لاشك في أن البحث العلمي يعد الركيزة الأساسية لبناء مجتمع المعرفة, وهو المجتمع الذي تكون أنشطته الاجتماعية والاقتصادية والثقافية, وكل الأنشطة الإنسانية الأخري قائمة ومعتمدة علي المكونات المعرفية, وعلي المعلومات بشكل أساسي, وفي هذا المجتمع يقوم البحث العلمي بدور المولد والمنتج للحلول والأفكار الإبداعية التي تسهم في تطور الحياة الإنسانية ككل, فضلا عن المجتمع الذي يقوم بإنتاجها, وتعد الجامعات الحاضن الرئيس للبحث العلمي, بالإضافة إلي مراكز الأبحاث المتخصصة, وبنوك التفكير, والتي تعد في بعض الدول السلطة الخامسة. ويحتاج البحث العلمي إلي القنوات الملائمة لتحويل مخرجاته إلي منتجات وابتكارات يمكن أن تفيد الإنسان, وإلا بقي حبيس الأوراق والأدراج والأرفف كما هو الحال في عالمنا العربي وبالتالي فإن البحث العلمي والابتكار يندرجان في منظومة علمية واحدة. وهذا يقودنا إلي السؤال عن كيفية قياس إنتاج المعرفة في الجامعات عموما, وفي جامعاتنا بوجه خاص؟ فهناك صعوبة في الحصول علي معلومات حديثة ودقيقة ومتكاملة حول مخرجات أنشطة البحث العلمي في جامعات العالم العربي عموما, غير أنه يمكن بشكل عام قياس مخرجات البحث العلمي من خلال المنشورات العلمية والابتكارات. وما يعنينا هنا البحوث التي ينفذها أعضاء هيئة التدريس, وهي في الغالب بحوث للترقية إلي درجة أستاذ مساعد, أو أستاذ, وهي بحوث لا تجد توصياتها أذنا صاغية من صناع القرار, ولا يستفاد من نتائجها في رسم سياسات التعليم أو تطوير المناهج وطرق التدريس, أو تطوير عمليات التقويم, أو مصادر التعليم, أو غيرها مما يتصل بنتائج البحث, وهي بحوث تتم بجهود فردية, وبمبادرات شخصية, وليست مؤسسية التنظيم بمنظومة متكاملة, وغير ملبية لحاجات الميدان ومخططاته, كما أن إسهاماتها في تطوير المعرفة وإنتاجها تكون ضئيلة إن لم تكن معدومة, وفي الغالب تعاني هذه البحوث ضعفا شديدا, وارتكاب العديد من الأخطاء البحثية كما يؤكد ذلك خليل الخليلي رئيس مجلس إدارة تحرير مجلة العلوم التربوية والنفسية التي تصدر عن كلية التربية بجامعة البحرين وبالرغم من أن إعداد البحوث العلمية تهدف إلي إبداع وتكوين معرفة جديدة, حيث تكون الجهود مركزة لتطوير منهجيات جديدة, إيجاد أدوات بحثية جديدة, وبناء نماذج نظرية جديدة, تسمح بتفسير أفضل للواقع, بل وحتي يمكن إيجاد معلومات جديدة, إلا أن بحوثا لأعضاء هيئة التدريس يكون هدفها التوصل إلي منتج غايته الترقية, وبالتالي فالعملية البحثية هنا عد للتقدم للترقية, وفي هذه الحالة تصبح النتائج أقل أهمية مما يظهر في النهاية في شكل مقالة أو تقرير بحثي أو أي شيء آخر غير البحث العلمي....! وقد جهدت بعض البحوث العربية إلي تحديد أهم الأسباب التي تقف وراء انحسار الممارسة الإبداعية في مجال البحوث التربوية, والتي يمكن إرجاعها إلي سبب رئيس يتمحور حول ضعف بيئة الإبداع داخل الأروقة الأكاديمية والبحثية, من جراء انخفاض منسوب الإيمان بحتمية العمل الإبداعي في صناعة الأبحاث وإنتاج المعرفة, والذي أنتجه غياب حقيقة