يؤدي البحث العلمي دورا أساسيا في تقدم المجتمعات وتطورها وأصبح الاهتمام به من المقاييس الرئيسية التي تقاس بها حضارة الشعوب وتقدمها ، وتعد مؤسسات التعليم العالي مثل الجامعات والمعاهد ومراكز البحوث ، البؤر الرئيسة التي تصدر عنها البحوث العلمية ، حيث يشكل البحث العلمي العمود الفقري لهذه الجامعات والمراكز، وهو من أهم الأنشطة التي تناط بعضو هيئة التدريس. يُعد البحث التربوي مجالاً من مجالات البحث العلمي يهتم بمعالجة مشكلات وقضايا تربوية، بهدف الوصول إلى حلول ممكنة ومناسبة لها. كما يساهم في رسم السياسة التربوية، وتوفير المعلومات والبيانات اللازمة لصنع القرار التربوي. ويمهد البحث التربوي إلى عمليات التغيير والتجديد التربوي وإثراء المعرفة وتوظيفها لحل المشكلات. فالبحث التربوي يُعد أحد الأدوات الهامة التي لا غنى عنها لمواجهة المطالب المتجددة لمنظومة التعليم , سواء من حيث تقديم معالجة علمية موضوعية للمشكلات و القضايا , أو من حيث صوغ الحلول والقرارات التي يقود تبنيها نحو تطوير الأداء التربوي عموما , و ضمان القوة والفاعلية للمؤسسة التعليمية في ظل عالم ينحو بقوة نحو الإبداع , و تصنيع المعرفة باعتبارها وقود النهضة الحديثة ، ووسيلة أساسية للانضمام الى مجتمعات المعرفة ، فالمنظومة التعليمية في أي بلد لا يمكنها أن تستقيم و تنجح في أداء دورها كقاطرة للتنمية , وركيزة أساسية في البناء الحضاري إلا إذا تمتع البحث التربوي بسلطة القرار في تدبير وتوجيه السياسة التعليمية ، ورصد العوائق و المشكلات التي تحد من فاعلية المخططات والمشاريع التربوية , سواء كانت هذه المعوقات داخلية متولدة عن خلل في التصورات , أو خارجية منبثقة عن تفاعل المؤسسة مع محيطها الاجتماعي و الاقتصادي . إن العمل التربوي الذي لا يوجهه أو يدعمه البحث العلمي يكون عملاً عشوائياً عبثياً، كما أن التربية التي يعوزها البحث التربوي تكون غير قادرة على رؤية إمكانات المستقبل لأنها تكون مشدودة أكثر إلى الماضي. حيث ينبغى ان يرتبط البحث التربوي بالعملية التربوية في مختلف أبعادها وبالقضايا التي تطرحها من خلال الاهتمام بتطوير المناهج وبتقويمها وبأساليب التدريس، وبالسياسة التعليمية وبإعداد المدرسين وبتدريبهم أثناء الخدمة وبتقويم الكفاية الداخلية والخارجية للمؤسسات التعليمية وبأساليب التقويم التربوي وتقنياته عامة ، إضافة إلى اهتمامه بالمسائل ذات الطابع الاستشرافى من خلال اهتمامه بوضع السياسات والاستراتيجيات التربوية الى غير ذلك من الأمور المتعلقة بمستقبل النظام التعليمي بكافة جوانبه ، بالشكل الذى يساعد على اتخاذ كثيرا من القرارات الرشيدة من اجل تقويم وتطوير النظم التربوية في كافة جوانبها. ان البحث التربوي أصبح فى الوقت الحاضر مطلبا اجتماعيا لمواكبة الحاضر والاستجابة لمطالبه ، في ظل ما تعانيه مؤسستنا التربوية من تراجع فى ادوارها ، وعجزها عن الاستجابة للإقبال المتزايد على التعليم ، بل والعجز تقديم التعليم الذى يرضى طموحات طالبيه ، والبطء الشديد في مسايرة التطور التكنولوجي والعلمي المُذهل ، وضعف ارتباطها في أهدافها ومناهجها وأساليبها بالواقع . والاعتماد الشديد على استيراد مخططات ونظريات منزوعة من سياق اجتماعي وفكري يبلغ حد التصادم مع واقعنا .. وقيمنا ..