فى مدة زمنية لم تتجاوز ثلاثة أيام بين 30 يونيو و3 يوليو عام 2013، قدم المصريون معزوفة مبهرة فى الوطنية والحفاظ على الدولة فى مواجهة تيار أراد تبديل طبيعة الدولة وقيمها ومبادئها إلى شيء آخر ينزع عنها الصبغة المدنية، ويلونها بلون داكن من التطرف والمغالاة الدينية التى صنعت فى كهوف المتطرفين فى أفغانستان والتى أعادت القوى العالمية توجيهها إلى داخل الدول الواقعة فى منطقة الشرق الأوسط من أجل أن تبعد عن نفسها خطرا أعظم بعد هجمات سبتمبر فى الولاياتالمتحدة إلا أن التلميذ الذى علمته ودربته أيادى أجهزة المخابرات الغربية قبل 80 عاما لا يعرف حدودا فى طموحه وراح يحلم بدولة خلافة تقسم الشعوب والمعتقدات، وتعلن الحروب الدينية فى المنطقة لقيام دولتهم المزعومة حتى خرج لهم الشعب المصرى واضعا حدا قاطعا مع مشروعهم التخريبى ومعلنا عن نفسه أمام العالم أنه يرفض المشروع التخريبى لتلك الجماعات الإرهابية، ويخط لنفسه طريقا جديدا بعيدا عنها. قبل ثلاث سنوات بالتمام والكمال، كتب المصريون فصلا مضيئا فى تاريخ بلدهم مثلما فعلوا فى الأيام الثلاثة الأولى لثورة يناير، ولم يكن بيان القيادة العامة للقوات المسلحة فى الثالث من يوليو إلا تعبيرا وإنفاذا لرغبة غالبية المصريين فى مسار جديد يحميهم من الانقسام والفرقة. ومضت خريطة الطريق التى نص عليها البيان ثم الإعلان الدستورى فى الثامن من يوليو فى عملية إعادة بناء متتالية لدستور ومؤسسات الحكم والتشريع فيما كان المصريون يأملون ولايزالون - فى حكومات أكثر كفاءة تمحو آثار ماجرى فى السنوات التى سبقت 30 يونيو، غير أن أشياء كثيرة تعطل المساعى لبناء دولة مدنية حديثة على أسس سليمة. قبل أسابيع قليلة، استخدم الرئيس عبد الفتاح السيسى تعبير «شبه دولة» لوصف ما آل إليه حال الدولة المصرية فى العقود الأربعة الأخيرة منوها بصعوبة إتمام الإصلاحات بسهولة فى ظل حالة الاهتراء التى دبت فى أوصال أجهزة الدولة والتى جعلتها عصية على التقويم. كما أكد الرئيس أنه «لايخاف» ودعانا ألا نخاف (متخافوش)، لكن نظرة على الواقع تدعو إلى التساؤل: ماذا فعلنا حتى نجعلها دولة، وحتى نزيل أسباب الخوف؟ ما قاله الرئيس كان يجب أن تأخذه جماعات السياسيين والمثقفين على محمل الجد، وأن تفكر وتتدبر كيف نتجاوز ما يسميه الرئيس السيسى «شبه دولة» إلى دعم بناء دولة حقيقية تحقق ما جاء فى الدستور الحالي، إلا أن بعضهم قابل كلام الرئيس باستخفاف وسخرية غير لائقة، كما لو كانوا يعيشون فى بلد آخر، ويملكون هم أنفسهم عصا سحرية يبدلون بها الأوضاع فى ليلة وضحاها، غير أن السلطة السياسية حسب مزاعمهم الواهية - تقف عائقا دون قدراتهم الخارقة. وفى تلك الأجواء التى تعمل فيها المبالغة والسخرية مفعولا ساحرا على مواقع التواصل الاجتماعي، التى أدمن سياسيون استخدامها، لا مجال حقيقيا لحوارات جادة وطرح رؤى مغايرة أكثر ملاءمة لأوضاعنا وأزماتنا. وقف السيسى وهو يعلن عن تدشين مشروع المليون ونصف المليون فدان فى الفرافرة قائلا: »إننا نعيش فى شبه دولة وليست دولة حقيقية، مصر يجب أن تصبح دولة بأن تكون هناك مؤسسات قوية، وأن يسود القانون على الجميع«. ماقصده الرئيس واضح تماما، هو يتحدث عن مقومات دولة حديثة تحكمها المؤسسات القوية وسلطة القانون، لكن المفارقة أن كثيرين ممن ينتقدون تعبير »شبه دولة« هم شركاء حقيقيون فى الحالة التى وصلنا إليها، وبشكل أكثر وضوحا لو راقبنا أداء وسلوكيات قيادات فى الجهاز الإدارى للدولة وسلوك وتصرفات عناصر من اليسار فى مواقع شغلوها باسم ثورة 30 يونيو نجدها