد يافطات يغطيها العنكبوت والغبار دون أن يعبأ أحد من مسئولى الآثار به، حتى إن بعض الفترينات بها بعض القطع الآثرية المتربة، واضح أنه لم يهتم أحد بتنظيفها برغم وجود معامل الترميم والكيمياء وفحص الأثر لكنها مجرد يافطات فقط، بالإضافة للحجرات العديدة المليئة بالموظفين الجالسين إلى المكاتب، والغريب أن المراحيض لا تصلح للاستعمال الآدمى، القصر مكون من ثلاثة طوابق والسلالم متهالكة، ففى البوابة الخلفية للقصر يوجد ما يشبه الجراج للسيارات تحيطه القمامة والسؤال الذى يفرض نفسه إذا كان مكتب رئيس قطاع المشروعات اللواء محمد الشيخة بداخل قصر إسماعيل المفتش والقصر يعانى من الإهمال فمن المسئول إذن؟. فمنذ عامين كشف تقرير صادر عن الإدارة العامة لمناطق آثار السيدة زينب والخليفة عن تهالك شبكة الصرف الصحى بقصر إسماعيل المفتش الأثرى، لأنها وحسبما جاء فى التقرير موجودة منذ تاريخ إنشاء القصر ومنفذة بطريقة بدائية بجانب أن التعديلات التى أجريت عليها قد فسدت ولابد من محاولة تجديدها، وقد تم إرسال هذا التقرير إلى مسئول قطاع المشروعات اللواء محمد الشيخة لكن للأسف لم يتحرك أحد، على الرغم من أن قصر إسماعيل المفتش هو أحد المبانى الأثرية المسجلة بالقرار الوزارى رقم 14 لسنة 1986 حيث كان إسماعيل صديق مفتشاً عاماً لأقاليم القطر المصري، ومن هذه المهنة كان لقب "المفتش"ثم أصبح وزيراً للمالية سنة 1868م..بنبرة حزن شديدة، يقول د. عبد الحليم نور الدين: إن مصر مليئة بالقصور التاريخية فلا تخلو محافظة من وجود قصور بها، لكن للأسف لايهتم أحد بترميمها وتجديدها، على خلاف الدول الأوروبية التى تهتم بالقصور والمتاحف ما ساعد على ترويج سياحة المتاحف..يطالب د. نور الدين بتفريغ القصور من شاغليها كقصر إسماعيل باشا المفتش الذى ينهار على مرأى من مسئولى الآثار الذين يعملون بداخل المكان ولايتحرك أحد برغم تسجيل القصر كأثر، وكذلك قصر السكاكينى ومحكمة باب اللوق وقصر عابدين وقصر القبة، مشيرا إلى أن القناطر الخيرية بها العديد من القصور والاستراحات والقبور التاريخية التى تحكى تاريخ كل مرحلة مرت بها مصر..ويلفت رئيس اتحاد الأثاريين النظر إلى أن د. كمال الجنزورى عندما تولى رئاسة الوزراء أيام حكم مبارك أصدر قرارا بترميم هذه القصور، وألزم المجلس الأعلى للآثار بضرورة المحافظة عليها،لكن القرار ظل حبرا على ورق. ومن جانبه يطالب د. محمد الكحلاوى بضرورة وجود قطاع عام للمحافظة على القصور التاريخية، وتفعيل القانون الذى يجرم الاعتداء على التراث. ويشير د. صلاح الهادى، مدير ترميم الآثار بمنطقة شمال سيناء، إلى أن القصور التاريخية تجد إهمالا شديدا، فقصر إسماعيل باشا المفتش كان به مكاتب موظفى وزارة المالية، وجاءت وزارة الآثار وطلبت منهم الخروج بحجة ترميم القصر نظرا لموقعه المتميز، ويضيف: للأسف تم ترميم أجزاء منه ترميما هزيلا وكان بمثابة بوابة لضياع أموال طائلة دون أى فائدة، والمشكلة الكبرى التى واجهت قصر المفتش هو تحويله مكاتب لموظفى قطاعات الآثار المختلفة، لافتا النظر إلى أن الشركات التى قامت بترميم القصر سابقا حولها شبهات كثيرة فهى شركات مقاولات خاصة. ويقول د. الهادى: إن آثار مصر فى حالة يرثى لها نظرا للإهمال الشديد بحجة عدم توافر أموال بالوزارة، لافتا النظر إلى أن اللجنة الدائمة للآثار لا علاقة لها بخطط العمل أو تطوير الآليات، هى لجنة علمية للشئون الأثرية، تبدى آراءها فقط ولا علاقة لها بالمشاريع أو مواردها وتمويلها. .