ومعتقداتنا . يشير واقع البحث التربوي فى مصر من خلال ما تم تداوله في عدد من الأبحاث و الدراسات حول الوضع الراهن للبحث التربوي ، الى عدد من الأمور التي لابد من الوقوف أمامها وتحليلها والوعي بكافة جوانبها قبل تقديم الرؤية المستقبلية والتى تتمثل فيما يلي: 1- غياب الخريطة القومية البحثية وعدم وجود سياسة واضحة المعالم للبحث التربوي على المستوى العربي ، يمكن أن تستند إليها المراكز البحثية والجامعات لتحديد محاور البحوث وتنفيذها إضافة إلى عدم وجود استراتيجيات تضبط الأولويات بالرجوع إلى مطالب المجتمع واحتياجاته ومشكلاته ومتطلبات خطط التنمية الخاصة به ، مما ترتب عليه القيام بالبحوث بصورة اجتهادية ان لم تكن عشوائية ، كما ترتب عليه تكرار البحوث ، وأصبح الأمر متروكا للمزاج الشخصي في الاختيار والسهولة في الإجراء . 2- افتقاره للأصالة والإبداع حيث تقر عدد من الدراسات ضعف الأصالة والإبداع في البحوث التربوية على مستوى الأقطار العربية ، وان كان ذلك بنسب متفاوتة ، وتتمثل هذه الظاهرة في ان البحوث المنجزة عبارة عن تكرار لأبحاث الغير مع إدخال بعض التعديلات الطفيفة عليها ولا توجد بها إضافات حقيقية للمعرفة في مجالات تخصصها ، يعجز أصحابها عن إعطاء تفسير كامل لنتائجها أو استخلاص المؤشرات الهامة منها، لذلك تظل أهميتها متدنية ومحدودة. أن كثيراً من رسائل الماجستير والدكتوراه ليست في جوهرها الا محض استعادة لبحوث أجنبية أو محض تطبيق لأدوات بحث غربية على عينات من العرب ، كما ان الكثير من هذه الأبحاث - كما يرى البعض -ما هى إلا مبادرات لملء الفراغ التربوي باستيراد مخططات ونظريات منزوعة من سياق اجتماعي وفكري يبلغ حد التصادم مع واقعنا .. وقيمنا ..ومعتقداتنا ، وعدم التعامل مع البحث التربوي باعتباره فرعاً معرفياً يمتلك فكره الخاص ويحمل دينامية نموه وتطوره وتاريخه الخاص وفلسفته وسوسيولوجيته ومدارسه ومناهجه وأزماته من المجتمع الذى يوجد فيه . 3- معظم البحوث التربوية غير مرتبطة بمدرسة فكرية معينة وينقصها العمق، والإجراءات البحثية غير دقيقة تماماً ، ولذلك فإن نتائجها غير موثقة بدرجة كافية ، والكثير من هذه الأبحاث يعجز أصحابها عن إعطاء تفسير كامل لنتائجها ، أو استخلاص المؤشرات الهامة منها ولذلك تظل أهميتها متدنية ومحدودة ، فهي مبعثرة وغير مرتبطة بمدرسة فكرية تربوية معينة. 4- كثيرا من البحوث التربوية تخلو من دراسة مشكلاتنا التربوية بل تستمد مجالاتها من اتجاهات البحوث التربوية في المجتمعات الغربية – إضافة إلى الاستغراق في المسائل الأكاديمية والبعد عن المشكلات الواقعية - ومن ثم فهي تبدو مغتربة عن واقعنا التربوي ، وليس أدل على ذلك من تلك البحوث التي تستقر على رفوف مكتبتنا التربوية ، ولا نجد اى صدى او تفاعل مع هذا الواقع ، فبحوثنا التربوية لازالت حبيسة التنظير الغربي ، تنهل من مصادره ، وتلتزم مناهجه ، وهى لذلك لا تفلح في فهم وتفسير الواقع التربوي الذي تعلنه مجالا لها ، وتأتى نتائجه هجينا بلا تماسك أو وحدة ، لا توجد بها إضافات حقيقية للمعرفة في مجالات تخصصها وذلك لتشعبها من ناحية وعدم أصالتها من ناحية ثانية. 5- التركيز فى معظم بحوثنا علي البحوث التربوية الكمية ومع غياب البحوث الكيفية أو النوعية ، فمعظم الباحثين - من المعيدين والمدرسين المساعدين- غير ممارسين لمهنة التدريس, حيث لا علاقة لهم بالمدارس إلا في فترة تطبيق تجربة البحث وهو ما جعلهم أيضا يبتعدون عن اختيار المشكلات التربوية الواقعية ذات العلاقة بالعملية التعليمية داخل مدارس التعليم العام( منهجا وأسلوبا وتدريبا وتقنية وتقويما) ، "ولاشك في أن انخفاض مستوى التوعية والتدريب على الأساليب البحثية النوعية ، يعد سبباً رئيساً وراء عدم الإقبال على