لا تختلف عن سلوكيات وتصرفات عناصر إخوانية فى مواقع شغلوها باسم ثورة 25 يناير، حيث نرى رغبة فى خلق كيانات مستقلة، وهؤلاء يفرضون ما يمكن تسميته «سلطة الأمر الواقع» فى مواجهة الدولة. لا يرغب أحد من هؤلاء فى تغيير الأوضاع إلى الأفضل، وهناك تحالفات خفية بين جماعات المصالح وطبقة من البيروقراطية المصرية وعناصر يسارية لا تريد تحريك الأوضاع، لأن هناك منافع متبادلة وشبكة واسعة من العلاقات المصلحية التى لا يمكن إنكارها، وتتجلى أمام أعيننا فى مظاهر شتي، منها بقاء حال مؤسسات بالدولة دون تغيير أو محاولة تصدى القيادات العليا لأوجه الفساد مثل الرشوة والمحسوبية والإهمال وغياب المحاسبة، ففرض »سلطة الأمر الواقع« مسألة يشارك فيها مجموعات وفئات عديدة فى المجتمع وهم يديرون صراعاتهم بما يوحى بأن هناك صراعا بين أجهزة الدولة. وبطبيعة الحال فإن الانطباعات أقوى من الحقائق إذا كانت تدعمها سلوكيات وتصرفات توحى بذلك فى مصر. توجد أمثلة عديدة تؤكد ما أقول، فبماذا نفسر هذا الخروج العشوائى لمن يطلق عليهم »دعاة« فى برامج فضائية يقولون كلاما يخالف ما يخرج عن مؤسسة الأزهر الشريف منارة الدين الإسلامى فى الشرق والعالم، ويبدو هؤلاء الدعاة أحرارا فيما يقولون ويصارعون مؤسسة الأزهر فى نفوذها رغم كل المآخذ التى نعلمها عن سيرة الكثيرين منهم، خاصة من يملكون تاريخا فى التشدد والفتاوى المضللة. ما هو سر بقاء هؤلاء على الساحة؟ وهل وجودهم يعنى أن الدولة غير قادرة على المواجهة فعلياً؟ مثال آخر، سلطة النشطاء السياسيين فى مواجهة الدولة، فمنهم من يرتكب يوميا جرائم تحريض علانية ضد السلطة بشكل يندر أن يتكرر فى بلد آخر. فهناك خطوط فاصلة بين النقد الموضوعى والنقد الهدام، وحتى المعارضة السياسية لا يمكن أن تنجرف إلى حالة من الدعوة إلى الفوضى الشاملة مثلما هو حاصل اليوم بما يبرهن على فشل نخبة من السياسيين ونشطاء المجتمع المدنى حتى الآن فى »خصخصة« الثورتين فى مصر لمصلحة مخطط »الاستيلاء الثورى على السلطة«. فهل استمرار هذه الحالة أيضا يعنى أن الدولة ضعيفة وتلجأ هى - أو جانب فيها - إلى أسلوب المواءمات السياسية نفسه الذى انتهجه نظام مبارك مع جماعة الإخوان والذى جعل الدولة «شبه دولة»؟!
«كثيرون ممن ينتقدون تعبير «شبه دولة» هم شركاء حقيقيون فى الحالة التى وصلنا إليها.. وبشكل أكثر وضوحا لو راقبنا أداء وسلوكيات قيادات فى الجهاز الإدارى للدولة وسلوك وتصرفات عناصر من اليسار فى مواقع شغلوها باسم ثورة 30 يونيو نجدها لا تختلف عن سلوكيات وتصرفات عناصر إخوانية فى مواقع شغلوها باسم ثورة 25 يناير ،حيث نرى رغبة فى خلق كيانات مستقلة وهؤلاء يفرضون ما يمكن تسميته ب «سلطة الأمر الواقع» فى مواجهة الدولة» «ما هو حاصل اليوم يبرهن على فشل نخبة من السياسيين ونشطاء المجتمع المدنى حتى الآن فى «خصخصة» الثورتين فى مصر لصالح مخطط «الاستيلاء الثورى على السلطة»... فهل استمرار هذه الحالة أيضا يعنى أن الدولة ضعيفة وتلجأ هى - أو جانب فيها - إلى نفس أسلوب المواءمات السياسية الذى انتهجه نظام مبارك مع جماعة الإخوان والذى جعل الدولة شبه دولة؟!» «ليكن فى معلوم الجميع فى السلطة التنفيذية والتشريعية أن غياب المواجهة الحاسمة الواضحة والسريعة فى قضايا الساعة مثل قضايا الإعلام والصحافة والوضع الاقتصادى والثانوية العامة وغرور السلطة الموازية يعنى التفريط فى هيبة الدولة»
