يكاد الرأي العام في العالم اجمع يستقر علي ان البحث العلمي هو احدي وظائف ثلاث للجامعة، أيا كان المكان، وأيا كان الزمان، حيث يشكل "التعليم" و"خدمة المجتمع" وظيفتيها الأخريين. لكن البعض ريبما يقول بأن البحث العلمي ليس وظيفة اساسية في الجامعات، وإنما تشكل مراكز البحث العلمي نبعه الاساسي، من حيث تفرغها لهذه المهمة، بينما الجامعات تكاد تنشغل بالدرجة الاولي بمهمة "التعليم". وهذا الرأي علي الرغم مما قد يبدو عليه من بعض وجاهة، إلا إنه لا يصمد طويلا امام المناقشة، ذلك ان مهمة التعليم في الجامعة لابد من ان تعتمد بدرجة اساسية علي البحث العلمي، صحيح ان مستوي المعرفة الذي نقدمه للطلاب هو ادخل في باب المعرفة المدرسية، أي تلك التي استقر الرأي عليها واصبحت معروفة وشائعة في الاوساط العلمية لكن ما يكشف عنه البحث العلمي، احيانا ما يؤدي الي تغيير هذا المستوي الذي نقدمه للطلاب، ولو سقت مثالا علي ذلك مما اعلم مما يدرس بكليات التربية، فسوف نجد ان التقدم في البحث التربوي والنفسي، دفعنا لان ندخل العديد من الموضوعات، بل والعلوم المستحدثة لطلاب مرحلتي الليسانس والبكالوريوس، مثل علم النفس المدرسي وعلم النفس المعرفي وتعليم الكبار وتكنولوجيا التعليم والتربية الخاصة، وغيرها. كذلك فإن خدمة المجتمع لم تعد مجرد تنظيف للشوارع وردم البرك والمستنقعات ومحو الامية، مما كان شائعا من قبل، فقد ادت حركة البحث العلمي ايضا الي تقديم برامج متطورة جديدة للجمهور العام، مما يقدمه التعليم المفتوح، شريطة أن نخلي من اذهاننا الصورة المشوهة له التي تقدم في جامعاتنا، حيث يكرر ما يقدم داخل الكليات، وبالتالي لا يدخل هذا في مجال خدمة المجتمع، بينما ساحته تتسع كي يقدم صورا من التعليم متعددة، لا يشترط فيها الحصول علي الثانوية العامة مسبقا، ولا عددا محددا من السنوات وانما لكل برنامج مدته الزمنية التي قد تصل احيانا الي بضعة اشهر. ثم ان القائمين علي مراكز البحث العلمي هم انفسهم يحصلون علي مقومات تكوينهم واعدادهم في البداية في الجامعات في اغلب الاحوال للحصول علي درجتي الماجستير والدكتوراه. ومن هنا، فاذا كان من الصحيح الشائع ان يقال ان التعليم هو قاطرة المجتمع للنهوض الحضاري، فمن الصحيح كذلك القول بأن التعليم الجامعي هو قاطرة النهوض بالتعليم علي وجه العموم بل ومن الاصح ان نضيف الي هذا وذاك ان البحث العلمي في الجامعات هو قاطرة النهوض بالتعليم الجامعي نفسه. وللبحث العلمي في الجامعات قنوات أساسية لعل من ابرزها رسائل الماجستير والدكتوراه التي يقوم بها باحثو الدراسات العليا، سواء من معاوني اعضاء هيئة التدريس "معيدين ومدرسين مساعدين" أو من باحثين من خارج الجامعة. وثاني القنوات، البحوث التي يقوم بها اعضاء هيئة التدريس للترقية غالبا الي استاذ مساعد أو استاذ، وان لم يخل الامر من بحوث ودراسات يقوم بها اساتذة لاغراض مختلفة، ليس من بينها الرغبة في الترقية بطبيعة الحال. فاذا ما تأملنا الحال بالنسبة للقناة الاولي الخاصة برسائل لماجستير والدكتوراه، مرجئين تناول القناة الثانية الي مقال آخر، فلعل احدث مظاهر المحنة فيها هذا التزايد المستمر في المصروفات المطلوبة من كل باحث سنويا بحجة ان هذا المستوي من الدراسة صورة من صور "الترف" التي لا ينبغي ان تتحملها الدولة، ويكفيها تحمل مجانية تعليم المرحلة الجامعية الاولي. ووجه الفساد في هذه المقولة ان البحث العلمي علي هذا المستوي ليس ترفا بأي حال من الاحوال، ولا يرتد عائده الي الفرد وحده وانما هو بالضرورة عائد الي المجتمع مما يوجب ان يتحمل الجزء الاكبر من التكلفة، خاصة ان المسجلين للماجستير والدكتوراه لا يكلفون الجامعة