البحث النوعي في العلوم الإنسانية". إن أخطر ما يهدد البحث في جامعاتنا يتمثل في ضعف الطرق التي ينفذ بها؛ فهي تسير على "منهج التقليد لا منهج التجديد"، فبالرغم من تنوع مداخل وأساليب وأدوات البحث (في العلوم الإنسانية بالتحديد: العلوم التربوية، والإدارية، والنفسية والاجتماعية)، إلا إن المتتبع للإنتاج البحثي يلحظ غلبة أدوات وأساليب المدخل الكمي (الدراسات المسحية والتجريبية، وخلافها) ، في إغفال واضح للمدخل النوعي ، بالرغم من الجهود المكثفة التي تبذل في سبيل تطوير إطاره الفلسفي والمفاهيمي ، وأساليبه , وأدواته ، وإجراءاته، وتزايد عدد الكتب والمجلات والجمعيات المتخصصة فيه ، فالسيادة ما تزال قائمة للأساليب الكمية، مما يعني، حتماً انخفاض جودة البحث العلمي ، من المقبول أن نجادل أن الباحثين بجامعاتنا تطرقوا لكثير من المواضيع ولكنهم لم يبحثوها، وإن توهموا ذلك، لأن المدخل الكمي غير صالح لدراسة جميع القضايا البحثية في مجتمع يحظى بحراك اجتماعي كبير، ويواجه العديد من القضايا المختلف عليها العولمة ، الجودة ، المواطنة ، التسرب ،العنف ...وغيرها ، كما ان" الكثير من هذه الأبحاث في ظل الأسلوب الكمي يعجز أصحابها عن إعطاء تفسير كامل لنتائجها أو استخلاص المؤشرات الهامة منها، لذلك تظل أهميتها متدنية ومحدودة. وتنبع أهمية الأساليب والأدوات النوعية فى أنها تبحث جوانب في السلوك الإنساني يصعب على الأساليب والأدوات الكمية بحثها، وانطلاقاً من مسلمة أن الأساليب والأدوات الكمية، لا تكفي للإجابة بصدق عن جميع الأسئلة البحثية ، فبينما تهتم الدراسات الكمية بتحليل العلاقات السببية بين المتغيرات، في مقاييس كمية مختصرة ، تذهب الأبحاث النوعية بصورة عميقة لتكشف عن المعاني والعمليات التي ينشأ منها السلوك الإنساني، الفردي والجماعي . 6- ينظر أعضاء هيئة التدريس إلى الإنتاج العلمي على أنه شأن ذاتي وينشرون أبحاثهم لأغراض الترقية وليس لأغراض التنمية والحاجة الاجتماعية أو الاقتصادية أو السياسية إليها، وبما أن الترقية بحاجة إلى عدد من البحوث المنشورة في مجلات محكمة، فيضطر الباحث إلى تجزئة البحث الواحد وتقسيمه وبعثرته في عدة بحوث بالدوران حول الموضوع نفسه ، فمرة دراسة استطلاعية وأخرى ميدانية ثم تحليلية وأخيرا تطبيقية ، فهذا ما يحدث في البحوث التربوية والاجتماعية وأحيانا في مجالات أخرى ، فهي صدى مباشر لبعض اهتمامات أعضاء هيئة التدريس وليست جواب لمشكلة أو قضية تربوية معينة تعاني منها البيئة التربوية المحلية أو العربية ، وحتى تأتي أبحاث عضو هيئة التدريس على مستوى جيد ، فمن المفروض أن ينتمي إلى مدرسة فكرية معينة من شأنها أن تحدد له اهتماماته من ناحية وأن تحدد مساراته البحثية من ناحية ثانية. 7- قلة البحوث الجماعية وقلة التعاون بين أعضاء هيئة التدريس في التخصص الواحد سواء على مستوى الجامعة أو القطر أو الإقليم ، أو بين التخصصات في العلوم الأخرى ، على الرغم من أن ذلك يخالف طبيعة التربية وطبيعة مشكلاتها المتشابكة والمتداخلة ، فالكثرة الغالبة من المشكلات تتطلب ضرورة التكامل والتعاون والتنسيق بين التخصصات التربوية من اجل التصدي لها ، وبذلك يمكن أن يكون للبحوث تأثيرها وأهميتها في الواقع العملي ، وبالتالي يمكن أن تعمل على تضيق الفجوة بينها وبين هذا الواقع . إن هذا يتنافى مع طبيعة المشكلة التربوية في مجالها الحيوي وواقعها العملي ، فالمشكلة التربوية في هذا الواقع لا تعرف التصنيفات أو الأقسام في التخصصات التربوية ، لأنها واحدة ولا تقبل التجزيء ، فلها متغيراتها المتعددة وعلاقاتها المتعددة المتفاعلة ، المتأثرة ببعضها والمؤثرة في بعضها ، صحيح هناك بعض المشكلات النوعية التي يمكن أن يختص بها قسم أو تخصص معين ، ولكن هذه المشكلات قليلة للغاية أما الكثرة الغالبة من المشكلات فدراستها تتطلب التكامل والتنسيق والتعاون بين التخصصات التربوية من اجل التصدي لها . 