لم يعد خافيا على أى محلل سياسى للأوضاع فى مصر أن مشروع »خصخصة« المجال العام تشارك فيه عناصر عديدة، وتتلاقى فيه جماعات مصالح مع نشطاء وحقوقيين ممولين يرون أن الأولويات الحالية للدولة لا تتفق مع أجنداتهم بمنح مساحة أكبر لحركة منظمات المجتمع المدنى الممولة من الخارج، ويستخدمون وسائل عديدة للضغط وتأليب الرأى العام، من بينها مواقع التواصل الاجتماعى التى صارت مرتعا للشائعات ليتحول الأمر فى نهاية المطاف إلى «سلطة ابتزاز وفوضى وإثارة» فى مواجهة «سلطة القانون»… فلماذا لا تطبق الدولة القانون، وهل مؤسساتها تخاف؟! المحصلة الطبيعية للخروج على سلطة الدولة والقانون، هى تعميق خرق القانون فى هذا البلد، وما نراه من مسلسل تسريبات الثانوية العامة عبر صفحات على موقع »فيسبوك« ليس سوى حلقة من تلك الحلقات، وتحالف الفاسدين فى وزارة التعليم مع المنفلتين على مواقع التواصل ما كان له أن ينجح لو لم تكن الدولة متراخية فى عقاب الخارجين على القانون. كما تمثل حالة اللعب فى سوق الدولار من جانب شركات الصرافة نموذجا صارخا لم تكن الإجراءات بقدر حجم الخطر على مقدرات الدولة. فكيف تقوم مجموعة شركات، يمتلك عدد منها أعضاء فى جماعة إرهابية، بتحدى سلطة البنك المركزى دون رادع تشريعى يقضى على تلك الظاهرة التى تهدد الاقتصاد المصري؟ وكيف نكتفى بإغلاق مقار ووقف نشاط شركات وفروع تابعة، ونترك شركات أخرى مشتبه فى ضلوعها فى تلك الجريمة دون حساب؟ فى الماضى القريب، أظهرت مجموعات »الأولتراس« تحدياً لسلطة الدولة وكانت عباءة لتنظيمات سياسية تحمل أهدافا خاصة، ومنها الجماعة الإرهابية، وعندما استفحلت حالة الخروج على القانون بدأت الدولة فى التعامل تدريجيا مع الأمر، وإن كانت القبضة مازالت رخوة فى مواجهة الحديث المتكرر عن خرق القانون وإعاقة عودة الجماهير إلى الملاعب ولو كانت الدولة جادة فى المواجهة لقامت بتفعيل القانون. من الخطأ أن تصدر الدولة صورة من لا يمكنه المواجهة، وأن تناشد الناس الالتزام بالقانون بينما يرى الناس من ينتهك سلطتها ويتحداها جهارا نهارا بلا رادع بل وينتصر عليها .. لو كانت هناك خلافات بين مؤسسات فى الدولة فمن حقنا أن نعلم ونخبر المواطنين عن كيفية الوقوف بحزم ضد دعاوى التشرذم والفرقة وزعزعة أركان الثقة فى الدولة لأن فقدان الثقة يعنى اتساع الهوة بين الدولة ومواطنيها، وهو ما يريده خصوم عملية التحول الجارية فى البلاد، وهى تجربة تنطوى على رؤى جديدة للتحول الاقتصادى والاجتماعي، يجب أن تتوافر لها فرص النجاح.. الأهم هو كيفية مواجهة الأخطاء والشخصيات الفاسدة التى تعيق عملية الإصلاح. ليكن فى معلوم الجميع فى السلطة التنفيذية والتشريعية أن غياب المواجهة الحاسمة الواضحة والسريعة فى قضايا الساعة، مثل قضايا: الإعلام والصحافة والوضع الاقتصادى والثانوية العامة وغرور السلطة الموازية يعنى التفريط فى هيبة الدولة وأن المواطن يثق أكثر فى حكومته عندما تملك شجاعة المواجهة وشجاعة الاعتراف بالخطأ.. فلم تعد الأيام الحالية تحتمل مداراة الأخطاء أو الدفاع عن أداء سيئ لمسئول .. فما ترونه من انفتاح المواطن على كل مصادر الأخبار والمعلومات له تبعات وأول واجبات الحكومة أن تضع الحقائق أمام المواطن حتى يكون شريكا فى المواجهة، وليس طرفا سلبياً فى معركة لابد وأن نخوضها عن يقين وثبات لمصلحة هذا البلد من أجل ألا يظل حلم بناء دولة مدنية حديثة بعيد المنال، ومن أجل ألا يتحول الأنصار إلى مقاعد المتفرجين... فقد انتهى عصر المواءمات السياسية، ومن يعتقد أن هذا النهج يصلح لعهد السيسى فقد أخطأ خطأً كبيرا فى حق البلد وفى حق الرئيس نفسه الذى يحظى بظهير شعبى غير مسبوق. لمزيد من مقالات محمد عبد الهادى علام