إلا قدرا ضئيلا، حيث تسير معظم كلياتنا وفق نظام الرسائل فتقل المحاضرات الي حد كبير، وان كان النهج الامريكي قد بدأ يزحف كذلك علي هذه الساحة شيئا فشيئا بتقرير بعض العلوم المساندة. ومن ناحية اخري فالمتخرج الحديث لا يجد عادة عملا عقب تخرجه، بل ربما يظل عاطلا عدة سنوات، ومن ثم يكون اكثر تفرغا للبحث العلمي، فضلا عما يتم من استثمار للفراغ الطويل في جهد يفيد الخريج كما يفيد المجتمع. وهو اذ يعاني من البطالة يعجز عن تحمل المصروفات المتزايدة، فينصرف عن هذا الطريق، فنخسر الامرين معا النقود التي كنا نأمل تحصيلها منه، وطاقته التي كان يمكن ان نستثمرها في البحث العلمي. وفي الوقت الذي تتجه فيه الكثرة الغالبة من الجامعات في مختلف انحاء العالم الي توسيع رقعة الحرية الاكاديمية للطلاب بأن يكون لهم حق اختيار ما يدريون، وفقا للموعد الذي يناسبهم، ولدي الاستاذ الذي يرغبون في التعلم علي يديه، اذا ببعض الكليات تسير وفق منهج غريب، لم يكن قائما حتي منذ قرون فيما يسمونه العصور الوسطي، سواء شرقا أو غربا ويكفي ان نشير الي ما كان يتم من تعليم في المساجد الكبري في العالم الاسلامي حيث كان الاستاذ يجلس ليقوم بالتعليم لمن يجيء حرا مختارا، فيكون هذا اختبارا علميا حقيقيا يكشف عن الاستاذ الراسخ في العلم من غيره الهش مجرف العقل والثقافة، ومن هنا كنا نجد حلقة علمية مزدحمة وحلقة اخري قليلة الطلاب، مما كان يضطر هذه النوعية من الاساتذة الي الاقلاع عن التعليم متمثلين الحكومة وإذا بليتم فاستتروا. ففي هذه الكليات المشار اليها يتقدم الطالب بخطته للماجستير أو الدكتوراه دون ان يكون له حق اختيار المشرف الذي يتعلم علي يديه، مع ان العلاقة بين الباحث والمشرف مفروض ان تقوم علي التوافق المشترك والرغبة التي لا تجد كتابا في العلوم التربوية والنفسية إلا ويردد دائما ان افضل تعليم هو الذي يقوم علي الميل والرغبة، وان حسن العلاقة بين المعلم والتلميذ هي الف باء التعلم والتعليم، بينما هنا يرتفع شعار مشرف رغم انفه والانف المقصودة هنا هي انف الباحث المسكين الذي قد يوقعه حظه العاثر من براثن من يسومه سوء العذاب، الذي غالبا ما لا يكون علميا والا فمرحبا به وانما هو العذاب الانساني بالدرجة الأولي. ويرتبط بهذا القهر والارغام هذا النظام الذي تقرر لهدف نبيل ألا وهو ألا ينفرد استاذ بالاشراف علي الرسالة وانما لابد من مشاركة آخر حتي تتعدد زوايا الرؤية، ولا يقع الباحث في يد واحد قد يكون متساهلا اكثر من اللازم أو متشددا اكثر مما ينبغي، لكن هذا الهدف النبيل ينقلب من نعمة الي نقمة عندما لا يتم بالتوافق ايضا حيث قد تكون العلاقة بين الاثنين علي غير ما يرام، فيتعمد احدهما ان يشاغب ويعطل ويضع العقبات ويصور نفسه انه هو الاعلم والادري وانه هو الاحرص علي القيم العلمية بينما غيره عنده غرض أو متسيب وغير دقيق. ولان اساتذة الجامعات لابد ان يصيبهم ما اصاب الجمهرة الكبري من ابناء هذه الامة من حيث تعدد الوظائف والمهام والمسئوليات والجري هنا وهناك، اصبح الاستاذ في غالب الاحوال مشغولا عن طالبه الباحث الذي لا يكاد يعثر عليه الا بالكاد، والويل لهذا الباحث ان اشتكي من انه انتظر مثلا ساعة وساعتين "بعد الموعد الذي حدده الاستاذ" وما له يا أخي هوه انت اشترتني؟ ما ياما انتظرنا واحنا صغيرين.. انتوا عايزين تخدوها بالساهل.. الي غير هذا وذاك من عبارات تجرح ولا تربي، تصيب ولا تداوي. والغريب ان نجد بعضا ممن هم بالفعل اصحاب مشاغل ومهام كثيرة متعددة، مما يشير الي تميز خاص لديهم ورغبة من جهات عدة للاستفادة منهم، لكن السؤال الذي يفرض نفسه علي الفور: اذا كانوا يعرفون ان هذا حالهم، فلم يستمرون في التكاليف والتزاحم والاستحواذ علي هذا وذاك؟ ان اسوأ ما يمكن ان يترتب علي هذا وذاك هو الا يجد الباحثون اساتذة يتفرغون لهم قراءة وارشادا وتوجيها وتواصلا اجتماعيا وانسانيا، وربما لجأ هؤلاء، وهم الكثرة الغالبة اليوم في جامعاتنا، الي ان يستغرق الباحث معهم ضعف الفترة التي قدر ان يتم فيها الباحث الرسالة، وان كان هناك باحثون يتحملون بدورهم المسئولية في تلكؤ واهمال، غالبا ما يكون بسبب هموم المعيشة التي تكاد تأخذ بخناق الجميع حقا. والاخطر من ذلك ربما ما قد يحدث من ان يحيل الاستاذ المنشغل، العمل الي آخر، مما قد لا يكون اهلا لذلك، ومن ثم لا يتيح له فرصة التوجيه والتكوين المفروضين، فهو يؤدي عملا "سرا" وهو لا يؤجر عليه، وربما تأخذه العزة بالاثم فيميل الي استعراض عضلاته الهشة علي الباحث المسكين ولو من وراء ستار. واذا كانت هناك بعض الاقسام في كليات تعرف حدودا واضحة بين تخصصاتها، بحيث يصبح من المعلوم ان البحث "أ" لابد ان يكون مشرفه فلانا أو علانا، كما نجد - علي سبيل المثال - في اقسام الفلسفة في كليات الآداب، فهذه فلسفة يونانية، وتلك فلسفة اسلامية، وهذه فلسفة غربية حديثة وتلك فلسفة عصور وسطي، وهذا متخصص في المنطق ومناهج البحث. وهكذا لكن هناك اقسام أخري لا تعرف هذا التحديد علي وجه الدقة واليقين ، فاذا بكل عضو هيئة تدريس يفتي في كل موضوع، وتتفرق دماء الرسائل بين القبائل، وهو الامر الذي يتناقض تماما مع فلسفة التعليم الجامعي علي هذا المستوي الذي يقوم علي التخصص، بينما لم يغفل المثل الشعبي عن هذا المعني عندما قال "اعط العيش لخبازه ولو كل نصفه" حيث المثل السائد هو الذي يعبر عنه وصف البعض بأن الواحد منهم يري في نفسه "أبوالعريف". وفي هذه الاقسام ذات التخصصات التي لا تجد بينها "حدودا آمنة ومعترفا بها". حسب التعبير السياسي الشهير، نجد ظاهرة مثيرة للاسي، فعندما يتولي رئاسة القسم احد المتخصصين في التخصص "ب"، نجد الكثرة الغالبة من البحوث والرسائل سواء عمدا أو بغير قصد، لتدور في فلك هذا التخصص بالذات، واقول ربما لا يكون هذا مقصودا من المسئول، ذلك لاننا قوم نتمثل جيدا الحكمة القائلة: ان دخلت بلدا ورأيتهم يعبدون عجلا حش وارم له!! فضلا عن القول السائر "الناس علي دين ملوكهم". وهذا يحدث نتيجة لغياب التفكير الاستراتيجي الذي يتسم بدرجة عالية من الحساسية المجتمعية، فيسعي الي استشراف المستقبل وتدبير الامور في الحاضر بحيث تسير في الاتجاه المأمول وفق خريطة منهجية مدروسة، وهو ما يتمثل في توافر خريطة بحثية لا تخضع لاتجاه هذا أو ذاك، ووجود هذا أو ذاك علي رأس العمل. ونتيجة لاسباب متعددة تتصل بتدهور مخيف في اللغة العربية لدي متعلمينا، حتي علي هذا المستوي، تغيب المعاني الدقيقة والتحليلات المفسرة لعجز مباحث عن امتلاك الوسيلة الاساسية الا وهي التعبير اللغوي. والمحزن حقا ان تجد الجهود تبذل، والمتابعة لا تغفل عن حتمية معرفة باحثينا باللغة الانجليزية وهو امر لا يمكن القول بخطئه بأي حال من الاحوال لكنه يصبح كذلك بالفعل ان لم يواكبه حرص مماثل علي اللغة الام.. لغة الامة والثقافة الذاتية والهوية القومية، ولعل خير ما يعبر عن ضرورة هذا التلازم قول احد الباحثين النابهين ممن تخصصوا في الانجليزية انه يعكف علي دراسة اللغة العربية حتي يستطيع ان يفهم الانجليزية جيدا!! انها بعض لمحات، وهناك غيرها، لا أظن انها تغيب عن الكثرة من المهتمين والمسئولين، لكن ما يغيب كالعادة هو "العزم" وقبل ذلك "الرغبة" في ان يتغير الحال الي ما هو افضل، وهذا الذي هو افضل لا يدخل ابدا في باب المستحيلات، لكنه الركود القومي العام، قد امتد ظله ليشمل العقول الباحثة.