8- المبالغة في استخدام الأرقام والوسائل الإحصائية لتحليل بياناته ، وبصورة أكثر مما يتحمله البحث ، إن الأرقام وحدها هي وسيلة فقط وان وجودها واستخدام الإحصاء المعقد لتفسيرها لا يضمن مطلقا التوصل إلى تحليلات واستنتاجات دقيقة ، ولكن الإطار المرجعي للباحث ونظرته النوعية للأمور وسعة اطلاعه وإلمامه بمجالات التربية من فلسفة وأصول ، تمكنه من تفسير نتائجه والاستفادة منها وتوظيفها. إن حشو البحوث التربوية بالمعطيات الإحصائية والأرقام لإضفاء العلمية والموضوعية دون التنبه إلى كونها مجرد حقائق جامدة صماء ، تستلزم حسا بحثيا يُضفي عليها التفسيرات النفسية والتربوية والخلقية اللازمة من واقع الخبرة المهنية , مما يقضي على روح البحث , وشخصية الباحث. 9- ضعف التكوين العلمي للباحث في العلوم التربوية بسبب نوعية التعليم والتدريب الذي يتلقاه في مختلف مراحل نموه وإعداده خاصة مرحلة الدراسات العليا ، والقصور الذاتي وقناعته بما حصل عليه خلال مراحل إعداده دون محاولة الاحتكاك العلمي والاستزادة والاطلاع على الجديد في مجال تخصصه ، وغياب المدارس العلمية والنموذج أو المثال العلمي وغيرها ، الأمر الذي أدى إلى غياب الأصول والقيم العلمية وغياب العقلية الناقدة والقدرة على الابتكار والتحديد والتحليل والتفسير الرؤية الشاملة ، ولعل ما يؤكد ذلك ما لاحظه الكاتب من خلال مناقشاته للعديد من رسائل الماجستير وتحكيم البحوث المقدمة للنشر في المجلات العلمية والمؤتمرات المتخصصة وحتى البحوث المقدمة للترقية من وجود أخطاء - وللأسف أصبحت شائعة – عديدة منها ما يتعلق ببناء تلك البحوث وتصميمها وتنفيذها وعرض نتائجها ، إضافة إلى وغياب التماسك الناتج عن الترجمة الحرفية المُخلة بخصائص التراكيب العربية. هذا الامر يتطلب إعادة النظر بالخطط والبرامج الدراسية في الجامعات في مرحلة البكالوريوس والماجستير والدكتوراه ، وتضمين هذه الخطط والبرامج مواد تركز على إعداد الطلبة لإتقان المهارات البحثية 10 - غياب الرؤية النقدية في البحوث التربوية والتى يمكن أن تتم من خلال معايشة الباحث لموضوع بحثه ، وان يندمج في الموقف الذي يدرسه بدرجة تمكنه من معرفة آليات وديناميات التفاعل الاجتماعي ، ومعرفة القوى الاجتماعية المرتبطة به وتبنى آليات ، يفقد العمل الاكادبمى قيمته وأهميته. 11- هيمنة البحوث التي تتعلق بالفرضيات الارتباطية والفرقية على حساب الفرضيات السببية والشرطية ، حيث يشير تحليل واقع البحوث التربوية إلى أن الفرضيات الارتباطية والفرقية هي أكثر الفرضيات المهيمنة على الأبحاث التربوية العربية لبساطة التنظير من جهة والسهولة النسبية لاختبارها امبريقيا وتجريبيا من جهة أخرى ، وهو ما أسهم كثيرا في التقليل من اهمية نتائج تلك الدراسات وجدوها وقدرتها على تفسير الظاهرة التربوية . وتبقى الفرضيات الشرطية والسببية هي الفرضيات التي تفتقر إليها الساحة التربوية اقدر على استيعاب ثراء الواقع التربوي وتحليله وتفسيره. وللحديث بقية
أستاذ ورئيس قسم أصول التربية ووكيل كلية التربية– جامعة المنوفية عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.