الرأس الذي أقصده هنا هو العقل الذي خص به الله الإنسان حين تحمل الأمانة والتكليف بوصفه الكائن القادر علي الالتزام بالمسئولية الكونية, معني ذلك أن قوامة الإنسان في الكون. تتصل اتصالا وثيقا بإعمال العقل أو بالقدرة علي الاكتشاف, لذلك كان الخطاب الإلهي محفزا علي النظر والرؤية والتأمل وقراءة كتاب الطبيعة الحافل بالأسرار وفهم الكلمة السامية الدافعة إلي التحضر من هذا المنظور لا يعد البحث العلمي ترفا زائدا عن حاجة المجتمعات النامية منها بخاصة كما هو الحال في عالمنا الثالث وإنما هو ضرورة حيوية تصل إلي حد الواجب الوطني والديني لأنه صادر عن رؤية إيمانية بقيمة التفكير الذي تحدث عنه أستاذنا عباس العقاد بوصفه من أساسيات الإيمان ومقومات الشخصية السوية سواء أكانت هذه الشخصية فردية أم جمعية. وقد أشار الأستاذ أنيس منصور في زاويته اليومية بالأهرام مواقف بحق إلي أزمة البحث العلمي في العالم العربي وبخاصة من حيث الاعتماد الذي تخصصه له الميزانيات العامة أو من حيث دخل الأساتذة العلماء في الأكاديميات الجامعية أو مراكز البحوث, وهذه مشكلة قومية يجب أن يكون لها حل تقوم به الحكومات بمساعدة المؤسسات الاقتصادية في السوق العربية بمعني أن تتبني شركات القطاع الخاص بعض أنشطة البحث العلمي المتعلقة بمجال عملها الصناعي, التجاري لتطوير آليات إنتاجها بصورة مباشرة أو غير مباشرة لأن تحديث المنظومة الاجتماعية العربية بسياق علمي له مصداقية سواء علي المستوي التقني أو علي مستوي الخطاب والتعامل والسلوك والثقة في الغد تعد الضمان الفعلي لوجود أساس مدني حقيقي يشعر فيه رجل الأعمال بالأمان ويرقي بمنتجه في سياق المنافسة العالمية, فلكي تكون منتجا في منظومة عابرة للحدود لابد من تفعيل مفهوم الجودة الذي يعد الآن السبيل الوحيد للبقاء في فضاء عالمي له معايير أساسها العلم, ولا نبالغ حين نقول ان مفهوم الجودة يلتقي بشكل مباشر مع مفهوم الإتقان الذي نتحدث عنه في خطاب الاستنارة, فهو ليس بغريب عنا بل هو محوري في الرؤية الايمانية للسلوك الانساني أيا كانت مجالاته. وإذا كانت الميزانية المخصصة للبحث العلمي من الأسباب المحورية في أزمته أو أزمة العقل العربي فإن الإدارة أيضا عامل مهم في الارتقاء بالبحث أو انخفاض مؤشره البياني كما وكيفا, لأن الادارات البيروقراطية القائمة علي أساس مركزي تعوق الحركة العلمية أيما إعاقة, فلكي ينتظر الباحث قرارا ما تمر الأوقات هدرا ويصاب بالاحباط نتيجة اهتمام المسئول بأمور أخري تضمن له بقاءه في منصبه إذا لم نضع حسن النية في الاعتبار أو علي أقل تقدير تكون هناك أمور إدارية أخري أمام أصحاب المناصب العليا الذين يضاف إلي مهام عملهم إصدار قرارات خاصة بالبحث, فالمؤسسات البحثية لا تتمتع باستقلالية وإنما هي في غالب الأمر نقطة هامشية في الجهاز الرسمي. هذا بالطبع مايجعل الرأس العربي يهاجر إلي الغرب فيجد الادارة العلمية المتخصصة التي تعي قيمة الوقت وحرية العالم وتقدر الانجاز الذهني وتضع أمام العلماء الأدوات التي يتطلبها عملهم وتوفر لهم الاستقرار المادي والاجتماعي فيتحقق الاستقرار النفسي. إن الباحث لا ينجز إلا في حالة الاستقرار هذه التي يفتقدها كثيرا في مجتمعاتنا ولكي نتصور السلوك اليومي لأستاذ جامعي في عالمنا العربي سنشعر بالرثاء إذا نظرنا الي حالته بوصفها مأساة أو سنضحك من أحوالنا التي تتجسد أحيانا في صورة الكوميديا السوداء فالأستاذ عليه أن يكون مدرسا وباحثا وإداريا ومشرفا علي الأسر الجامعية وموجها في رعاية الشباب ولأن دخله لايمكن أن يغطي متطلباته فعليه أن يخرج من جامعة إلي جامعة, حتي لقد شبه البعض من زملائنا كثيرا من الأساتذة الجامعيين في عصرنا الحاضر بتاجر الشنطة ولكي يعد الأستاذ أبحاث ترقيته عليه أن يتحمل تكاليف المادة والمعامل والطبع والنشر, فالسياق من حوله يؤكد له أن أبحاث سيادته أمر يخصه وحده لأنه هو الذي سيترقي بها ويحصل بعد الترقية علي مبلغ يناسب بالكاد شراء طبق سلاطة خضراء في مطعم متوسط الحال. هذه المأساة لا تحدث عندنا فقط بل في معظم العالم الثالث التي يكاد يحدث لها ما يمكن أن أطلق عليه التفريغ العقلي الذي يشبهه بعض أدباء أمريكا اللاتينية باستئصال الرءوس من البلدان النامية ليصبح العالم الثالث جسدا بلا عقل وتلك كارثة لأن العقل هو ميزان الأمم ولعل ما نلمسه الآن من تصاعد نبرة الانفعالية في الخطابات وعدم القدرة علي رؤية الآخر والفشل الاجتماعي والاستهلاك الغريزي يكون كله مرتبطا بسياق أهمل العقل إلي حد كبير, فالأمراض الاجتماعية والنفسية يعود كثير منها إلي الفقر الفكري الذي باتت تعاني منه دول العالم الثالث نتيجة هجرة العقول من جهة ولهث العلماء خلف لقمة العيش من جهة ثانية وعدم وجود شخصية علمية للمؤسسات نتيجة فقدان عناصر الاستقرار البشري والاقتصادي والاداري من جهة ثالثة, فالعالم الذي يعمل هنا اليوم يأتي إليه عرض من جهة أخري فيترك المكان سعيا خلف الارتزاق, فقد أصبح مثله مثل العامل في البناء أو السمكرة وهي مهن نحترمها ولكنها تعاني من المشكلة نفسها وهي مشكلة فقدان حالة الاستقرار التي تتشكل فيها المدرسة وترقي بها سبل الصنعة, وهكذا حال البحث العلمي يفتقد الآن الشخصية التي يمكن أن تميز كل أكاديمية وكل هيئة, ففي الوقت الحالي لم نعد ننظر الي الجامعات في عالمنا العربي إلا بوصفها مدرسة تخريج أصحاب المؤهلات ونبحث عن الجودة في هذا المجال فقط مع أن الوظيفة الأساسية للجامعات هي وظيفة بحثية في المقام الأول ويكفينا مانري من أصحاب مؤهلات علي الورق لم يقرأ أحد منهم كتابا وإنما كان سلاح التلميذ بالنسبة لهم هو الملازم مجهولة النسب مبتورة المادة عامية اللغة.