قال الله تعالي: يؤتي الحكمة من يشاء, ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيرا كثيرا, وما يذكر إلا أولو الألباب( سورة البقرة: آية269). وإذا كانت هذه الآية تقرر قدر من حاز هذه الفضيلة فضيلة الحكمة فإنه من أبرز معانيها: الإصابة في القول والعمل, أو علم الحلال والحرام, كما قال ابن عباس رضي الله عنه, ولما كان المصدر الذي يؤخذ منه علم الحلال والحرام, هو القرآن الكريم أولا, ثم السنة الصحيحة ثانيا, فقد جاءت بعض آيات الكتاب العزيز تقرر ذلك في صراحة ووضوح, كما في قوله تعالي: هو الذي بعث في الأميين رسولا منهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين( سورة الجمعة: الآية2). والمقابلة بين الكتاب والحكمة هنا تؤكد أن المراد بها: السنة الصحيحة كما قلنا, وما كان تقرير أصول الاسلام وفروعه إلا من هذين المصدرين العظيمين: الكتاب والسنة, فأما الكتاب فهو الدستور الشامل الجامع لأحكام الحق سبحانه التي أنزلها علي عباده في كتابه, ليحكم بها حياتهم, حتي تستقيم علي طريق الحق, الذي لا عوج فيه ولا أمتا. غير أن هذا الدستور قد يأتي ببعض القواعد العامة والمبادئ الكلية, وهنا تأتي مهمة السنة النبوية, لتتولي البيان والتوضيح والتفصيل, كما يشير إلي ذلك قوله تعالي: وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم..( سورة النحل: من الآية44) وتظهر هذه المهمة في نفس الوقت مكانة السنة النبوية بالنسبة للقرآن الكريم حتي تقيم الحجة البالغة أمام كل من تسول له نفسه الامارة بالسوء القول بكفاية القرآن الكريم عنها, إذ كيف يصح ذلك والقرآن نفسه, ينادي كل ذي عقل: من يطع الرسول فقد أطاع الله ومن تولي فما أرسلناك عليهم حفيظا( سورة النساء: آية80) فهل طاعة الرسول صلي الله عليه وسلم إلا تنفيذ لأمر الله تعالي, وأمره سبحانه إما أن يكون في كلامه المنزل علي رسوله بواسطة الوحي الأمين, بلفظه ومعناه, المتحدي به, المتعبد بتلاوته, المنقول إلينا بالتواتر( القرآن الكريم) أو بما أوحي الله به إلي رسوله صلي الله عليه وسلم لا بطريق الوحي المعهود, ولكن بطريق الإلهام أو الالقاء في الروع, وهو أحد أنواع الوحي, والذي يكون اللفظ فيه لرسول الله صلي الله عليه وسلم, وأما معناه فيكون من الحق سبحانه وتعالي, والذي يقرره قوله تعالي: وما ينطق عن الهوي, إن هو إلا وحي يوحي( سورة النجم: آية4,3). * واطرادا مع عادتنا حين نكتب عن الاسلام أن ننظر من خلاله إلي واقع حياتنا, حتي يظل ممسكا بها موجها لها, كي تصير إلي غايتها الصحيحة, نقول: في حياتنا الواقعية ثنائيات أشار إليها القرآن, مثل: الحق والباطل الحلال والحرام, الهدي والضلال, الظلمات والنور, الايمان والكفر, إلخ, وتتقارب الأطراف في الجانب الايجابي من هذه الثنائية مثل: الحق الحلال الهدي النور الايمان كما تتقارب الأطراف في الجانب السلبي كذلك مثل: الباطل الحرام الضلال والظلمات الكفر, وما اتبع القرآن الكريم هذا النهج القويم إلا ليستحضر في صعيد واحد هذه الاضداد, وقد يورد بعد كل موقف منها, العاقبة التي تنتظر كل واحد يؤثر أي طرف من أطراف هذه الثنائية علي الآخر, حتي يكون ذلك أكثر تأثيرا في النفس, ليهلك من هلك عن بينة ويحيا من حي عن بينة, وللقارئ أن يقف, ولو قليلا أمام قوله تعالي: وقل الحق من ربكم فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر, إنا اعتدنا للظالمين نارا أحاط بهم سرادقها وإن يستغيثوا يغاثوا بماء كالمهل يشوي الوجوه بئس الشراب وساءت مرتفقا( سورة الكهف: آية29). وبأدني نظر يفهم العاقل أن الذي آثر الكفر علي الايمان, قد ظلم نفسه وأوردها موارد التهلكة, التي تحدث عنها المقطع الأخير من الآية الكريمة, كما يفهم أيضا أن من آثر الايمان علي الكفر فقد أعد الله له في الآخرة من النعيم المقيم الشيء الكثير. إن حديثنا هنا موجه إلي الفريقين من أبناء أمتنا: الذين خوطبوا بهذا الكتاب العزيز, الفريق الأول الذي استحب الايمان علي الكفر والحلال علي الحرام, والهدي علي الضلال والنور علي الظلمات, لنقول لهؤلاء, لقد كنتم ومازلتم أذكياء في اختياركم هذا, لأنكم استجبتم لتوجيهات خالقكم, ونداءات فطرتكم الصحيحة, وعقولكم الصحيحة. وأما الفريق الثاني الذي استحب العمي علي الهدي والحرام علي الحلال والكفر علي الايمان والضلال علي الحق والظلمات علي النور, فنقول لهم: ارتفعوا فوق أنانيتكم الضيقة واعملوا عقولكم وعودوا إلي رصيد فطرتكم وآثروا الباقي علي الفاني, وإذا كنتم قد جئتم شيئا إدا في حق الله وحق أنفسكم فليس علي الله بعزيز أن يغفر لكم, ورحمته وسعت كل شيء, وباب توبته مفتوح آناء الليل وأطراف النهار. فطهروا أنفسكم مما شابها من أدران, وعقولكم من الأباطيل والخرافات, وقلوبكم من أمراض أفقدتها معني الحياة الحقيقي, وطهروا أيديكم مما اقترفته من الأخذ بغير حق واستحلته بغير مبرر, فإذا فعلتم ذلك كنتم ممن أراد أن يسلك طريق الحكماء, واستعفي من طريق البلهاء.