مؤداها أن الإبداع مقوم أساسي في مشروع التحضير لدينا, وقد كان لضعف الإيمان بأهمية العمل الإبداعي انعكاسات خطيرة, إذ إنه مولد ضخم لجملة من الأسباب الفرعية التي راحت تغذي ثقافة اللاإبداع, ثقافة الترحيب الميكانيكي بالأفكار بدلا من صناعتها. ومن المهم هنا أن نورد جملة من المظاهر التي تدلل علي فرضية ضآلة تشجيع البحث العربي للإبداع منها أن كتب مناهج البحث العربية لا تصنع الإبداع, ولا تحث عليه, فمعظم هذه الكتب توجه إلي الباحثين المبتدئين من طلاب الدراسات العليا ونحوهم, وتتضمن في الغالب مجموعة من الإرشادات والنصائح لتلك الفئة من الباحثين, بما في ذلك لفت أنظارهم إلي خصائص ومهارات الباحث العلمي, والتي تخلو في الأغلب الأعم من أي إشارة إلي قضية الإبداع أصلا. ومن المظاهر التي ندلل بها علي ضآلة تشجيع البحث للإبداع غلبة الأسلوب الكمي في البحوث التي يجريها باحثونا. حيث يسود مختلف تخصصات العلوم الإنسانية, وذلك نظرا لسهولة تنفيذه, وسرعة إنجازه, وهذا الأسلوب البحثي يعجز عن اقتحام مجالات معرفية جديدة بتكوين, وتطوير نظريات ونماذج جديدة, وتجدر الإشارة هنا إلي أن البحوث الإنسانية الغربية بدأت وبمستويات متزايدة بتوجيه نقد حاد للبحث الكمي في مجال العلوم الإنسانية لضعفه, بل وعجزه عن فهم وتفسير الظواهر المعقدة في محيط النفس والمجتمع بتشكيلاتها ومظاهرها المختلفة, بل يعد بعض الباحثين الغربيين أن التوجه نحو البحث الكيفي أو النوعي أحد أبرز معالم ما بعد الحداثةpostmodernism. ومن خلال استقراء الوضع الدولي يتضح لنا أن أي دولة أو أي إقليم تحقق تقدما مهما في البحث العلمي التربوي, يصبح باحثوها ومراكزها البحثية حجة في هذا المجال, وقدرتها وإمكاناتها علي تفسير الواقع تزداد باستمرار, ويعود هذا إلي حد كبير بفضل حقيقة أن الشك في الظاهرة التعليمية يصبح مقبولا كمبدأ للبحث التعليمي التربوي, وبالرغم من بعض الاستثناءات للقاعدة, فإن التجربة قد تم إقرارها في أمريكا اللاتينية وأوروبا, وثمة مثال بارز علي تقبل مناهج البحث النوعية( الكيفية) يتمثل في تطبيق الدراسات الاثنوغرافية الذي أسفر عن نتائج مفيدة في دراسة العمليات التعليمية في داخل الأقليات الثقافية في الأمريكتين وإفريقيا. ومع ذلك, فإن فكرة تكامل المنهجين يزداد الاعتراف بهما, وعلي مستوي العالم يظهر ذلك التكامل بشكل خاص في الجامعات, وفي المراكز البحثية.وتأسيسا علي ما تم تقريره من ضعف الإنتاج البحثي الإبداعي لدينا يثور هذا السؤال: إلي أي مدي سنظل نرتاح للنقل عن الأجنبي, ونأنف من بذل الجهد في الإبداع المحلي....! إلي أي مدي ستظل عقولنا مسودة لا سيدة, تعيش رد الفعل, ولا تبادر بالفعل...! وبمعني آخر إلي أي مدي سنظل مستمرين في فضاء الفكر والتحضر( وهما) متسلحين بعضلات التفكير الميكانيكي, الذي ينقل لنا الأفكار ويجربها غير أنه لا يصنعها....!! وإلي متي ننتظر نظراءنا الغربيين ليتفضلوا علينا بنماذج نستخدمها في محيط التربية وعلم النفس والمناهج وطرق التدريس..؟! لمزيد من مقالات د.محمد محمد سالم