بينما يقول د مختار الكسبانى- أستاذ الآثار الإسلامية - إن قصر شامبليون هو قصر سعيد حليم ابن محمد على باشا أهداه لوزارة المعارف وتحول إلى مدرسة، وقد أرسلت هيئة الأبنية التعليمية إلى وزارة الآثار لاستلام القصر، وتشكلت لجنة وكنت رئيسها وذهبنا للتعامل معه، وهناك اكتشفنا أن هيئة الأبنية قامت ببيع القصر إلى رجل الأعمال السكندرى رشاد عثمان وسجل فى الشهر العقارى فى فرنسا ومازال القصر فى حوزته، مشيراإلى أن هيئة الأبنية كانت من أكثر الهيئات فسادا..أما قصر إسماعيل باشا المفتش، فقد أخذناه من مجلس الشعب للترميم بصفته أثرا وتم ترميم كل الأجزاء التى يشغلها موظفو وزارة الآثار،فكانت حالته يندى لها الجبين .ويعترف د. الكسبانى بأنه غير راض عن استخدام القصر بهذه الطريقة، فهو ثروة لابد من استغلالها وذلك عن طريق تحويل القصر إلى فندق أو منشآت سياحية ..ويلقى د. الكسبانى باللوم على جهاز التنسيق الحضارى، مؤكدا أن سمير غريب لم يهتم بهذه القصور، ويطالب د. الكسبانى بضرورة توقيع برتوكول تعاون بين وزارت المالية والآثار والسياحة مع هيئة التنسيق الحضارى للنهوض بهذه المنشآت التى تمثل قيمة كبيرة للاقتصاد القومى، كما لابد من الشروع فى وضع خطة عمل للحفاظ على هذه القصور التاريخية. ويلفت النظر إلى أن قصر"عين الحياة "بحلوان المعروف بقصر الخديو توفيق غير مسجل كأثر، وذلك نظرا للتعديلات التى أجريت عليه على مر السنين، مبينا أن هناك معايير ومقاييس تحدد إذا كان المنشأ أثرا أم لا بغض النظر عن مرور 100سنة وهى المعيار التاريخى ومدى أهمية المكان وارتباطة بالأحداث التاريخية المهمة التى مرت بها مصر، أيضا هناك الناحية الجمالية والقيمة الفنية لذلك فقصر الخديو توفيق ضاعت قيمته الأثرية. ومن ناحيته يقول د.على طه عمر - مشرف على إدارة التدريب الأثرى- إن إهمال القصور التاريخية كارثة بكل المقاييس، مرجعا السبب فى ذلك إلى اللجنة الدائمة للآثار التى ترى أن استعمال الأثر يضره بخلاف المواثيق الدولية التى تقول لابد من الانتفاع بالأثر، واستغلاله فى الحياة الاجتماعية ويطالب بإلغاء اللجنة الدائمة، فهم يتعاملون بشكل أكاديمى وفى ظل وجودها لا صلاحية لوزير الآثار، فهى التى تتخذ القرارات..لماذا تم إهمال القصور التاريخية خلال فترة وجودسمير غريب على رأس التنسيق الحضارى؟ يقول غريب: معظم هذه القصور مسجلة كآثار والجهاز يقتصر دوره على المباني، وبالسؤال عن بيع قصر شامبليون إلى رشاد عثمان أجاب التسجيل لا يمنع البيع والشراء، وقبل الثورة كان هناك مشروع على مكتب زاهى حواس أمين عام المجلس الأعلى للآثار وقتها، يطالب بتسجيل قصر شامبليون كأثر لكن قامت الثورة وانتهى المشروع..ويضيف: خضت معركة كبيرة مع الآثار فأثناء وجودى فى الجهاز اكتشفت أن هناك قصورا ومبانى أثرية مر عليها أكثر من 100 عام وتتميز بطراز معمارى متميز وترتبط بشخصيات تاريخية وغير مسجلة كأثر، وبناء عليه أرسلت العديد من الخطابات المتتالية لوزير الآثارلتسجيل هذه المبانى كآثار خصوصا أنها مسجلة كطراز معمارى وفقا للقانون رقم 144 قانون الآثار وحتى نزيد مستوى الحماية، كنت أرسل خطابات رسمية لوزير الآثار الحالى د. محمد إبراهيم وذلك بناء على توصية لجان التظلمات التى كان يعرض عليها حالات المبانى، وكانت تحسب أنها مبان تنطبق عليها كل المواصفات التاريخية وبالرغم من ذلك لم يتم تسجيلها برغم التوصيات الكثيرة بضمها للآثار الإسلامية ..ويشير غريب إلى أن بعض المسئولين فى الوزارة كشفوا عن سبب رفض محاولاته بأن الوزارة ليس لديها أى أموال تجعلها تتحمل ضم هذه المبانى التاريخية إليها، وجاء هذا الكلام بشكل غير رسمى