البنك الدولي مهموم بحال القطاع العام في مصر و لا يملك إلا أن يعبر عن أسفه العميق للوضع الذي آل إليه هذا القطاع! الاتفاقية الإطارية المبرمة بين الحكومة المصرية والبنك الدولي في نوفمبر 2015 تعلن بكل أسي أن القطاع العام، والذي لا يزال يسهم بما لا يقل عن 34% من الناتج المحلي الإجمالي، قد فشل فشلا ذريعا في الوفاء بحاجتين أساسيتين للاقتصاد المصري، أولهما خلق وظائف كريمة، وثانيهما تقديم خدمات عامة جيدة للمواطنين. كما أنه رغم كل ما تم من خصخصة في قطاع المال فإن القطاع العام لا يزال يملك حصة مؤثرة من أصول البنوك وشركات التأمين. وإزاء هذا الوضع يتعهد البنك الدولي بتقديم معونة فنية للحكومة المصرية في عملية إعادة هيكلة القطاع العام. طبعا معالم وتوجهات الدعم الفني المنتظر تظهر وتتضح من تصريحات الحكومة والبنك المركزي المصري. فمن ناحية يعلن محافظ البنك المركزي بأنه يجري دراسة طرح حصص في بنكين بالبورصة لزيادة رأسمالهما، بما يؤدي إلي خفض حصة الحكومة في كل منهما بنسبة 20%، فضلا عن دراسة طرح حصة البنك المركزي في أحد مشروعاته لمستثمر استراتيجي. كما يؤكد أنه يستهدف مع الجهات الحكومية أن تكون البورصة المصرية علي قمة البورصات في المنطقة ومن أقوي البورصات في الأسواق الناشئة. أما وزيرة الاستثمار فتعلن أن هناك خطة لبيع حصص من شركات القطاع العام تصل قيمتها إلي 90 مليار جنيه من خلال طرحها في البورصة. حتي وزير قطاع الأعمال العام الذي لا يكف عن التأكيد أنه لا توجد أي نية لبيع أو تصفية المشروعات العامة، يصرح بأنه سيتم الاستفادة من الشركات الرابحة وذات السمعة المالية الطيبة في طرح جزء من رأسمالها بنسب تتراوح بين 10% و 15%، علي أن يتم استغلال هذه الأموال في تطوير الشركات وفي دعم الشركات الشقيقة التي تعاني أزمات سيولة... باختصار... تاني تاني تاني.. راجعين للخصخصة من تاني! طبعا تصريحات المسئولين عن استخدام البورصة في توفير التمويل اللازم للمشروعات العامة وزيادة رؤوس أموالها يذكرنا بما قيل لنا في ظل نظام مبارك إن الدافع وراء خصخصة الشركات الرابحة هو الرغبة في تطويرها وضخ رؤوس أموال إضافية واستثمارات جديدة. إلا أن الواقع الفعلي للشركات المباعة قد أسفر عن سيناريو متكرر لتقليص النشاط وتفكيك البنية الإنتاجية وفصل العمال وإجبارهم علي الخروج إلي المعاش المبكر. أما فيما يتعلق بالبنوك، فعلي الرغم من أن خطة إعادة هيكلة الجهاز المصرفي قد أدت بالفعل إلي تدعيم المراكز المالية للبنوك ورفع قدراتها التنافسية وتطوير وتدعيم القدرات الإشرافية و الرقابية للبنك المركزي نفسه، إلا أن الثمن المحدد كان بيع كل من بنك الإسكندرية وبنك القاهرة. طبعا قوة الرفض الشعبي أدت إلي الاقتصار علي بيع بنك الإسكندرية، ليتحول من بنك متخصص في إقراض المشروعات الصناعية إلي بنك يركز علي القروض الاستهلاكية للأفراد. والآن يعود البنك الدولي ليتذكر خصخصة البنوك وشركات التأمين العامة، ويستجيب البنك المركزي وتستجيب الحكومة! الشعب لم ينس أحكام القضاء النهائية بشأن كثير من الشركات التي تم خصخصتها، والتي تحدثت عن المخالفات و إهدار ملكية الشعب، والغش ممن ولي إدارة هذا المال، وعن بيع الأصول العامة بأثمان بخس. الشعب لم ينس أن المسئولين عن إبرام تلك العقود لم يحاسبوا ولم يقدموا للقضاء. وإذا كان الهدف هو تنشيط البورصة لتكون من أقوي بورصات الأسواق الناشئة فكيف سيتم اجتذاب المتعاملين الأجانب؟ هل بطرح الحصص برخص التراب حتي يحققوا الأرباح فور تداول الأسهم؟ هل ستؤكد الحكومة للمتعاملين الأجانب أنهم لن يتحملوا أي ضرائب علي ما يحققونه من أرباح، وأنها قد أوقفت العمل بضريبة الأرباح الرأسمالية علي معاملات البورصة؟ الشعب لم ينس أن حل مشكلة البنوك الخاصة المتعثرة لم يكن لينجح لولا وجود بنوك عامة تحملت عبء استيعاب البنوك المدمجة ومحفظة مديونياتها المتعثرة وحماية أموال المودعين من الضياع. لم ننس أن بنوك القطاع العام هي التي تقدمت لشراء أذون الخزانة التي قام المستثمرون الأجانب ببيعها عقب اندلاع الأزمة المالية العالمية، ثم عقب ثورة 25 يناير. لم ننس أن الشريكين الفرنسيين في كل من بنك سوسيتيه جنرال و بي إن بي باريبا قاما بالخروج من السوق المصرية استجابة لاحتياجات بنوكهما الأم في الخارج، ودون أدني مراعاة لظروف الاقتصاد المصري. الشعب لم ينس تصريحات محافظ البنك المركزي المصري عن الشركة الأمريكية الشهيرة التي حققت أرباحا هائلة من السوق المصرية ومولت نشاطها بالاقتراض من بنوكنا ثم لوحت بالخروج تململا من معاناة الاقتصاد المصري من نقص موارد النقد الأجنبي. القطاع العام يمثل أحد الأسلحة المهمة التي تستند إليها الدولة القومية في أوقات الحروب وأوقات الأزمات. مشكلتنا أن سياسات تصفية القطاع العام قد أضعفت هذا السلاح. صحيح أن الدولة تحاول توفير البديل الموضوعي عبر المؤسسة الاقتصادية للجيش، إلا أن هذا لا يكفي ولا يمكن أن يغني عن استعادة كفاءة وقوة المشروعات المدنية العامة. نحن نخوض حرب وجود.. والمؤكد أننا نحتاج إلي تعبئة وتدعيم كل طاقاتنا وليس التسليم طواعية بتجريدنا مما يمكن أن يمثل أهم أسلحتنا الاقتصادية. لمزيد من مقالات د. سلوى العنترى